الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ذروة الإمبريالية(46)

ذروة الإمبريالية(46)

ادريس هاني

لقد قام النظام الدّولي منذ البداية على أساس التمييز والقوة والإهانة..إنه المخرج الأساسي من مخرجات الحرب العالمية الثانية.. لم يتراجع بل هو يسلك طريقه الداروينية نحو الذروة الإمبريالية..يحصل أن تعرقل طريقه مقاومة الأقطاب الصاعدة، لكنه يسلك نحو أهدافه القصوى بذات الأساليب..وكلّما تفردت الإمبريالية ازدادت سعارا واعتمدت أسلوب الإهانة أكثر..وكما رأينا مع برتراند بادي في زمن المهانين، سنجد وبشكل أوسع وأعمق مفهوم الإهانة في أعمال ومشاريع خبير المستقبليات والعلاقات الدولية المغربي د. مهدي المنجرة، وهي فرصة للحديث عن بعض ما أحاط بهذا المناضل الثّالثي وآرائه التي تكاد تكون مجهولة في مساحات كثيرة من التسطيع الأونتي-إمبريالي نفسه، حيث بدأ نشاطه من داخل المؤسسة الأممية التي عمل فيها مستشارا..كتب عددا من الأعمال تدور حول أزمة القيم في النظام الدولي ووضعية الإهانة: الإهانة في زمن الميغا-مغالطة، انتفاضات في زمن الذّلقراطية..سجل حافل بالنشاط الأممي والبحث في مستقبل الأمم..عيّنه روني ماهو المدير العام لليونسكو في سنة 1962 مديرا عامّا لديوانه.. أشرف على الكثير من المشاريع الثقافية في اليونسكو ليس آخرها قبيل غزو العراق إشرافه على كتاب للأمم المتحدة عن التاريخ الثقافي والحضاري للعراق..قدم مع زميلين له التقرير الثاني لنادي روما – حيث كان أصغر عضو في هذا النادي – في 1979 بعنوان:”لاحدود للبحث والدراسة”..كتب دراسة عن أهمية النموذج الياباني في التنمية بالنسبة لدول العالم الثالث، وعليه سلّمه الأمبراطور الياباني وسام الشمس المشرقة الوطني..بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية بعد رفضه التجنيد والانخراط في الحرب على كوريا هاجر في بداية الخمسينيات إلى لندن حيث سيقدم أطروحته الجامعية حول ” الجامعة العربية، البنية والتحديات”..وسوف يؤلّف في السبعينيات كتابا عن نظام الأمم المتحدة سيكون سببا في خروجه من الأمم المتحدة متخليا عن كل حقوقه..هذا يعني أننا أمام موظف وخبير أممي شاهد على انهيار هذا النظام لا سيما تنكره للقيم الإنسانية..

حين كان مهدي المنجرة يدين الأمم المتحدة بأنها تعمل وفق نظام القيم اليهودية المسيحية، فلأنّه كان يقصد بذلك أنّ المؤسسة الأممية عاجزة عن تحقيق مبدأ حوار الثقافات في صميم مشروعها، يظهر ذلك في الحصار الذي تفرضه من خلال آليات اشتغالها على الثقافات الأخرى الأفريقية والأسوية..لقد فقدت مصداقيتها نهائيا..فالأولوية هنا للقيم، وكما ذكر المنجرة في طاولة مستديرة بروما حول علاقة الشمال -الجنوب بأنّ الشمال كان قد بذل جهدا قليلا في التعرف على لغة الجنوب، معتبرا أنّ أزمة الشمال -جنوب هي أزمة النظام العالمي برمته ومن هنا التأكيد على منح الأولوية لنظام القيم..لقد كان مهدي المنجرة واعيا بلعبة اللغة والإعلام، فقد تولّى إدارة الإذاعة والتلفزيون أثناء تأسيسهما في المغرب المستقل..وهو يرى هنا قبل سنوات بأنّ الحرب القادمة هي حرب كلمات، أمّا ما يقلق الغرب في نظره ، فهو ثلاثة هواجس كما ذكر في 1980 في برنامج حول المستقبليات في التلفزة الفرنسية: الديمفرافيا، الإسلام، اليابان..سيدخل تعديلا فيما بعد أو بالأحرى سيرصد تحول في تلك الهواجس حيث سيتغير الهاجسان: هاجس الديمغرافيا الديسيصبح هاجس الهجرة، وهاجس اليابان الذي سيصبح هاجس الصين، بينما بقي الهاجس من الإسلام ثابتا وسوف يتم إدانته بالإرهاب وخلق حالة الإسلاموفوبيا..طبعا سندرك فيما بعد أنّ هذا الهاحس هو من سيكون وراء صناعة الجماعات الدينية المنفّرة لكبح هذا الهاجس – للأسف مهدي المنجرة رحل قبل أن يتحدث عن الواقع اليوم ولكنه تنبّأ بالكثير مما سيحدث بناء على رؤيته الاستشرافية: كالحرب القادمة على سوريا واليمن، وعن الخاسر الأكبر في كل هذه المعارك: الخليج وما شابه ذلك -، إنّ هذه الحرب تبدأ بالكلمات حين سخر الإعلام لربط الإسلام بالإرهاب وذلك من خلال ما أسماه بالإرهاب اللغوي والإعلامي، يحدث هذا في الوقت الذي تتكرر كلمة السلام في العالم الإسلامي حيث تنطق مليار مرة في الساعة أي 17 مليون مرة كل دقيقة..يقول بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية صرفت حوالي 600 مليون دولار في الشرق الأوسط خلال سنة واحدة على هذه الحرب بينما الخاسر الأكبر في حرب الكلمات هو المجتمع الدولي الذي فقد كل مصداقية..فقد اعتبر الحرب على العراق يومئذ في صميمها حربا ضد القيم غير المسيحية واليهودية..وقد سمّاها لسبب آخر الحرب الحضارية الأولى التي كانت تستهدف التراث اللاّمادي للعراق وتحركها أهداف أبعد مما نتصوّر..بينما دشنت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عهد الحكم بالخوف ” الفوبقراطية”، الخوف الذي ندفع ثمنه غاليا حسب المنجرة، حيث صرفت 400 مليار دولار سنويا كاستثمار ضدّ الإرهاب الذي لم يخضع حتى اليوم لأي تحديد قانوني دولي مقبول حيث يستثني إرهاب الدولة..صحيح أنّ هنتنغتون استعمل ذات العبارة التي استعملها مهدي المنجرة في حوار هذا الأخير مع ديرشبيغل الألمانية التي وضعته في الغلاف: صدام الحضارات، لكنه يرى أن ثمة خلافا بين استعمالهما لذات المصطلح: فهو يستعمله في إطار توجيهي بينما المنجرة حسب ما يرى يستعمله في إطار استشرافي..

إن مصير الأمم المتحدة يتجه نحو النهاية، وقبل سنوات قال المنجرة بأن كوفي عنان يقوم بعملية دفن حقيقية للأمم المتحدة في الوقت الذي تراكمت فيه ديون الولايات المتحدة الأمريكية المستحقة والتي لم تدفعها حتى ذلك الوقت لميزانية الأمم المتحدة البالغة سنة 2000 مقدار 1321 مليون دولار..

في الاستراتيجيا الجديدة التي تقوم على إعلان الحرب خارج الشرعية لم يعد هناك للأمم المتحدة أي دور سوى أن تكون تابعة، وهنا يضرب مثالا عن مفارقة لجوء الدول الغربية في اجتماع لمجلس الأمن وبسرعة غير مسبوقة على صلاحية استخدام المادة 51 من الميثاق الأممي القاضية باستخدام القوة دفاعا عن النفس، في الوقت الذي يعقد حلف شمال الأطلسي لأول مرة في تاريخيه اجتماعا لتفعيل المادة 5 من ميثاقه المتعلقة بصلاحية استعمال القوة للدفاع عن النفس..لقد بات واضحا أنّ “الأمم المتحدة تستنسخ قراراتها من الحلف الأطلسي”..

تأكيد المنجرة على أولوية القيم في تعزيز نظام الأمم المتحدة يمنح إمكانية للاعتراف بتعدد الثقافات والاعتراف بالاختلاف الذي هو أساسي في تكريس نسبية القيم الكونية وهو ما يساهم في تعزيز التواصل..يستند إلى عبارة ليدوينج فون بيرتالانفي في كتابه ” حول النظام” بأنه لا يوجد نظام إذا لم تكن له غاية، لذا يقول المنجرة بأن القيم هي في آن معا مصدر ونتاج تلك الغايات، ولهذا يؤكد المنجرة على أن الفكرة الأساسية التي استنتجها من خلال كتابه حول نظام الأمم المتحدة في 1979 هي أن هذا النظام لن يكون فعّالا إذا لم يتم التوافق على قيم مختلفة تماما عما جاء في ميثاق سان فرنسيسكو سنة 1945 حين كانت شعوب العالم غير معبّأة سياسيا..هنا نجد أن المنجرة يقدّم حلاّ يتوقّف على تعديل الميثاق، وسوف نجد هنا رؤية أبعد مدى خلافا لما تحدث عنه رولان وييل من أنّ الميثاق اليوم هو فرصة للشعوب..ليس المطلوب اليوم هو استخراج الميثاق من المدرج كما هو شعار رولان أوييل بل المطلوب اليوم كما هو تصور المنجرة كيف يجب إعادة كتابة ميثاق جديدة على أرضية قيم كونية تستجيب لتطلع الشعوب وتنوع ثقافاتها وقيمها..يبدو موقف رولان وايل إصلاحيّا في مواجهة الإمبريالية بينما يبدو موقف المنجرة ثوريّا..وهنا أميل إلى رؤية االمنجرة لأنها صادرة عن مناضل ثالثي ناضل من داخل الأمم المتحدة عارفا بكل ممرّاتها وأجنحتها، مستوعبا نظامها الذي كتب عنه وعن نواقصه وأيضا راصد للتحولات الجديدة لما أسماه بالميغا-إمبريالية وباعتباره يمتلك أيضا منافذ فكرية وسياسية وثقافيا فضلا عن القانونية لاستيعاب الحصار القيمي الكامن بين طيات المثاق..أي قيمة إذن لانتفاضة الشعوب إذا انطلقت من قيم وضعت في زمن تغييب الشعوب، وهل الشعوب سيكون دورها التّاريخي فقط أن تحدد حراكها وفق ميثاق سان فرانسيسكو؟………يتبع

ادريس هاني 4/9/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *