الرئيسية / الملف السياسي / فلسطين المحتلة / أدب 1948 بين الطمس والإشهار وتصنيع ذاكرة… لاقومية

أدب 1948 بين الطمس والإشهار وتصنيع ذاكرة… لاقومية

أدب 1948 بين الطمس والإشهار

وتصنيع ذاكرة… لاقومية

11 كانون ثاني 2011

رسالة عن أحمد حسين

عادل سمارة

من يتحكم بالسلطة السياسية يقلب امبراطوريات بأكملها، وتكتمل سيطرته بماكينة الإعلام التي تواكب مسيرته من لحظة الحلم إلى الإفتراض إلى التخطيط إلى التنفيذ وما بعده. ولكن جوهر المستويين السياسي والإعلامي هم الناس لأنهم الجهازين السياسي والإعلامي. لذا لا غرابة أن وظَّفت الصهيونية إمكاناتها المالية للسيطرة على إمبراطورية الإعلام عالمياً. كيف لا وهي لا تستطيع السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي فتعبر إليه بالإعلام، ولا تستطيع التحكم بالنظم السياسية جميعاً فتخترق الكثير منها بالإعلام كذلك. ألا نلاحظ أن روبرت ميردوخ يدخل العربية السعودية بالإعلام؟ ولم تعد هذه المسألة صهيونية فقط بل غدت مدرسة على الصعيد العالمي، ولعل أخطر مؤداها الذي علينا رؤيته أنها ترتكز على تمفصل مختلف المستويات أي الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية وحتى صناعة الذاكرة. أما الاستخدام فيخضع لمستوى أو مقدار قوة النظام السياسي ودرجة تفرُّده في مستوىً أو أكثر. فرغم قوة الماكينة الإعلامية الأميركية ورغم أنها تُستخدم دائما لتمهيد الطريق للغزو العسكري، لكن الملموس أكثر هو لجوء أميركا للبلطجة العسكرية بوضوح، بينما يلجأ الاتحاد الأوروبي للقوة الاقتصادية ولاحقاً تفعل الصين.

هذه المقالة معنية أكثر بالإعلام وصناعة بل تصنيع الذاكرة عن الشعر والأدب في الأرض المحتلة 1948. لهذه المسألة، تصنيع الذاكرة عموماً، ثلاثة مكونات: الوجود المادي الموضوعي، والصورة، والذاكرة. فالوجود المادي الموضوعي في الأرض المحتلة 1948 هو الاستعمار الاستيطاني الاقتلاعي[1] ضد الشعب الفلسطيني من وطنه وبعثرته في مطلق “مكان” على سطح الأرض مع أهمية أن يكون بعيداً عن حدود وطنه بأقصى مسافة ممكنة، اي مطارة الطريد إلى الطرف النهائي في الكرة الأرضية.

أما الصورة فليس شرطاً أن تعبر عن جوهر الوجود الموضوعي والحدث الذي فعل فيه فالوجود المادي موجود موضوعياً، بينما الصورة يتم تصنيعها بشرياً لتنتقل من معطىً مستقلٍ إلى حالة يجري التحكم بها بشرياً وذلك لتوظيفها سياسياً ومن ثم اقتصادياً وفي النهاية قومياً/طبقياً ليتم إخراجها بالصيغة المطلوبة ومن ثم تعبئة الذاكرة بها إخصاباً في الحالة الطبيعية وحقناً في حالة العدوان.

أدب 1948 بين الرفض والاعتراف

ما عُرف بأدب المقاومة أمر لا بد من تجليسه مجدداً بين واقعة الموقف النضالي وسياق إطلاق التسمية عليه. كانت تلك التسمية إبداع الشهيد غسان كنفاني. كان غسان في بيروت وكانت إرهاصات العمل الفدائي الجديد في بداياتها. حاول غسان تبيان الوجه الحقيقي للفلسطينيين داخل الخط الأخضر فتناول شعر مجموعة منهم في كتابه : “أدب المقاومة في الأرض المحتلة 1965”.

كان التعبير أو الوصف طازجاً في تلك الفترة، وكان مجرد خبر صغير عن الأرض المحتلة مثابة جوهرة لمن هم خارجها. كانت المعايير عاطفية ورومانسية أكثر مما هي علمية. لكن الحدث الموضوعي على الأرض كان مختلفاً والتعاطي معه كان مختلفاً كذلك.

كان الأدب الذي تحدث عنه غسان كنفاني هو نتاج مجموعة من الشعراء والكتاب المنتمين إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي بدأ ولا زال حزباً “شرعيا” في الكيان الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي! “شرعية” يجب أن يرفضها من ليس صهيونياً. ولست أدري إن كان غسان آنذاك قد تجاهل التسمية والجوهر معتبراً أن الغرض “آنذاك” هو شد الهمم وحسب. ولست أريد الإطالة هنا ولكن إنصافاً لغسان كنفاني نفسه، فهو لم يكن ممن يعترفون بالكيان الصهيوني قطعاً. لم يتوقع غسان أن يحمل هؤلاء ما أُسمي “أدب المقاومة” مستخدمين معاناة الشعب ليعبروا بها ذات يوم من بلاط الكيان إلى البلاطات الرسمية القطرية العربية بدءا من محمود درويش بعد حرب حزيران إلى مصر ومنظمة التحرير ومختلف العواصم العربية الأخرى، إلى إميل حبيبي في المغرب وحتى في تل ابيب إلى سميح القاسم في الأردن…الخ. وبالتأكيد لم يتخيل غسان أن يوماً سيأتي يُحاط به هؤلاء بنفس هالة التقديس وهم في مقدمة المطبِّعين.

وبالمقابل جرى طمس، بل المسح الكلي ل “حركة الأرض” المنطلقة من التناقض التناحري مع الكيان الاستيطاني ومناضليها وأدبائها وشعرائها بشكل شبه تام. وكأن ما سمح له الاحتلال أن يظهر قد قبل به العرب وما طمسه الاحتلال فقد طمسوه. وكأننا أمام تعاقد سِرِّي حتى بين المثقفين العرب والكيان الصهيوني، وهو ليس تعاقدا لا شك، إنما هو نمط من الهيمنة واستدخالها إلى درجة عدم إدراك ذلك.

لقد كُتب القليل عن الراحل راشد حسين لفترة ثم طُمس تماماً. أما الشاعر والأديب والمفكر احمد حسين، فتم طمسه بدءاً من أدوات الإعلام في الأرض المحتلة 1967 إلى مثقفي منظمة التحرير فالحكم الذاتي إلى الأوساط الثقافية العربية عامة. وكيف لا يتم طمس أحمد حسين وهو، على سبيل المثال، هو قامة أدبية وشعرية وقومية يخشونها حتى الحقد، وهو ممن دافعوا بشدة عن الرئيس صدام حسين في وجه فيالق من مثقفي التطبيع واستدخال الهزيمة. وقد كتب:

وأزور حيفا كلما سنحتْ

وأسمع مرة في الشهرِ

أغنية البنفسج ِلا ،

كيف تنكرني إذن وتقول : من ْ؟

هل أنت غير صدى ً

تحمّله محاريب الدسائس صوتها ؟

أنا صفحة عربية في سفر هذه الكون ِ

وبقدر ما يشفع لأحمد حسين قامته الأدبية، ومستواه اللغوي وعمقه الفكري، وتمسكه القومي، بقدر ما يحتاج بسبب هذه كلها ودرجة الحقد التي تخلقها في نفوس المطبيعن والمتصهينين، يحتاج إلى حركة مقاومة بأسرها للدفاع عنه وحمايته.

أمريكا ليست بلاداً

نستطيع أن نبادلها الحبَّ

أو الكراهية

أمريكا حادقة مؤسفةٌ

يجب أن نرفضها

من جانب واحد.

أوقدوا مشاعل الرفض

في كل مكان.

أحمد حسين من مؤسسي مجلة كنعان وأول رئيس تحرير لها. ولكن هذه المجلة نفسها تعرضت للطمس، بل للاحتجاج حتى على مجرد وجودها. كان ذلك من مؤسس إحدى المجلات القومية: “ما ضرورة مجلة في الأرض المحتلة طالما مجلتنا تصدر ” هذا ما قيل في بيروت للراحل صالح برانسي أحد مؤسسي حركة الأرض ومركز إحياء التراث العربي الذي يصدر مجلة كنعان!

الراحل جوزيف سماحة

والصديق موفق محادين

نشرنا لأحمد حسين كثيراً في هذه المجلة، ونشر هو في أماكن عديدة، ونُشرت له اعمالاً ادبية ومجموعات شعرية وكتبا ثقافيةً[2]. ولكن، لفت نظري في عام 1996، حين نشرنا في مجلة “كنعان” من بين ما نشرناه لأحمد حسين، مقالة نقدية ضد محمود درويش : “أنت كما تبدو الآن: إلى محمود درويش” العدد 96 ايار 1999، ص ص 9-17″.

بعد ذلك بأيام فوجئت بهاتف دافىء من الراحل جوزيف سماحة وكان بعد في لندن يسألني من هو أحمد حسين، ولماذا لم نسمع به؟ كان جوزيف محتفلاً ومغتبطاً بموقف والمستوى اللغوي والفكري لأحمد حسين.

” متى كان هذا الصباح جميلاً، وكنت أنا سيداً للرعاةاللذين يمدون

قطعانهم في الحكاية نحو العشاء الأخيرِ،

ومن اين جاء الرعاة الذين يعدوُّت أغنامهم كالنقودِ ولا يحسنون الصلاة

لربِّ المراعي”

تحدثنا وقلت له ما قلت. وبعدها اتصل بي موفق محادين من عمان، وطلب المقالة ونشرها في صحيفة “العرب اليوم” التي تصدر في عمان. للراحل سماحة ولمحادين موقفهما العروبي اليساري المتقدم والثابت ورؤاهما النقدية للقطرية العربية بشكل خاص، وهو ما دعاهما إلى هذا القدر من التقاط إبداع أحمد حسين وموقفه.

لكن ما أثار اهتمام سماحة ومحادين ليس نفسه ما أثار حنق كثيرين من مثقفي البلاطات. بل إن ما أوصل المقالة إلى محادين وسماحة كان الضجة الاحتجاجية من مثقفي البلاطات وإعلامييها ضد أحمد حسين ومنها تشكي محمود درويش لسلطة الحكم الذاتي! أليس هذا مثار دهشة ومفارقة. ولأن مثقفي إعلام البلاطات معنيون بطمس أحمد حسين، ربما ندموا على تلك الضجة، لأن ما كانوا وما زالوا يهدفون إليه هو الطمس وتصفية الإنتاج لأن الهدف هو تصفية الموقف، تصفية ديمومة وثبات الموقف وقد واصلوا ذلك.

استهداف الأمة والقومية

قصة الأمة العربية والقومية العربية تطول ولا تتوقف. أما اللافت الذي لا مناص من التركيز عليه فهو ذلك الاصطفاف الرهيب ضد وجود الأمة العربية ووصف القومية العربية بالشوفينية ووجود إجماع دافىء بين الإمبريالية والصهيونية والكثير من الشيوعية العربية ضد القومية العربية. وكل ذلك لو كثَّفناه لكانت دلالته الشعور بالدونية والصَغار أمام الكيان الصهيوني والحرص على بقائه بل وتسويده.

نتحدث هنا عن تراث وتربية وشغل متواصل وحتى سريان هذا المرض حتى في الأُسرة الواحدة.

ولعل أخطر ما في هذا الاستهداف هو ركوع كثير من الماركسيين واليساريين العرب والفلسطينيين لهذه الموجة متحولين إما إلى قطريين طبقاً لقامات الأنظمة العربية القطرية، أو إلى كوزموبوليتيين بخلاف مختلف الحركات الشيوعية الثورية في العالم.

في هذا الخضمُّ بقي أحمد حسين نموذجاً على العارف والرائي والمتنبىء. العارف بحقيقة أن لا شيوعية ثورية دون الوقوف على أرضية قومية، وأن أخطر شيوعية هي تلك التي تطالب بثورة اشتراكية في كل بقاع العالم، وحين تصل إلى الكيان الصهيوني لا يعود هذا الشعار مناسبا ولا حتى مطروحاً للنقاش، وهذا دأب الشيوعية التروتسكية بتمفصلاتها الصهيونية عامة والصهيونية اليهودية بشكل خاص. وفي هذا طرافة حقيقية كيف تلتقي الستالينية والتروتسكية فقط حينما يتعلق الأمر بالقومية العربية؟ وهو الذي رأى كيف يتمرغ مثقفون فلسطينيون في أحضان اليسار الصهيوني ولا رصيد لهم سوى إنكار عروبتهم، والظهور بمظهر “حضاري” طالما يتمرغ الواحد منهم بين الصهاينة في الكيبوتسات تمرُّغاً سياسياً وجنسياً باعتبارها مؤسسات “اشتراكية” لا مستوطنات!!!. وإن كان هؤلاء جهلة في كون الكيبوتسات تمفصلات للسوق الراسمالي الصهيوني، فهم لا شك يعرفون أنها أُقيمت على أرض وأجداث ابناء شعب يُفترض أنهم منه! يحضرني هنا ما كتبه أحمد حسين عن أرض كنعان وحيفا في قصيدة أزقة النعناع:

بالأمس أوصد بابه النعناع ُ

في وجهي وقال َ:

أنا هنا حزنٌ أخيرٌ

فوق أضرحة الحقول ِ

فهل أتيت تزور حزنك َ

بعد أن شاهدتَ حيفا

وهي تخلع في الأزقة حزنها ؟

أنا لست أغنية عن امرأة ٍ

تزورك في النبيذ ِ

أنا مازلت أعشق وهم طلعتها الجميلة ْ.

ما زلت أحسب أن في كنعان َ

أياماً مخبأة ًعلى زمن الطفولة ْ .

لا بد من سبب ٍ

لتحملني الحكاية في الصدود ِ

يظل ينكرني الصدى ويقول : منْ ؟

فأقول لا أدري

ولكني أنا،،،،،

وهو المتنبىء بأن مآل هكذا لبراليين أو يساريين أو شيوعيين ليس إلا أحضان الصهيونية والإمبريالية. ألم يتحول إميل حبيبي إلى خصم عنيد للشيوعية ومدافع عن “الديمقراطية” الغربية بعد أن كان من ليس في حزبه الشيوعي مجرد “قومجي ويميني وووو”. ألم يذهب كنعان مكية (تروتسكي عراقي في الولايات المتحدة) لينصح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش كيف يحتل العراق؟

هذا الطمس وتلك التصفية لهما دلالاتهما في تغييب وطمس تراث “حركة الأرض” كليا وأحمد حسين من شبيبة هذه الحركة وجيلها نشاطاتها الثاني في مرحلة العمل الأهلي. وممن بقوا على موقفهم تجاه الكيان الصهيوني برفض هذا الكيان مع أنه ممن يعيشون بين فكيه! فقد ظل أحمد حسين على موقفه. لم يتغير ولم يتذبذب ولم يطأطىء ولم ينزوي، ولم ينقد المطبعين أمثال محمود درويش مرة ويتزلف له مرات. مواقف حسب الطلب وطبقاً لما يطلب دافع الفلوس، ومموِّل المنحة والدراسة!

هذا الموقف السياسي المتماسك ما كان له ليبقى عمراً بأكمله إلا لرسوخ وعمق حاضنته الأدبية وزخمها الإبداعي:

الأرض لكنعان الحاضر والغائب والمولود ومن لم يولد بعد .

الأرض لكنعان من الباب الصخري إلى حوض المرجان .

قيلت تلك القصيدة في السبعينات ، ولم يخرج أحمد حسين عن هذا الخط الرافض في جميع ما كتبه حتى اليوم.

هناك من يتذرعون في إهمال وتجاهل أدب الرفض ، بعدم المعرفة بوجوده . ولعمري إن هذا الزعم مثابة هروب من الاقتراب من ضمير وذاكرة الطبقات الشعبية لأنها مصدر احراج وتقييد الألسن لهؤلاء. فمن لا يعرف له عذره إن غاب أدب الرفض، ولكن حين يكون أدب الرفض شامخاً متحدياً، فذلك مثار تساؤلات وشكوك. من هنا هم كاذبون، فمن يسمع ب “تأدب” العار يجب أن يبحث عن أدب الشرف والمقاومة والرفض! منذ عقود وحتى اليوم يقف أحمد حسين في مقدمة أدباء وشعراء الرفض. وهو مقروء داخل الأرض المحتلة أكثر من مختلف الشعراء وله مريدوه في الإبداع الأدبي نثراً وشعراً، ولكن التعتيم كان وراء هذا الإدعاء ، والدليل أن إنتاجه النوعي ومن حيث الكم ، يعادل ما كتبه محمود درويش وسميح القاسم معا. ولكن حرب الطمس أدت إلى أن لا تُكتب عنه مقالة نقدية واحدة ،أو خبر واحد ، أو تترجم لي قصيدة واحدة . كان البعض يتجاهل أدبه خوفا من الشيوعيين التقليديين الذين كانوا ولا زلوا يقومون بمهمة الهجمة على القومية العربية معلنين الولاء للكيان الطارىء كدولة وأمة وقومية. ولاء هكذا مجاني لا يقوم على دراسة علمية نظرية في الماركسية[3] ، وكان الشيوعيون يحاربونه تنفيذا لبنود التعاقد مع السلطة وعلى رأسها ، ضبط مزاج الساحة على التطبيع والأمن ، ومحاربة التطرف .

أحمد حسين جزء من هذه الظاهرة العنيدة والمشتبكة، التي تعرف طريقها بوضوح، وليست معنية بمراجعة هذا الطريق لأجل تغييره بل بتعميق قراءة هذا الطريق من أجل تطويره. هي ظاهرة قليلة العدد ولا تتكاثر سريعاً وخاصة في المناخ غير المؤاتي الذي بدأ على الأقل منذ عام 1967، لكنها صُلبة لا تنكسر إلى أن تكسر القشرة وتنتصر. وإلى أن يأتي زمن إنقاذ حيفا فهو يغازلها ويواسيها بق,له:

يا كرمليّة ُ ! أنعمي حزنا ً

سأحزن عن بيوتك ِ

عن شوارعك الجديدة في شوارعك القديمةِ

عن أزقتك التي بقيت ْ،

مساء الخير ايتها العجوز الصامتة ْ!

ما زال لون نعاسك الحجري ّ ِ

سندسة ً لذاكرتي ،

ووجدي حين أعشق ُ ،

حين أحزن ، حين أبكي .

لون ٌهي الأشياء حين تغيب ُ

والأيام تترك لونها فينا وتمضي .

نقد الكيان على أرضية الاعتراف به

كثيرون من نقدوا السلطات بحثاً أو طمعاً في الحصول على “نعمة” الاحتواء. وكثيرون من ذهبوا دون نيل عرض للاحتواء لا سيما ذوي المواهب المتدنية. لذلك يكون ضغط الأنظمة دوماً على القامات العالية نتاجاً وموقفاً، وهؤلاء منهم من يصمد ومنهم من يركع. كان عبد اللطيف اللعبي من الشعراء والمناضلين اليساريين في المغرب. ولكنه تحت تاثير، ما لا نعرفه، انتهى إلى حال من الوضاعة ليزور الأرض المحتلة ضمن خبث المركز الثقافي الفرنسي في خدمته للكيان الصهيوني. وكان محمد مهدي الجواهري شاعراً شيوعيا وقديراً، انتهى ليمدح ملك المغرب الذي قتل من الشعب المغربي ما يقارب ما قتلته دولة استعمارية من شعب أخضعته.

أحمد حسين، الذي جرَّاء الطمس المقصود لم يركع، ولم يتذبذب لا سراً ولا علانية. وبقي على موقفه. فالمسألة هي الموقف. والحفاظ على الموقف هو التحدي الأكبر نظراً لأن الموقف حالة استمرار لا تتوقف عند منعطف معين أو عمر معين. هي ليست لحظة، هي استطالة ضغط على الأعصاب متواصل طوال العمر. لذا، كثيراً ما لمع البعض سريعاً وانطفأ سريعاً أي ركع. فقد بدأ حياته في “حركة الأرض” وضد الكيان الصهيوني ولا زال وهو يتخطى السبعين من العمر على موقفه نفسه، وبدأ عروبياً حينما كانت القومية العربية في أوج صعودها، وظل عروبياً حتى والقومية العربية في حالٍ من الهزيمة تقارب الهلاك. بدأ يسارياً وصمد حتى بعد انهيار “كعبة” الشيوعيين المتنفعين لا العقائديين. فهو يعرف أن القوة في الفن هي من القوة في الموقف. ولا شك كغيره أنه رأى ولا زال يرى كيف يتساقط كثيرون مقابل نزوة أو مقابل منحة أو مقابل مقعد في الكنيست.

لم يكن أحمد حسين مثقف معارضة للنظام الصهيوني كما يصف محمد الأسعد مثقفي الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”[4] المثقف الذي ينطلق من “شرعية” الكيان وينتقد صهيونيته في نطاق عدم تحقيق مساواة بين العربي واليهودي، وهو المنطلق الذي يعتبر للمستوطنين ولأهل البلاد نفس الحق! ولم يكن المثقف الفوضوي الصغير الذي يعيش بين المستوطنين في الكيبوتسات وينتقد القاعدة الدينية للكيان ويلوم عليه قلة علمانيته ويهاجم “تطبيعيات” محمود درويش تارة ويصفه هو وإميل حبيبي وعزمي بشارة ب “النخلات العالية” تارة أخرى! ليس مثقفاً ذا موقف من ينتضي سيفاً وهمياً مرة، ويحمل المنشفة واقعياً مرة أخرى!

ليس أحمد حسين المثقف الذي تحدث عنه أو مارس دوره “هارولد وولبي” في جنوب إفريقيا ما بعد الأبرثايد، المثقف التشريعي Intellectual-as-legislator[5] ، الذي يدخل في نسيج التشريع للنظام السياسي، ولم يكن مثقف إدوارد سعيد “الانتقائي والمراوغ”. بل كان أبعد حتى من مثقف غرامشي، المثقف العضوي، لأن أحمد حسين هو المثقف المشتبك لصالح شعبه. لذا، كان طمسه ضرورياً من المؤسسة الحاكمة وأدواتها من المثقفين. من يقرأ أحمد حسين في كنعان الإلكترونية[6] وكتاباته غزيرة وواضحة فيها، فهو ما زال يدافع عن العروبة وجودا وتاريخاً ومبتدأً. عن المسألة القومية العربية الكامنة في مواجهة الثلاثي العدو الإمبريالية والصهيونية والكمبرادور العربي القومي ظاهرياً والقطري التابع جوهرياًً. والتصدي هنا للثالوث ومثقفيه من العرب والفلسطينيين الذين تصهينوا.

قد يكتب المأجور[7] أو يقول قولا بليغا وجميلاً في موقف ما، في فترة ما، في لحظة ما. وقد يكتب نقداً هنا أو هناك، إما بدافع قناعة أو مقابل رشوة مالية لإجراء بحث مخصص لهدف مخصص فيبدو نقدياً لهذا الموقف او ذاك، وقد ينتمي إلى حزب ثوري في لحظات الأوج، أو سواد موجة إيديولوجيا ما، ولكن تظل العبرة في أمرين:

السؤال: أين أنت لحظة الاصطفاف؟ وفي حالتنا ليس الاصطفاف اشتباك لحظة، إنه عصر كامل، اين أنت من:

* ديمومة الموقف

* واختيار موقع الطبقات الشعبية عند الاصطفاف.

وإذا كان الاصطفاف في ظروف العديد من مجتمعات العالم محصور في فترة زمنية معينة لأن التحدي قد تكثف واشتد حينها، فإن الاصطفاف في وضع شعبنا وامتنا ليس لحظة، ليس عمراً بل هو عصر بأكمله. من هنا إشكالية الصمود، ومشكلة التعب، والسقوط في الندم والانطواء تحت أجنحة المال والتطبيع الدافئة!

على أن الاصطفاف والاشتباك في السياسة وبالسياسة أمر، والاشتباك بالأدب وافبداع أمر اعلى، هكذا بدأ وسيبقى أحمد حسين.

عن prizm

شاهد أيضاً

الحرب على قطاع غزة أمام لحظة فارقة…

21 شباط 2024 أنطوان شلحت ليس من المبالغة القول إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *