ويكيليكس الجزيرة
احمد حسين
من أكبر الأدلة على غرضية الضجة التي أثارها موقع ويكليكس، أنه يقتصر في الوثائق التي يقدمها على المخالفات الديبلوماسية ” للسياسة الأمريكية، بهدف التمهيد لشيء ما، أو للتغطية على جرائم أمريكا الحقيقية ضد شعوب العالم الثالث وأفريقيا. حتى الآن تبدو الوثائق المنشورة وكأنها تسويق لأمريكا، من خلال، لعبة كوميدية سوداء تسعى ” لتلويث سمعة ” مجرم عالمي سفاح بجريمة التحرش الجنسي، أو مخالفة قوانين السير. فحينما تتهم شخصا بأنه غير مهذب فإنك، من المؤكد،لا تقصد شجبه، إذا كنت تعرف أنه عديم الأخلاق تماما، وإباحي. على العكس من ذلك، أنت تقصد بهذا الوصف التضليل عن حقيقة كونه منحطا، وأسوأ بكثير من كونه غير مهذب. فلو قدم ويكيليكس، بعض الوثائق عن الحرب العالمية الثانية، ودور المخطط الأمريكي التنكيلى بأوروبا، والتسبب في تدمير قارة، وموت ملايين وملايين البشر من شبابها، لريما صدقنا نواياه. ولو قدم نموذجا واحدا من جرائم الإبادة بالمجاعات، والأوبئة المخبرية التجريبية، والحروب الأهلية، على ساحة الشعوب العالمثالثية، وخاصة الإفريقية منها، لأثبت مصداقية لا يرقى إليها الشك. لقد تمادت أمريكا بتطبيق أساليبها التراثيه المشهودة ’ في إبادة الهنود الحمر، على بعض شعوب العالم الفقيرة، التي تستهلك كل ثرواتها العائمة، لوضعها على طريق التنمية الأمريكية قسرا، لنهب ثرواتها المخبوءة في باطن الأرض. لقد منحت كل شركاتها العملاقة ضمنيا، شرعية مطلقة في تحقيق هذا الهدف، بكل الوسائل التي تراها، وخارج أية مسائلات. في حين قامت بإدخال الدول النفطية، ودول الناتج المحلي الأخرى، تحت حذائها الأقتصادية، وحولتها إلى وكالات عمالة أسرية على الغالب، مهمتها حراسة تلك الثروات المسروقة من شعوبها. فلماذا لم تتطرق وثائق ويكيليكس لهذا الجانب؟ لا أظن أن أحدأ ممن يهتمون بدراسة الظاهرة الأمريكية، كان سيعنى، قياسا على ما يعرف، بتسجيل أو ذكر ” مخالفات السير ” التافهة عن أمريكا، التي قدمها ويكيليكس، وهو يدق طبول الحرب عليها. ماذا أضافت وثائقه، للجرائم العلنية التي أرتكبتها أمريكا في هذا العالم، والتي لا يوجد لها مثيل في التجربة. لقد دخلت أمريكا العالم من باب الجريمة المبتكرة. دخلته من باب ألاباء المثاليين والمتدينين الذين أبادوا ملايين السكان الأصليين في الأرض الجديدة وهم يرددون الصلوات. دخلتها من باب الحرب العالمية الثانية التي عملت على إشعالها وجني ثمارها. دخلتها من باب هيروشيما وناجازاكي. وهي الآن تتفوق على نفسها في العراق وأفعانستان وأفريقيا.
