أنطون سعادة والأقليات و8 تموز 1949
8 تشرين ثاني 2010
بقلم مكرم سعد
يكثر الكلام هذه الايام عن مسيحيي المشرق، من قداسة البابا بينديكتوس السادس عشر الى غبطة البطريرك نصرالله صفير وعدد غير قليل من الباحثين. بعضهم قلق حقا على الوجود المسيحي في المشرق، وآخرون يصطادون في الماء العكر. لا شك في ان البابا والبطريرك في خانة القلقين حقا. ففي وثيقة مسيحيي الشرق الاوسط التي قدمها قداسته الى قادة الكنائس في مؤتمر قبرص اعرب البابا عن خوفه من زوال هذا الوجود وحض الاديان بطوائفها ومذاهبها على ان يتعايش بعضها مع بعض وتتقبل العلمانية الايجابية. هذا الموقف جديد للفاتيكان يختلف عن مناهضته للعلمانية التي وفدت مع الثورة الفرنسية منذ اكثر من مئتي سنة.
البطريرك شكا من حالة الفراغ والخروج على القوانين التي تدفع بالموارنة الى الهجرة ودعاهم ا لى تعزيز ثقافة الرسوخ في ارض لبنان، واجاب عن سؤال عن الغاء الطائفية: يجب الغاؤها من النفوس قبل النصوص، ولم يفصح غبطته كيف يمكن ذلك، ورجال الدين من كل الطوائف والمذاهب لا يكفون عن زرعها في كل نفس.
ثلاثة من اصل خمسة مبادىء اصلاحية لتنظيم الحكم في الدولة المدنية القومية الاجتماعية خصصها انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاحتماعي، لمعالجة الطائفية والمذهبية وشرورهما ورفع ايدي رجال الدين عن رقاب الناس وتحرير الشعب من قبضاتهم.
عاد سعادة الى الوطن بعد غياب في البرازيل استمر اكثر من عشر سنين امضاها يتابع دروسه في اللغات والفلسفة والاجتماع ويمارس الصحافة والتدريس برعاية والده العلامة الدكتور خليل سعادة واستقر في بيروت يراقب مجريات الامور بعد ان كان ترك الوطن على اثر هزيمة العثمانيين وقبل ان يحكم الفرنسيون لبنان والشام والانكليز العراق وفلسطين والاردن. فذهل لما رأت عيناه، وايقن ان حلم الوحدة قد تبخر وان الطائفية والمذهبية اسوأ مما كانتا عليه قبل سفره، ولاحظ بدء عصبية كيانية جديدة يمكن ان تقضي على كل امل في وحدة او اتحاد. رأى بريطانيا تزرع اليهود في فلسطين وتمنحهم الاراضي الأميرية وكل ادوات السيطرة وتضطهد الفلسطينيين وترهقهم بالضرائب ليتخلوا عن اراضيهم وتدفعهم نحو الفقر والبؤس والتأخر. وفي الوقت نفسه تستحدث هذه الدولة المعتدية المغتصبة السارقة كيانا جديدا شرق نهر الاردن لحراسة اليهود في فلسطين وتوكله لعبدالله بن الحسين، كما اوكلت العراق لاخيه فيصل بعد ان هرب من دمشق خالي الوفاض.
رأى الشام ولبنان يحكمهما مندوب سام فرنسي ينفذ ارادته اقطاع سياسي يدعمه رجال الدين، ورآهم جميعا يتسكعون امام المنتدب لالتقاط فتات مائدته. ويتباهون، رغم ذلك، بالحرية والاستقلال، وبعضهم يدعي الامتيازات، لان الجمهورية ولدت من رحم بكركي وان مجد لبنان اعطي لها. كل هذا والجمهورية يحكمها فرنسي والمجد لا يعطي بل يبنى، ولا يرى سعادة مجدا في استبدال العثمانيين بالفرنسيين.
رأى ان جذور الطائفية والانعزالية تعود الى عهد الامارة الشهابية 1788 – 1840 وان المزاحمة بين طائفتين جلب الموت والدمار على لبنان (فتنة 1860) ووصلت آثارها الى البيئة المجاورة وان في اي نزاع قادم قد تشترك كل الطوائف وتتدخل دول اجنبية.
رأى كل ذلك واكثر وخابت آماله واصيب بالاحباط، ولكنه لم ييأس، بل رسم الطريق لانقاذ الامة بوضعه ثمانية مبادىء اساسية تعين هوية الامة واهليتها وخمسة مبادىء اصلاحية تتسم بالوضوح التام، لا لف فيها ولا دوران.
في لبنان بخاصة اعتبر ان المارونية السياسية اخطأت عندما طالبت بكيان طائفي منفصل عن محيطه، كما طالب اليهود بكيان طائفي منفصل عن محيطه في فلسطين. اليهود الاوروبيون غرباء مغتصبون في فلسطين، اما المسيحيون بجميع مذاهبهم هم خميرة هذه الارض وبناء عزها ومجدها وسؤددها ولا يجدر بهم الانكفاء والانعزال، بل توعية الامة وتثقيفها واستنفارها.
بعد درس وبحث اقتنع سعادة ان مسألة الاقليات في الهلال الخصيب لا تختصر بالمسيحيين وليست نتيجة التباين الطائفي والمذهبي، بل نتيجة لانهيار المنطقة وتبعثرها في دويلات تبحث عن هويات دينية وطائفية ومذهبية وعرقية.
ان اهملت الاديان دورها الروحي الايماني الانساني واتجهت نحو السياسة والسلطة انتجت الحروب والعبودية والظلم وحرضت امم العالم بعضها على بعض. فليس اقرب الى الدين من قيم الخير والحق والجمال والمحبة والتسامح والعدل والحكمة واحترام انسانية الآخر مهما يكن اصله وفصله او عرقه ودينه ومذهبه. الحرية هي حرية الضمير والمعتقد وليس حرية الشعائر، اما الايمان فلا يفرض فرضا او قسراً على احد. علمانية سعادة ليست الحاداً، بل نظام اخلاقي اجتماعي يضمن العدل والمساواة ولا يتدخل في الاعتقاد الديني ويمنع تدخل المؤسسات الدينية في امور السياسة.
لاقت طروحات سعادة السامية الراقية والمبادىء الاساسية والاصلاحية تقديراً واعجاباً واقبالاً من كثير من الواعين والمثقفين الذين اطلعوا عليها وتسنى لهم لقاء الزعيم والاستماع اليه رغم سرية الحزب في السنوات الثلاث الاولى. كذلك انتمى الى الحزب عدد غير قليل ممن سئموا التبعية للاقطاعيين والمرجعيات الطائفية والمذهبية. هكذا نجح سعادة في تأليب قوى الرجعية ضده، لان مشروعه كان اقفال دكاكينهم واستعادة ارادة الشعب من سالبيها.
هذه القوى التي كانت تتزاحم في ما بينها التقت على العداء له واتباع كل الاساليب لايذائه وحتى سفك دمه. ويؤلمني القول ان من منع قتله قبل سفره سنة 1938 هو الانتداب الفرنسي.
والطريف في الامر ان فرنسا حاولت في البدء ان تضع لبنان (الكيان المصطنع) على الطريق السوي. ففي سنة 1918 حاول السفير بيكو بصحبة بعض الوجهاء المسيحيين اقناع البطريرك الياس الحويك بابقاء لبنان ضمن المساحة المنتدبة لفرنسا فلم ينجحوا. وفي سنة 1921 اعاد الكرة الجنرال غورو فهدده البطريرك باشعال ثورة. ادرك الفرنسيون عبثية الكيان ولكنهم خضعوا للاصرار الطائفي. بعد انكشاف امر الحزب القومي 1935 بدأت موجة من الاحزاب الطائفية، حزب الوحدة اللبنانية والكتائب للموارنة، النجادة والكشاف المسلم للسنة. فتصدى الانتداب لهذه الاحزاب وحلّها بحجة أنها طائفية وفرنسا هي دولة علمانية. فقامت قيامة البطريركية والمرجعيات السنية وتراجعت فرنسا. تآزرت قوى الرجعية وتضافرت لجعل حياة سعادة ورفاقه جحيما بحيث عملت على قطع أرزاقهم واضطهادهم على كل مستوى. حرضوا حكومة الانتداب عليه بوشايات كاذبة ملفقة فسجن ثلاث مرات خلال سنتين ظلما وبهتانا.
في اثناء غياب سعادة القسري 1938 – 1947 دبرت الدولة والمرجعيات الطائفية انقلابا عليه فأغرت القيادة التي اوكل اليها سعادة الحزب في غيابه وعلى رأسها نعمة ثابت، كي تتنازل عن المبادئ الاساسية وعلم الزوبعة مقابل رخصة عمل وتسهيلات وعطاءات اخرى. ففعلت القيادة التي لا تستحق هذه الصفة وخانت قسم انتمائها للمبادىء والزعيم وظنت انها نجحت في سرقة الحزب فسعادة في الارجنتين وحرب عالمية دائرة ولا اتصالات ولا بريد.
فات هذه الحفنة من الرجال انها بهذه الرعونة فقدت كل صدقيتها وثقة القوميين وثقة الشعب بالرغم من انها، بمساندة الدولة، حاولت منع سعادة من العودة الى لبنان. اركان الحكومة والمرجعيات الطائفية خسرت جولة مع سعادة، ولكنها لم تتراجع عن تصميمها للقضاء عليه وكانت تخطط وتنتظر الفرصة المؤاتية.
بين يوم عودته في 2 آذار 1947، وفجر الثامن من تموز 1949، سنتان وبضعة اشهر، انجز خلالها سعادة انجازات مهمة قد يكون اهمها محاضراته العشر في (وست هول الجامعة الاميركية) التي اعادت التركيز على اهمية مبادىء الحزب وخطورة اي تلاعب او انحراف عقائدي، كذلك حاول التأثير في الاحداث الجارية كتقسيم فلسطين والحرب التي تلتها وهو لم يستعد انفاسه بعد ولم يختر قيادة مؤهلة تعمل معه بعد طرد القادة الخونة.
في 30 آذار 1949 حصل انقلاب عسكري في الشام على رأسه قائد الجيش حسني الزعيم الذي تبين في ما بعد انه عميل اميركي، ولكن في حينه كان معروفا عنه رعونته وخلاعته وسكره وتقلبه. في 6 حزيران 1949 عقد مجلس الوزراء اللبناني جلسة برئاسة رياض الصلح بعنوان سعادة وحزبه، واتخذ قرارا حرفيته ملاحقة سعادة وحزبه، وفي 9 حزيران كانت الكتائب مخلب قط لجأ النظام اللبناني اليه للتحرش بسعادة وتصفيته.
وهكذا في التاسع من الشهر نفسه اعتدت الكتائب على جريدة الحزب وقامت الحكومة بحملة اعتقالات في صفوفه لم توفر احدا، غير ان سعادة انتقل الى دمشق حيث استقبله حسني الزعيم واغراه لاعلان ثورة على الحكومة اللبنانية بمساندته، ثم تخلى عندما فعل وسلمه الى الحكومة اللبنانية في السابع من تموز التي اعدمته في الثامن منه.
اذا جاز لوم النبيل لان الحقير خدعه وغدر به فبعض اللوم يقع على الزعيم الشهيد. اما اكثره فيقع على قيادة الحزب في الشام التي اخفقت في توفير المعلومات التي كان يمكن ان تحصن سعادة من الخداع والغدر وتركت قوات امن لبنانية قليلة تنقله من دمشق الى بيروت دون ان تحاول انقاذه. اعدم بوحشية تدل على حقارة الفاعلين وسيبقى اعدامه عارا في تاريخ لبنان وحكامه وقضائه. تنسب الاناجيل الى السيد المسيح قوله وهو على الصليب مخاطباً الله: “اغفر لهم با ابتاه لانهم لا يعرفون ما يفعلون”. المرجعيات الطائفية واركان النظام اللبناني في ذلك الوقت بشارة الخوري، رياض الصلح، صبري حماده، فؤاد شهاب، حبيب ابو شهلا، مجيد ارسلان، كانوا يعرفون ماذا يفعلون، ولم يرف لهم جفن ولم يخجلوا.
رياض الصلح ظلم انطون سعادة وحزبه وضربهما مرتين: الاولى في التآمر على سعادة واعدامه دون محاكمة، والثانية عندما اغتيل واتهم الحزب باغتياله.
عن جريدة النهار