هل انهارت محكمة الحريري على يد الأمم المتحدة؟
3 تشرين ثاني 2010
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما قتل رفيق الحريري في ذاك اليوم الانقلابي في لبنان، سارعت الاجهزة الامنية اللبنانية لكشف الفاعل ببذل ما لديها من جهود كان يمكن ان تؤدي الى تحديد أولي للجهة الجانية، لكن المستفيد من الجريمة سارع وبكل ما لديه من نفوذ لسد الباب أمام تلك الاجهزة، ورفع اليد اللبنانية عن التحقيق ثم وضعه بتصرف «المجتمع الدولي» الذي يمسك بقراره ويسيره كما يشاء عبر مجلس الامن – الهيئة الاهم من هيئات الامم المتحدة واجهزتها- وسار الطرف الاميركي الصهيوني في خطته خارقا للدستور اللبناني وللسيادة اللبنانية مستفيداً من ادوات اوجدها في السلطة الانقلابية التي قامت بعد حزيران 2005، حيث سهلت او امتثلت لاوامره امتثال العبد لسيده والتابع للمتبوع الى ان رسا الحال على منظومة «قضائية دولية» تسيرها اميركا وتتدرج بها من «لجنة تقصي حقائق» كانت وظيفتها تسفيه الأمن والقضاء اللبناني وإظهار عجزهما، الى هيئة تحقيق دولي كانت وظيفتها إلحاق القضاء اللبناني بالتبعية لها ليعمل بامرتها وييسر اعمال مقولة الاتهام السياسي للانتقام من سورية، واخيرا وفي المرحلة الثالثة انشاء «المحكمة الخاصة بلبنان» لمحاكمة قتلة رفيق الحريري واقامة «العدل في لبنان» كما يدعون.
وفي الاجراءات الميدانية والتحقيق ظهر من غير ترك اي مجال للشك عند عاقل او منصف يبحث عن الحقيقة، ان كل هيئات العدالة الدولية المتعلقة بمقتل الحريري، لم تكن يوما قاصدة العدالة بل كان جهدها الانتقام والاقتصاص ممن يزعج اميركا و»اسرائيل»، – المقاومة بكل وجهوهها انظمة سياسية رسمية او تنظيمات شعبية – ومن اجل ذلك سار التحقيق خلافا لابسط قواعد العلم الجنائي، خاصة في قاعدته الاولى التي تقوم على البحث في الميدان والتقاط الدليل الجدي وتتبعه لمعرفة الاتجاه الذي يقود اليه لاتهامه او الظن به على اساس انه الفاعل، بينما قام التحقيق الدولي بسير معكوس.
ففي مرحلة معينة حدد التحقيق مسبقا ان سورية هي الفاعل ثم راح يجمع الادلة لتبرير الاتهام ولما لم يجدها قام بتصنيعها فنشأت منظومة شهود التلفيق والافتراء والزور التي رغم كل ما دعمت به وأغدق عليها من مال لم تستطع ان تصمد امام نور الحقيقة فتساقطت وهي تهدد الآن بسقوط الجهة التي صنَّعتها من لبنانيين بعضهم في السلطة الرسمية الآن ومن اقليميين دولاً واعلاماً،و من دوليين وعلى رأسهم اميركا التي اتخذت من الجريمة مدخلاً لمحاسبة سورية واخراجها من لبنان. لقد باتت منظومة شهود الزور جثة نتنة وكابوساً على مصنيعها لذلك يرفضون فتح ملفها كما يرفضون محاسبتها ويرفضون محاكمتها لانهم يرون في ذلك كارثة عليهم وعلى مشروعهم وعلى ما تبقى من كذبة اسمها «المحكمة الدولية». ان رفض هؤلاء المصنعين للزور والتزوير محاكمة شهود الزور محاكمة جدية وسريعة لا تتم الا عبر المجلس العدلي، لا يفسر الا برفضهم للحقيقة وهو على اي حال موقف يتخذونه للدفاع عن انفسهم ومنعا لفتح ملف جرائمهم بحق لبنان وسورية على السواء. وبتقييم عام للمرحلة الاولى نقول ان المخطط حقق اهدافه، لكنه لم يستطع الاحتفاظ بها خاصة وان سورية اليوم في لبنان ليست اقل قوة مما كانت عليه في لبنان في العام 2005، وان المخطط محاصر اليوم بملف شهود الزور اكثر مما يهول به او يحاصر الآخرين بالاتهام السياسي. وان الرافض لمحاكمة شهود الزور يشهد على نفسه وبكل بساطة بانه المجرم الرافض للحقيقة والهارب من العقاب.
اما في المرحلة الثانية، وبعد ان فرغ اتهام سورية من محتواه والاهداف، فقد تحول التحقيق الدولي الى اتهام جديد وحدد حزب الله متهما بالجريمة، وكالسابق راح يصنع الادلة التي تبرر الاتهام، وهنا كانت مهمته اكثر تعقيداً، فبعد سقوط شهود الزور الذين اجمعوا على اتهام سورية، لم يعد بالامكان تصنيع منظومة جديدة خاصة وان 5 سنوات مضت على الجريمة كافية لاسقاط صدقية اي شخص ينبري اليوم للاتهام اذ سيسأل بكل بساطة اين كنت خلال الزمن الطويل الماضي.
لهذا السبب كان «الفكر الشيطاني» جاهزا لتقديم الحل للمحقق الدولي عبر اعتماد شبكة الاتصالات في لبنان، وانتاج لوحة متكاملة وشاملة لا تترك ثغرة الا وتسدها، لوحة فيها ما يشبه عند العسكريين «الحرب الهاتفية» التي فيها اتصالات هاتفية سلكية ولاسلكية تحمل اوامر وتقود مناورة. اما التقنية فهي جاهزة عبر اسرائيل التي خرقت شبكة الاتصالات اللبنانية بشريا وتقنيا الى الحد الذي مكنها من : تصنيع اتصالات لم تحصل، والغاء اتصالات كانت قائمة، وتعديلا في توقيت ومدة الاتصالات المنفذة، وتقديم ذلك الى المحقق الدولي بشكل يظهر ان أفراداً من حزب الله واستنادا الى الاتصالات التي اجروها قبل الحدث واثناءه وبعد ه، هم الذين نفذوا الجريمة، والدليل برأيهم قاطع على ذلك ويستند الى قاعدة المعلومات في شبكة الخليوي «التي لا يرقى اليها شك». ولهذا كان المحقق الدولي مطمئناً ينام قرير العين لانه نفذ المهمة المطلوبة منه واسند اتهامه الى دليل تقني علمي قاطع. وهذا ما يفسر ايضا طمأنينة كل من عمل في الشأن من اللبنانيين الذين روجوا لفكرة الزلزال الآتي من القرار الاتهامي، وكذلك من الدوليين.
ولكن وفي توقيت قاتل جاءت الصفعة لكل اولياء القرار الاتهامي وادواتهم، جاءت هذه المرة من الاتحاد الدولي للاتصالات الذي هو احد الاجهزة المتخصصة التابعة للامم المتحدة، صفعة شكلها قرار الاتحاد بادانة «اسرائيل» لخرقها قطاع الاتصالات اللبناني وسعيها لإشعال الفتنة في لبنان عبر ذلك. أن هذا القرار الذي يأتي من اعلى هيئة دولية تعنى بالاتصالات وامنها يجهض وبشكل لا مناقشة فيه اي استعمال لقاعدة المعلومات في اي مسار جنائي لان من يتلاعب بحرف يتلاعب بكل الكتاب والمسألة مسألة ثقة وصدقية وبما ان عدو المقاومة « اسرائيل» هي المتحكمة بقاعدة المعلومالت فلا يكون للقاعدة هذه اي صدقية كما هو حال شهود الزور، وتأسيسا عليه يكون الاتحاد الدولي قد حرم المحقق الدولي من عنصر الادلة الوحيد الذي يستند اليه في اتهام حزب الله، وبعد سقوط شهود الزور تسقط بيانات التزوير، ويرى بلمار نفسه خالي الوفاض الا من التحقيقات والادلة التي جمعها الامن والقضاء اللبنانيان في اربعة اشهر ولم يستطع التحقيق الدولي ان يضيف اليها شيئا حقيقياً وصحيحاً في اربع سنوات رغم المليار دولار التي انفقها.
هكذا وبعد اسقاط حجة قاعدة المعلومات وعلى يد منظمة دولية اساسية وتعقيد مهمة بلمار باتهام حزب الله يطرح السؤال هل تستمر محكمة الحريري ؟ ام سيكون للامر اتجاه آخر ؟ في ظاهر الامور قد يكون التجميد، لكن ضحايا التلفيق هل يسكتون على ما اصابهم من ضرر خلال 5 سنوات؟ وهل يسكت اللبنانيون على خسائرهم قبل الجريمة وبعدها من مال وسيادة وامن.؟ قد يكون الجواب الذي نملكه سابقاً لاوانه في الطرح لكن يكفي ان نقول بأن قرار الاتحاد الدولي عطل محكمة الحريري في وظيفتها المطلوبة اميركيا، وعلى من يحترم نفسه وعلمه ممن هو في هذه المحكمة الآن أن يتخذ القرار الذي به يحمي اسمه وتاريخه.
* عميد ركن متقاعد وباحث استراتيجي وأستاذ في كليات الحقوق اللبنانية
عن مجلة البناء