الفكر العربي وعقدة الصحراء
25 تشرين أول 2010 د. السيد ولد أباه
كتب أحد الكتاب العرب المرموقين محللاً أزمة الفكر الإسلامي الراهنة أن المسؤولية كلها راجعة إلى هيمنة ما أطلق عليه “إسلام الصحراء” الذي هيمن على الساحة العربية في العقود الأخيرة، مقوضاً تراث التنوير والتجدد الذي حملته الأدبيات النهضوية الحديثة.
لهذا التصور السائد عدة مقاربات وصيغ، متمايزة من حيث الخلفيات والرهانات. من هذه الصيغ المقاربة الأيديولوجية التي ارتبطت ببعض الاتجاهات العروبية التي طالما قدمت في مرحلة المد القومي للصراع الداخلي العربي، بكونه صراعاً بين “المدن الثائرة” و”البوادي الرجعية”. وقد ثبت الكاتب والصحفي المصري المعروف “محمد حسنين هيكل” هذه الصورة بتمييزه المشهور بين المناطق العربية الصفراء محدودة السكان والغنية بالنفط (مركز المحافظة والاحتماء بالخارج ) والمناطق الخضراء الآهلة بالسكان (مركز المدنية والتحرر)، مفسراً رهانات حرب الخليج الثانية(حرب تحرير الكويت) من هذا المنظور.
وغني عن البيان أن هذه المقاربة تفتقد للعلمية والموضوعية، وتعكس مواقف أيديولوجية آنية، أكثر مما تستند لمعطيات فعلية واقعية.
بيد أن لهذه الصورة صيغة عالمة أكثر تجذراً في الفكر الاجتماعي والسياسي العربي. نلمس هذه الصورة عند المفكر البحريني البارز “محمد جابر الأنصاري” في دراساته المتميزة لجذور التأزم السياسي العربي التي يلخصها في “الانقلابات الرعوية” المتكررة التي عصفت تاريخياً بالمجتمع المديني العربي الذي هو مركز التحضر فقضت على إمكانات الاستقرار السياسي، ولا تزال تعصف به مانعة نشوء مجتمع مدني حديث وقيام ديمقراطية حقيقية.
صحيح أننا لا نجد النفحة الاستعلائية القدحية التي ألمحنا إليها في بعض صيغ المقاربات الأيديولوجية في نظرتها للمجتمعات الصحراوية العربية، إلا أن الأنصاري يحافظ على النظرة السلبية للثقافات البدوية التي اعتبر أنها شكلت عامل الاضطراب والتأزيم في التاريخ العربي الوسيط والحديث.
والمثير في الأمر أن الأنصاري يدخل في صيغ الاجتياح الرعوي المدمر لنمط الاجتماع العربي “ثورات” الضباط القوميين العرب التي قضت على ثقافة الفئات الليبرالية المدينية التي ارتبطت بها التجارب الديمقراطية في الأربعينيات والخمسينيات، مفضية إلى نمط من “ترييف” (من الريف) الحياة السياسية (باعتبار انحدار طبقة الضباط الثوريين في الغالب من الأرياف وليس من المدن العريقة). تستند هذه المقاربة المهيمنة في الفكر السياسي والاجتماعي العربي إلى خلفيتين عميقتين: أولاهما ترجع إلى الأدبيات التراثية نفسها التي تنضح بالنظرة السلبية لنظام الحياة البدوي الذي يوسم بالجلف والفظاظة والقساوة. وعلى الرغم من مقولة الجابري الشهيرة بأن “الأعرابي هو صانع العالم العربي”(بمعنى أن عصر تدوين العلوم الإسلامية الرئيسية رجع إلى لغة البدو ومألوفهم في التعبير والتأويل)، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الفقه الذي انتهت له السيطرة هو فقه علماء الأمصار، كما هو شأن النحو الذي توزع إلى مدرستي الكوفة والبصرة، وشأن المدارس الكلامية التي تركزت في مدينتي بغداد والبصرة.
وقد استنتج “ابن خلدون” من هذه الظاهرة التاريخية قانونه الشهير بأن “العلم صناعة حضرية”، في حين اعتبر أن الأعراب والبدو مسؤولون دوماً عن “خراب العمران” وتقويض استقرار الدول.
وإذا كان من الصحيح أن الكثير من الدعوات الراديكالية المتطرفة احتمت بالمناطق الجبلية والصحراوية في تاريخ الإسلام الوسيط، فإن السبب الحقيقي لهذه الظاهرة هو غياب هامش الانفتاح والتسامح في المراكز الذي حمل هذه الاتجاهات على التشدد والتطرف. إلا أنه مما لاشك فيه أن المناطق الصحراوية احتضنت تاريخياً كل الدعوات الإصلاحية والتجديدية قبل أن تستوعب في النسيج المديني. ففي الغرب الإسلامي، انطلقت دعوة المرابطين مما كان يعرف بـ”صحراء الملثمين”(بلاد صنهاجة أي موريتانيا الحالية بامتداداتها شمالًا وشرقاً) حاملة مشروع توحيد المنطقة عقدياً وسياسياً في مواجهة حركية الاسترداد الصليبي، وإلى هذه الدعوة تعزى بذور كل التقاليد العلمية الدينية في بلاد المغرب والأندلس والسودان (أي إقليم جنوب الصحراء المسلمة). كما أن الحركات الإصلاحية في القرن الثامن عشر انطلقت من المناطق الصحراوية جنوباً وشمالًا: السنوسية والمهدوية والشوكانية …
أما الخلفية الثانية فتعود إلى ما عبر عنه علماء الأنثربولوجيا بالوحدة العضوية بين الدولة والكتابة والمدينة التي تقصي من النسق الثقافي المعطى الانقسامي والشفهي. فعندئذ تغدو القبيلة عائقاً محورياً ضد الدولة، ويصبح الموروث الشفهي مجرد عنصر من المخيال الرمزي يقتضي التفكيك بحسب قواعد التأويلية المهيمنة.
والواقع أن الدراسات الاجتماعية الراهنة أبطلت هذا التصور المتجذر في الاثنوغرافيا القديمة، بإبرازها للمنطق السياسي المنسجم للمجتمعات الانقسامية وبإعادة اكتشافها للقبيلة ككيان أهلي فاعل لا يتناقض بالضرورة مع الدولة بل يشكل في الغالب قاعدة ارتكازها واستقرارها. كما أن القبيلة ليست وحدة عصبية مرتبطة بالمجتمعات البدوية التقليدية، بل هي ظاهرة متجددة في صلب نمط الاجتماع الإنساني، ولها صيغها الراهنة التي تندرج في منطق تفكك وتراجع الدولة القومية كشكل متجاوز في الحكامة السياسية.
ما نشهده حاليا هو إعادة التفكير في البداوة، بإعادة الاعتبار لها كأفق للتحول والتجدد والتحرر، في مقابل النسق المديني المسلح والمغلق الذي تم تجاوزه حتى في المنظور العمراني. فالعولمة التقنية والاقتصادية أفضت إلى إغلاق ما ادعاه “جاك اتالي ” قوس الاستقرار المديني في تاريخ الإنسانية، بإرجاع الإنسان إلى أصله البدوي المترحل الذي يأخذ اليوم أشكالاً جديدة غير مسبوقة. فليس من الصحيح أن ثمة إمبراطورية واحدة (أميركا) تتحكم في النظام العالمي، بل من شأن الإمبراطورية الراهنة (بمفهوم توني نغري) أنها لا مركز لها ولا موقع للتحكم فيها .إنها شبكة افتراضية لا حدود ولا تخوم فيها، ولا خارج عنها..
كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل “جيل دلوز” قبل سنوات أن التاريخ الذي كتبه المستقرون لم يستطع يوماً أن يفهم البداوة، داعيا إلى إنشاء علم جديد للترحل يكون نقيضاً لأوهام الفكر السياسي حول المدينة المتحضرة مقابل الصحراء المتوحشة. وما أحوجنا في الساحة العربية الى مثل هذا العلم.
جريدة الاتحاد