الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ثلاثة رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(40)

ثلاثة رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(40)

ادريس هاني

ذهب جيمس مور – وهو مؤرخ علم بريطاني من جامعة كومبردج – إلى أنّ داروين يعتقد بالصّلة القائمة بين الهجرة والتّحوّل حين يتأمّل الأنواع الدخيلة التي تزاحم الأنواع الأصيلة..ففي الطبيعة أيضا يوجد دائما غرباء يحلون محل السكان الأصليين..وحسب داروين فإنه حيثما سلك الأوربيون يلاحق الموت السكان الأصليين..يرى ذلك ويعتبره تماما شيئا مماثلا لما يقع في عالم الحيوانات حيث الأقوى يقتلع الضعيف.. كانت في نظر مور أهداف “بيجل” ، وهي السفينة التي حملت دارويين في رحلته الاستكشافية، ذات أهداف رأسمالية لخدمة التاج البريطاني والتجارة، حيث حمل “فيتزروي” معه 31 شخصا من السكان الأصليين الذين اعتنقوا المسيحية من أجل تأسيس أول بؤرة انجليكية في تييرا ديل فوجو..كان البريطانيون شبه مجمعين على أنّ الرّب اصطفى بريطانيا لتؤدّي رسالة إعمار الأرض..كانت حركة التوسع ماضية..والمالتوسية مخيمة على المشهد..سوف ينتهي عالم “لييل” عند انقراض الأنواع التي فقدت القدرة على التكيف، بينما سيكون العالم الجديد الذي أنشأه دارويين يقوم على إمكانية استمرار تلك الأنواع إذا استطاعت أن تهاجر وتتكيف مع البيئة الجديدة..أمّا تلك التي انقرضت فلأنها عجزت عن الهجرة..الهجرة أولا ثم التكيف..يضرب مثالا بنقل الإسبان للكاردون من إسبانيا إلى الأورغواي، حيث يمكنك أن ترى انتشار هذا النبات بكثافة وهو بمثابة غزو كبير على حساب السكان الأصليين..ملفتا إلى أهمية دراسة الحرب بين الكائنات ..

يقول مور بأنه منذ ذلك الحين أصبح الانتخاب الطبيعي قابلا للتطبيق في عالم بني البشر حيث واصلت بريطانيا حملاتها الامبريالية..لاحظ مور العبارات التي كان يستعملها دارويين في أصل الأنواع كالاستعمار والقهر والهزيمة لأبناء البلد والسكان الأصليين..تساؤله لماذا تهاجر نباتات أكثر من الشمال إلى الجنوب وليس العكس..وطبعا سيعزو ذلك لتفوق أنواع الشمال على أنواع الجنوب..

.سيتحدث بوضوح أكثر في مذكراته هن رحلته في بيجيل عن أن الأنواع البشرية تسلك ذات الطريق الذي سلكته الأنواع الأخرى حيث القوي يقضي على الضعيف.. تبدو فصائل النباتات الجنوبية شبيهة بالسكان المتوحشين هناك مدفوعين دائما لصعود الجبال من أجل البقاء..في كتابه سلالة الانسان يبدو الأمر أكثر وضوحا..الإنسان الأكثر انتشارا هو الأقدر على التكيف والسيادة..مثال الانجليز المتفوقين كمستعمرين للأمم الأوربية..نجاح الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاعت فتح قارة بأكملها..سوف تعمل الأجناس المتحضرة من البشر على إبادة كل الأجناس البربرية والقردة أشباه الإنسان لتحل محلهم..بالنسبة لمور وقد قارن بين داروين ووالاس يعتبر أنهما معا عززا العلاقة بين الجغرافيا السياسية وجغرافيا الحياة ولكن كل منهما بطريقته…يركز مور على الفارق الطبقي دائما للرجلين: كلاهما كانت الجغرافيا البيولوجيا تكتسي عنده طابع الجغرافيا السياسية، أحرزها ولاس بالقوارب المحلّية بينما أحرزها داروين بسفينة هيدروغرافية موّلها أبوه الثّريّ..في وجهته إلى الشرق الأقصى حمل والاس معه ذات الكتاب لـ”لييل”: مبادئ الجيولوجيا بينما حمل طبعة من كتاب دارويين الذي نشره في سلسلة :المستعمرة والوطن..إن والاس سيبدأ جغرافيته البيولوجيا من حيث بدأ دارويين نفسه حسب مور دائما..سهّل الاستعمار أيضا المهمة الميدانية على والاس الذي اعتبر المستكشف الوحيد الإنجليزي الذي يعيش وسط السكان الأصليين ويعتمد مهاراتهم ويتجنب قدر الإمكان استعمال لغة الإمبريالية التي استعملها دارويين في تصويره نظرية التّطوّر..سنقع على ذات الفكرة لكن بلغة تراعي المحلّي..هناك توزيع للأنواع عبر القارات ساهم في تغيير الحياة..المسألة عند والاس تتوقف على الغذاء ونوعيته..الإمداد الغذائي هو من يساهم في استمرار الأنواع. الأنواع الأقوى هي من يحل محل من لم يعد منها قادرا على الحصول على الغذاء.يمنح والاس لمبدأ التكيف دورا أساسيا هنا خلافا للانتخاب الطبيعي..يشير مور هنا إلى أنّ هذا الخلاف سيصبح أكثر عمقا حين عاد والاس إلى لندن وقرأ أصل الأنواع الذي لم تزعحه لغته االإمبريالية غير أنه كتب بعد ذلك مراحعة في التّاريخ الطبيعي وفيه أبرز الكثير من التناقضات التي تحتاج إلى مزيد من التوضيح ، مشيرا أيضا إلى اختلاف الأنواع الأصيلة عن الدخيلة في ستة مناطق، وفي هذا يستشهد مور بنصّ لوالاس في حديثه عن الخنافس:” كانت هناك حشرات قديمة في الجزو الأسترالية-الملاوية والتي توافقت في توزيعها مع الفئات الأخرى من الحيوانات، ولكن تم سحقها وربما إبادتها في بعض الحالات من قبل المهاجرين من البلدان المجاورة(…)ولكن ليس ثمة ضرورة لأن يتقيد علماء الطبيعة بالقاعدة نفسها كالسياسيين، فقد يسمح لهم بالتعرف على مزاعم الكثير من السكان الأصليين وجمع آثار الأجناس التي تمّ محوها. ويجب أن ينظر إلى السكان الأصليين لا إلى الوافدين على أنهم الملاك الشرعيون للأرض، وينبغي تحديد موضع بلادهم في نظامنا من علم الجيوان الجغرافي”..

سيحتدم النقاش الذي فجره والاس مقابل دارويين وأنصاره حيث رفض والاس حالة التمييز المحلّي معتبرا أنّ الأجناس البشرية تنتمي إلى أسرة واحدة ويعزوا التنوع المادي إلى الانتخاب الطبيعي الذي يحفظ انسجام المجموعات مع المحيط..فالخصائص العقلية والأخلاقية تأتي بعد نشأة الخلافات المادية..لكن والاس لا يختلف عن داروين في تفوق الإنسان العاقل واحتلاله للمساحات التي انقرض فيها النوع البدائي الذي استسلم..ثمة نص آخر يورده مور عن والاس في وصفه لرحلته لماليزيا يؤكد فيه على أن عملية تنظيم المجتمع متحضرة وخالية من كل شوائب التقدم على النمط الغربي الذي يثير الصراع والتنافس على الرغم من أنه هنا النظام مثمر..لكن العبارة المهمة هنا هي حين يقول والاس:”وبذلك تخلو البلد من أعمال التحريض وارتكاب الجرائم الكبرى(…) وذلك بسبب تأثير الرأي العام جزئيا وكمنيجة للحس الطبيعي بالعدالة وحقوق الجوار بشكل رئيسي، والذي يبدو فطريا بدرجة ما في الجنس البشري بأكمله”..

يعتد مور على نص لإنجلز حيث يؤكد على طبيعة الخلاف بين والاس ودارويين نتيجة انتماء والاس للعصر الفيكتوري الذي يتيح هذا النوع من الخلافات ، وهو الخلاف الذي سيحجبه ذلك التماهي بين والاس ودارويين مع الروح الاستعمارية المهيمنة حينئذ..بالنسبة إلى مور فإنّ والاس بما أنه لم يكن بحارا وكان مساحا للأراضي فقد كان مختلفا عن دارويين ، هذا الأخير في نظر مور جعل الإنجليز مثالا للأنواع الغازية والمتكاثرة والمتطورة، بينما لم يكن والاس ميّالا للإمبريالية في نظر مور، فهو يعتبر تأثير بريطانيا في الخارج أقرب للفساد منه للتمدن..والمسألة الأساسية هنا وخلافا لدارويين في نظر المؤرّخ ذاته، اعتبر عالم الإنسان كسائر الأنواع يرى والاس بأنّ البشر لا يتصرفون كالكائنات الحية الأخرى ، بل هم يمتلكون إرادة حرّة ..

هذا ملخّص لرؤية مؤرخ العلم جيمس مور الذي ربط بين الجغرافيا البيولوجية والجغرافيا السياسية عند كل من داروين ووالاس..والاس الذي كان له فضل كبير على داروين لا سيما في الانتخاب الطبيعي، ومسألة الهجرة حيث هو صاحب نظرية التبادل الأمريكي العظيم (Great American Interchange)، النظرية التي تنطبق على مجالات أخرى من الجغرافيا الطبيعية في أقاليم أخرى..إنّ الربط بين الجغرافيتين هو في الحقيقة يضعنا في صلب وجوهر العقيدة الإمبريالية..ليس الحديث عن الداروينية قضية علمية مجردة بقدر ما يتعلق الأمر بوظيفة للأفكار الداعمة والمشرعن لمبدأ الغزو…..يتبع

ادريس هاني:

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *