5 تشرين ثاني 2010
د. يحيى القزاز
نسمع عن دولة تحتفل بإطلاق قمر صناعى، ولم نسمع عن دولة تستورد قمرا صناعيا سابق التجهيز. ونسمع عن خلل فى قمر صناعى ترسل الدولة فريقا من علمائها لمتابعته وإصلاحه، ولم نسمع عن دولة تستدعى خبرات من دولة آخرى لإصلاحه واسترجاعه. كسرت مصر القاعدة –فى عهد الفكر الجديد بقيادة جمال مبارك الرئيس الفعلى لمصر- وقامت باستيراد قمر صناعى من “أوكرانيا” بطاقم تشغيله. والصناعات الدقيقة التى تغزو الفضاء وتسيطر على العالم هى منتجات تكنولوجية محلية الصنع ناشئة من ابحاث علمية لأبناء بلد المنتج، ولايمكن استيرادها على مفتاح التشغيل، وإن حدث فلأغراض ترفيهية محدودة ومعدومة القيمة فى أثر تقدم الشعوب، والشعوب تتقدم بأبحاث علمائها.
اختفاء القمر الصناعى المصرى “إيجبت سات -1” أماط اللثام عن عدة ظواهر، أولا: محاولة التقدم العلمى بالاستيراد وليس بالانتاج وهو أهم ما أفرزته سياسة الانفتاح السيئة، ويتم استيراد تقنيات تكنولوجية سابقة التجهيز كالأقمار الصناعية أو محطات طاقة نووية سلمية تسليم على المفتاح. ومن يستورد التكنولوجيا المتقدمة يظل أسير مصدريها فى الاعتماد عليهم فى التشغيل والصيانة والإدارة. ثانيا: ظاهرة الاختفاء (القسرى والطوعى) التى تحولت إلى حالة عامة فى مصر منذ أكثر من عقد من الزمان. الاخنفاء القسرى نراه فى اختفاء “الونش” من موقعه وهو من المعدات الثقيلة، واختفاء الآثار واللوحات الفنية من المتاحف، واختفاء الصحفى “رضا هلال”، واختفاء الوثائق السياسية للدولة والفنية (شرائط أفلام التليفزيون)، واختفاء ثروات مصر، واختفاء هيئة المساحة الجيولوجية المصرية وهى ثانى هيئة على مستوى العالم أسست بعد المساحة الجيولوجية البريطانية، واختفاء الهوية العربية، وأخيرا وليس آخرا اختفاء القمر الصناعى المصرى، أما الاختفاء الطوعى فيتمثل فى غياب الكوادر العلمية المدربة بسبب البيروقراطية وضعف الأجور.. ومازال الاختفاء مستمرا. ثالثا: التعامل مع اختفاء القمر الصناعى باعتباره سلعة يمكن استرجاع تأمينها وليس كارثة علمية خطيرة يجب تداركها. رابعا: غياب القاعدة العلمية، وضعف ميزانية البحث العلمى، واهدار موارد الدولة فى تمويل مشروعات وهمية للصوص المال. خامسا: غياب دور واهتمام الرئيس مبارك بالبحث العلمى، وكان من المأمول أن يتدخل الرئيس ويصدر قرارا بإعادة تصحيح منظومة البحث العلمى من أجل صالح الدولة أسوة بتدخله وإصداره قرارا –خالف به حكما قضائيا- بإعادة “مدينتى” لصالح مالكها غير الشرعى “هشام طلعت مصطفى”، والعجيب أن الرئيس يخالف دستورا أقسم على احترامه، ويكسر حكما قضائيا من أجل فرد (رجل أعمال صنعه النظام) ولايقيم قانونا معوجا وينتصر للدولة بتصحيح منظومة البحث العلمى .
تبدو القضية قطرية تخص مصر، هذا صحيح فيما يخص اختفاء القمر الصناعى، لكن القضية عربية من حيث أهمية البحث العلمى، ومدى إيمان النظم العربية الحاكمة بانتهاجه، ومقدار ماتنفقه من ميزانيات عليه. ولاداعى للخوض فيما تنفقه النظم العربية مجتمعة على البحث العلمى وهو ضئيل مقارنة بما تنفقه إسرائيل منفردة وهو كثير. فالعرب وهم كثر يعيشون فى ارض شاسعة، لايعرفون قيمتها، توارثوها عن أجدادهم، ويغفلون دور العلم فى حماية وجودهم والدفاع عن استقلالهم، أما إسرائيل فهى تعلم أنها تعيش فى وضع استثنائى، وتحتمى بالعلم فوق أرض محتلة، وأعدادها ضئيلة جدا بالنسبة للعرب المحيطين بها. وهى بمثابة الفتق فى الجسد العربى، إن أراد العرب استئصاله فعلوا بكثرتهم، لكنهم لن يقدروا لفرقتهم وضعفهم وقوة إسرائيل. أدركت إسرائيل وضعها الاستثنائى مبكرا، وفاضلت فى حماية وجودها بين الاعتماد على قوى غربية أنشأتها ومكنتها من احتلال فلسطين العربية قد تتغير سياساتها وتتأرجح بفعل المصالح الدولية، وبين الاعتماد على قواها الذاتية غير المستوردة، فاختارت الاعتماد الذاتى بطريق علمى يبدأ بتعليم جيد وينتهى ببحث علمى جاد هو بمثابة قاعدة علمية لمخرجات تكتنولوجية ذوات نواتج تكنولوجية محلية الصنع لايمكن استيرادها لأنها تمثل اسرارا عسكرية للدولة المالكة، ويصير امتلاكها بحكم صناعتها محليا. ولم يعرف العالم دولة اشترت قنبلة نووية أو مركبة فضائية، وإن حدث -وهذا ضرب من الخيال- فلا يوجد علميون مؤهلون يوجهون الصواريخ ويديرون المراكب الفضائية ويصلحون مايحدث بها من أعطال، ويصنعون الأجزاء التالفة منها. عرفت إسرائيل حجمها وعنصر ضعفها البشرى فاعتاضت عنه بالبحث العلمى، وأنفقت عليه أكثر من أى دولة فى العالم، وجودها وحمايتها مرهونان بقوة المنتجات التكنولوجية التى تمكنها من السيطرة على الاراضى المجاورة لها من خلال غزو الفضاء بأقمار صناعية والتهديد بصواريخ نووية. تقنيات يستحيل شراؤها لكنها تنتج محليا بإنفاق جيد على البحث العلمى، فعصر كثرة العدد و”الشومة” و “النبوت” ولى، وحل محله عصر العلم و”الأزرار الإلكترونية” والتحكم عن بعد. حلت المنتجات التكنولوجية بديلا عن كثرة العدد وضخامة الجسد.
أكبر جريمة تتم حاليا على مستوى العالم العربى هى اغتيال الهوية العربية والبحث العلمى الجاد . تحولنا إلى مستهلك بلسان غربى أعوج ودولنا إلى سوق لكل المنتجات الغربية، حتى ما نزرعه لا نصنعه، وما ننتجه من بترول لا نصنعه ونصدره خاما. لايوحد لدينا قاعدة علمية تحل إشكالياتنا المعاصرة فى الدفاع وشح المياه والطاقة البديلة، هل هذه خيبة العقل العربى، أم سوء إدارة النظم العربية الحاكمة؟ وهل خلقنا لنخدم على غيرنا، وبأموالنا العربية نشترى صفقات أسلحة من الغرب ندعم اقتصاده ونتقى بها شره، وندعى كذبا الدفاع بها عن أوطاننا؟ لو ان الأموال العربية النافقة لإرضاء الغرب من خلال الصفقات رصدت لإنشاء قاعدة علمية عربية لآتى عائدها فى بضع سنوات قليلات بأكثر مما نتوقع، وإن لم نصبح من الدول التى تصدر فائض تكنولوجيتها الآمن فعلى الأقل نتمكن من حماية أنفسنا والحفاظ على استقلال دولنا وعدم ابتزاز الغرب لنا. هل من غزت الثروة مخادعهم من باطن الأرض وبلاتعب يفضلون الاستهلاك والإنفاق الترفى على الانتاج والبحث العلمى؟ استقلال الوطن مرهون بتفوقه العلمى. والقدرات المالية على كثرتها بلا تقدم علمى حقيقى لا تحمى وطنا.
اختفاء “إيجبت سات-1” دق ناقوس اليقظة عن أهمية البحث العلمى العربى من أجل امتلاك تكنولوجية عربية متقدمة تكون درعا وسيفا للأمة العربية. وفى غياب اهتمام النظم العربية الحاكمة بالبحث العلمى، يبقى الأمل معقودا على المؤمنين بالعروبة، وللأسف الشديد المهتمون بالعروبة والمحافظون على قوميتها لايرون سبيلا لتحقيق أهدافهم إلا بانعقاد مؤتمراتهم السياسية فى البلدان العربية، يظن المأتمرون أنهم بذلك يؤدون ماعليهم، ويوما بعد يوم، وبفعل عوامل الزمن وانقضاء العمر، وغياب الأباء المؤسسين، ينحسر التيار القومى، ويدوسه قطار التغريب والتطبيع. متى يدرك العرب أن البحث العلمى الحقيقى هو السبيل الوحيد للحفاظ على حدودهم ووجودهم؟ سمعنا عن انعقاد المؤتمرات السياسية للقوميين العرب، فمتى نسمع عن انعقاد المؤتمر العلمى الأول للقوميين العرب؟
القومية العربية ليست دعوة عنصرية، ولا انحيازا لجنس بشرى، إنها محيط ثقافى لمواطنين يتحدثون اللغة العربية ويعيشون فى منطقة متصلة تمتد من المحيط إلى الخليج.
القدس العربي