النص الحرفي لرسالة كيسينجر للعميد اده
وثيقة تاريخية تكشف وجوه المؤامرة
3 كانون ثاني 2010
اسكندر شاهين
كثيرون من المحللين والمراقبين الذين واكبوا الحرب اللبنانية وعايشوا تفاصيلها ضاعوا في تحديد ماهية هذه الحرب.
منهم من ذهب في وصفها بحرب لبنانية – فلسطينية، والبعض الآخر تحدث عن الصراعات الطائفية والمذهبية وكيف ان العائلة اللبنانية تصدعت من داخلها، وكثيراً ما كان الاشقاء المتحدرون من صلب واحد يتواجهون في خنادق متقابلة.
لم تترك صفة الا ولحقت بهذه الحرب ولكي لا ندخل في متاهة التحليل الذي قد يصيب او يخطئ، او يرضي طرفاً ليغيظ آخر يقول احد الضباط في المكتب الثاني، ان الحرب اللبنانية باختصار، وبدون ان نحمّلها اكثر مما حملت هي ببساطة مطلقة خطة وضعها هنري كيسينجر وزير خارجية اميركا وكان الهدف من ورائها الغاء الديموقراطية في لبنان، لان هذه الديموقراطية كانت الاساس وراء النظريات التي تهاجم اميركا والغرب، بينما كان كيسينجر يريدها ان تعصف بمحيط لبنان العربي.
ويضيف الضابط المذكور: ان رد كيسينجر على العميد ريمون اده في رسالة مؤرخة في 14/6/74 يتحدث فيها عن خطته التي عصفت لبنان ونشرتها آنذاك مجلة «الحوادث» في العدد الثاني من حزيران هي وثيقة تاريخية تتحدث عن الخلفيات والاسباب والدوافع التي حدت بأميركا الى اشعال الحرب في لبنان وجعله ساحة لحروب الآخرين.
وهذا نص الوثيقة من زاوية «من فمك ادينك يا اسرائيل.»
عزيزي مستراده،
وصلني النص الحرفي لترجمة كتابك المفتوح المؤرخ في 12/6/1976، عن طريق سفارة الولايات المتحدة في بيروت.
وخيّل اليّ للوهلة الاولى، ان شيئا خطيراً قد حدث في لبنان لان السفير الجديد مستر فرنسيس ميلوي نقله الى واشنطن مع اشارة «عاجل جداً. » لذلك تسلمته في مكسيكو خلال رحلتي الى بلدان اميركا اللاتينية، وانا الآن أجيب عليه من المقصورة الصغيرة بالطائرة الخاصة المعدة لرحلاتي المكوكية. لهذا اعتذر عن «المطبات» التي سأقع فيها لأن انشغالي بأمور كثيرة يجعلني عرضة لأخطاء غير مقصودة.
أحب قبل كل شيء ان اهنئك لأنك سلمت بطريقة عجائبية، من محاولة اغتيال. وهذا ثمن يدفعه كل سياسي في العالم، حتى في بلادنا.
وقد تستغرب ما نتكلفه – ماديا وامنيا – على حماية الرؤساء والمرشحين بعد مقتل الاخوين كنيدي… وبعد المحاولات المتكررة التي تعرض لها الرئيس الحالي مستر فورد.
كما أشكرك هذه المرة بالذات لانك رفضت ان تجعلني مسؤولا عن محاولة اغتيالك، بعد سلسلة الاتهامات التي ألصقتها بي، بحيث صورتني للرأي العام إلها صغيراً أعطي من القدرة والسلطان ما لم يعطه في الماضي للفراعنة والقياصرة!
لقد اكتشفت في العبارة الاولى التي افتتحت بها رسالتك كثيرا من النبل، عندما قلت «ليس لي شرف معرفتك.»
وانا ايضا ليس لي شرف معرفتك، مع انك – حسب التقارير التي تصلني من ديبلوماسيينا في بيروت – من اكثر السياسيين اللبنانيين شهرة وسط الجاليات الاجنبية. فأنت، حسبما اقرأ عنك، تتمتع بشهرة خاصة كعازب ظريف، ومعارض محترف، ودون جوان. وهذه صفات احبها.
ومع ان سيسكو قدم لي مذكرة بخلاصة حديثك الطريف معه، الا ان صراحتك زادتني فضولا وتشوقا لفتح حوار مطول معك حول الامور التي طرحتها. وفي مقدمتها ما قلته بأنني شخصيا اخطط لتقسيم لبنان، واعطاء قسم من جنوب بلادكم لاسرائيل، ثم السعي لتقسيم سوريا.
واخبرني سيسكو بأنك سألته: «هل يتقبل ان يتآمر اللبنانيون لاقامة دولة زنجية انفصالية داخل الولايات المتحدة؟ هذا ما يفعله كيسنجر في لبنان عندما يتآمر لاقامة دولة مسيحية ونسف صيغة التعايش»!
قبل ان اجيب على هذه الاتهامات يجب ان اعتذر لك مرة ثانية لانني تركت مكتبي عندما كنت انت مجتمعا مع سيسكو في الجناح الآخر من وزارة الخارجية، ونزلت الى المدخل الرئيسي لاستقبل السيدة غولدا مائير.
اني اعرف رأيك فيها كامرأة.. واعتقد اني سمعت رأياً مشابها لرأيك عندما تناولت طعام الغداء في منطقة نائية عن بيروت مع رئيس جمهوريتكم مستر فرنجية.
يومها سألني وزير خارجيتكم (اعتقد ان اسمه يبدأ بحرف الفاء لقد سقط اسمه من ذاكرتي) لماذا لا ازور هياكل الاعمدة الضخمة. واجبته بأنني على موعد مع غولدا مائير في تل ابيب، ولا استطيع ان اتأخر عن لقاء هذه العجوز لئلا ادفع ثمنا لا اريده. وسألني وزيركم عن الثمن، فقلت له ضاحكا: «إنها تجبرني على تقبيلها.»
واذكر انه قال لي بحسرة: «انا لا اريد لزيارتك للهياكل ان تكون سببا في عذابك. واعجنبي جوابه.
} الخداع }
وفي المرة الثانية علمت بانك عدت الى الولايات المتحدة لتجتمع بي بناء على وعد قطعته لك الانسة «م» ولقد اخبرتك في باريس بانها تعرفني جيدا، وانها كانت صديقتي، هذا صحيح انا لا انكر ذلك. ولكنها نسيت ان زوجتي تملك جهاز مراقبة يعمل لصالحها في مكتبي، مع انني بحكم مركزي، اراقب كل العالم لذلك افضل في المرة المقبلة، اذا انت قررت المجيء الى اميركا، الا تطلب موعدا عن طريق النساء!
والان مستر اده، لننتقل الى صلب الموضوع في كتابك المفتوح.
فانت تقول: «بان لبنان صائر الى الزوال بسببي .. وان شعبه لا يقبل بالفناء لكي تعيش اسرائيل… وان خطتي السرية تقوم على منح لبنان لسوريا – كما نسبت الي قول لبعض الاصدقاء كحل لتوفير السلم في المنطقة».
قبل ان ادافع عن نفسي احب ان اذكرك بزيارتي للبنان، يومها طلبت شخصيا من سفارتنا في بيروت ان تتصل باجهزة الامن عندكم وتلح عليها بوجوب تغيير مكان الاجتماع برئيس جمهوريتكم لاسباب تتعلق بسلامتي وذكر المسؤولون عن امني في السفارة الاميركية في بيروت، ان معلوماتهم تشير الى وجود صواريخ ارض – جو سوفياتية الصنع ستوجه الى طائرتي قبل هبوطها في مطار بيروت، وكنت بهذا العمل احاول ان امتحن مقدار السيادة اللبنانية… وقدرة السلطة على فرض ارادتها.
وبدلا من ان ترفض الدولة اللبنانية هذا الاحراج فقد انتقل رئيس البلاد الى مكان خفي، سري، ليجتمع بي عندئذ ادركت حقيقة انه لا وجود للدولة اللبنانية وان السيادة معدومة. وصدقني ان اللقاء القصير كان مضيعة لوقتي الثمين.
فقد سئلت اكثرمن عشر مرات عن الضمانات الاميركية لاستقلال لبنان وسيادته. ولم اجد لدى المسؤولين اية رغبة وطنية في تأمين هذه الضمانات. ولا اكتمك انني اجريت امتحانات عديدة من هذا النوع مع حكومات عربية اخرى.
ولكن جميع المسؤولين في الاردن او سوريا او مصر او غيرها، رفضوا تغيير بند واحد في برنامج الزيارة، واعتبروا ان الدفاع عن اي زائر رسمي هو مسؤولية داخلية.
لذلك اكتشفت خلال الساعات القلائل التي امضيتها في ثكنة عسكرية عندكم، انني في وطن هارب يختبئ من واقعه المتردي!
طبعا انا اعرف جوابك على هذه الصورة.
فالمسؤولية دائما وابدا تقع على الولايات المتحدة وانما ثق باننا حاولنا مرارا وتكرارا ان نتآمر على انظمة عديدة في العالم العربي – ولا نزال – وانما باءت كل محاولاتنا بالفشل.
لماذا؟ لاننا اصطدمنا بمقاومة وطنية وبمناعة داخلية. والزلازل لا تحدث الا في الارض المشقوقة. ولا اكتمك ان لبنان هو بلد مثالي لتحقيق المؤامرات. ليس ضده فقط، وانما ضد العالم العربي ككل من هنا اكتشفت في تناقضاته عناصر جديدة لنصب فخ كبير للعرب جميعا.
ولقد ابلغني الرئيس فورد مرة بفرح، ان النجاح الذي حققته خطتي في لبنان قد غطى على الاخطاء التي اقترفتها في التشيلي وقبرص وبنغلادش وانغولا. وانا شخصيا ما كنت اتوقع هذا القدر من النجاح.
صحيح ان وجود اسرائيل وسع حجم العمل، لكن التناقضات اللبنانية هي التي كانت تؤمن لنا استمرارالخطة وسلامتها .
مرة واحدة حدث خطأ عربي – اوروبي كاد يجمد حركة العملية -وسارعت بارسال دين براون (وهو مهندس سياسي اختصاصي بعمليات الشرق الاوسط) ولقد كشف بسرعة عن موضع الخلل، ثم اعاد ضبط الجهاز الكبير الذي يحرك الامور حسب الاهداف المطلوبة والخطة المرسومة.
}الخطة }
وقد تسأل، مستر اده، عن طبيعة هذه الخطة!
لا اكتمك بانني بدأت بشيء ثم انتهيت بشيء آخر، كان همي الوحيد ان ابعد الاتحاد السوفياتي عن مجال التدخل والحسم والمشاركة في حل ازمة الشرق الاوسط كما اسعى الى تأجيل مؤتمر جنيف والاعتراف بمنظمة التحرير الى ما بعد انتخابات الرئاسة الاميركية والانتخابات النيابية في اسرائيل اي مدة سنتين على الاقل.
ثم تشعبت مطامحي بعدما رأيت ان خصوبة الاحداث الدامية في لبنان قد اسقطت صيغة التعايش المطروحة، وبعد ان بدا لي ان ما كان يحلم به «موسى شاريت» عندما كتب رسالته الشهيرة الى بن غوريون (18/3/1954) اصبح سهل المنال.
فقد تحدث الرجلان الاسرائيليان يومها عن وجوب تقسيم لبنان الى دولتين طائفيتين.
وما دعاني استعمل عبارة شاريت حرفيا: «لا جدوى ولا فائدة في محاولة اثارة حركة من الخارج اذا لم يكن تعزيز روح حية اذا كانت تنبض من تلقاء نفسها. وليس من الممكن بعث الروح في جسد لا تبدو عليه دلائل الحياة».
هذا ما قاله حرفيا عن لبنان.
لذلك اريدك الا تجعلني مسؤولا عن خطة كانت اسرائيل تمهد لها منذ عام 1954.
صحيح انني افكر بخلق دويلات شبيهة باسرائيل بعدما فشلت في اقناع الدول العربية بفكرة الصلح الانفتاحي وفي قبول هذه الدولة الجديدة جزءا من المنطقة.
ولكن الصحيح ايضا ان الاحداث الدامية التي افتعلناها امنت لنا ارضية مثالية لتقسيم النفوس الموحدة، وتدمير صيغة التعايش، واحداث خلل اساسي في النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة.
وانا ارى بعكس ما يراه قداسة البابا والرئيس الفرنسي ديستان واكثر زعماء اوروبا، بان لبنان اصبح عبئا على الغرب لكثرة ما اعطت حريته من افكار كانت تستعمل ضدنا وليس ضد دول المنطقة.
لهذا قررت الغاء هذه الحرية بالرغم من معارضة فرنسا والفاتيكان وبريطانيا ودول اميركا اللاتينية.
ثم اجعل من نظامه نظاما ذيليا.
وانت تعرف جيدا ان طمس النظام اللبناني – ولو لمدة سنتين على الاقل – هو امر ضروري للتسويات المطلوبة. هذا، الا اذا نجحت في نقل الحروب العربية الى ساحته، كما حدث في اسبانيا، مع العلم بان هذه المغامرة قد تؤدي الى حرب عالمية.
تقول في آخر رسالتك «ان لبنان ما اساء قط الى اي بلد. ومن الواجب انقاذ استقلاله وسيادته، لان وجوده لا يزال ذا نفع للعالم».
وهذه نظرة عاطفية لا تليق برجل مثلي يتطلع الى جغرافية العالم من خلال مصالح اميركا… ومن خلال مصالح اسرائيل في المنطقة… والدليل على ذلك ان الحرب لن تتوقف في بلادكم اذا هددت امن اسرائيل. لان كل ما يحدث في المنطقة يجب ان يخضع لهذا المنطق.
وختاما تطلب مني، يا مستر اده، ان اثق بصداقتك المخلصة التي تكنها للشعب الاميركي.
وبالمقابل، اريدك ان تثق بان اخلاصي لاسرائيل (وانا يهودي الماني عرف الاضطهاد النازي) لا يعادله الا اخلاصي لزوجتي وبلادي الثالثة اميركا.
ولا تسألني ماذا افعل لكي اجعل اميركا تخدم مصالح اسرائيل.
لقد ساعدتني المنازعات العربية على توفير كل اسباب النجاح لهذه الخطة.
فهل انا مخطئ؟
اتمنى لك الشفاء العاجل، وارجو ان اراك بعد حين، لانني علمت بانك ما زالت تحلم بان الظروف قد تأتي بك رئيسا بعد ستة اشهر او سنة على الاكثر وهذا امريتوقف على ارادة الاحداث..
واحب في ختام هذه الرسالة ان اذكرك بعبارة ملهمي مترنيخ: «البعض يصنعون التاريخ. والبعض يكتبونه».
وانا شخصيا قررت ان اكون من صانعي التاريخ، وانت ماذا قررت؟
بانتظار جوابك
دمت للمخلص،