وإذا كان الإنسان العادي مثلنا، لا يعرف بالتحديد ما هو الهدف من وراء الضجة الفارغة في حادثة ويكيليكس، فإن الأمر يختلف قليلا في حالة قناة الجزيرة. فنحن نعرف سلفا ما هي ومن هي قناة الجزيرة، وهذا يساعد على الاستشفاف ” الظني “، كما أن السياق الذي يتحرك داخله ويكيليكس الجزيرة، هو سياقنا النكبوي تابعناه لحظة بلحظة، وقلوبنا تنزف قهرا. ولكن السهل حينما يصبح أسهل في العقل من المعاينة، فمعنى ذلك مطالبة العقل بالرجوع إلى الخلف ليقرأ وثائق ويكلكس الجزيرة. لماذا؟ هذا السؤال ليس صعبا وليس سهلا. ليس صعبا من ناحية أن أمريكا تريد ذلك. أما من حيث الهدف من ورائه، فذلك ليس من شأن، المعلق أو المذيع. فهم يؤدون “وصلات” إعلامية مقررة سلفا، وبمقاييس مسبقة، مثل صانع التوابيت. وباعتقادي أن ما يجري في قناة الجزيرة، لا يستهدف رجال الكورس التفاوضي، الذين اختيروا ليؤدوا دور النكرات المسرحية. فالذي قالوه أو لم يقولوه، ليس له أهمية سياقية أو نصية في المسرحية. كل الأهمية لظهورهم التكميلي على مسرحية المفاوضات. فلماذا تريد قناة الجزيرة بأنهم كانوا يفاوضون ويقبلون ويرفضون، وأن هناك قرارات إسرائيلية أو أمريكية كانت تتخذ على ضوء لعبة المفاوضات. كانوا في هذه الحالة سيكتفون بفياض للتوقيع عن البقية. وأعتقد، ليس جازما بشأن الهدف من ويكيلكس وزير خارجية قطر في قناة الجزيرة، أنه مجرد تشويشات أوبامية وأردوغانية بالغة التخفي والحذر، على نتنياهو الذي مسح بهما الأرض. تريد الجزيرة أن تقول بالوكالة، أن الفلسطينيين لم يكونوا ممثلين في ” المفاوضات “، منذ أن بدأت، لأنها كانت لعبة مسرحية أحادية الجانب، وأن عليه أن يعد نفسه الآن للتفاوض ليس مع الفلسطينيين الجدد فقط، بل مع الدور الإقليمي الجديد لتركيا وإيران أيضا، ومع المجتمع الدولي في الجمعية العامة. أي أن نتنياهو الذي كان يستعد لتهويد كامل فلسطين وأجزاء أخرى من مملكة شلومو، ربما يجد نفسه أمام العودة إلى مفاوضات التقسيم. إحتمال آخر، وارد جدا هو التعتيم على ما تعده أمريكا لإجهاض أول ثورة اجتماعية في العالم العربي منذ ثورة يوليو، في تونس، والإستيلاء عليها وتسليمها لحليفها حزب النهضة. وكذلك ما ظلت تحاوله في مصر من إقناع مبارك بالتحالف مع الإخوان المسلمين، وسعيها اليوم إلى تسليم ثورة مصر الشعبية، إلى حلفائها الشرعيين من الإخوان المسلمين وحزب الوفد الليبرالي.
وليس المهم أن يكون هذا الكلام صحيحا بالتمام والكمال. ولكنه على ضوء المعطيات له دور مؤكد، بين أشياء أخرى، يرمي إليها ويكيليكس الجزيرة. يهمنا فقط أن نحذر الثورة التونسية والمصرية من إهمال أو تصديق ما تقوله قناة الجزيرة. عليهم تحليل عروضها الإعلامية، من منطلق إعرف عدوك لاستشفاف النوايا الأمريكية في هذه الظروف الحاسمة.
هؤلاء الأعداء، في ظروف الهبة الشعبية الحالية، التي ستعم الشعوب العربية، هم أمريكا وإسرائيل وحركة الإخوان المسلمين وأحزاب الليبرالية واليساريين اللاقوميين، الذين يكونون بنية مصالح مشتركة كثيرة، ليس من بينها واحدة أكبر من المحافظة على الفراغ الشعبي والقومي في الوطن العربي، ليواصلوا استباحة الوطن والبشر والثروات. ولا أدعي أن لدي وثائق مثل وثائق ويكيليكس الجزيرة، أو انني باحث سياسي مجاز، أو عميل أمريكي مطلع، فالأمريكان لا يمكن أن يطلعوا عملاءهم بالذات على أسرارهم. أنا أزعم أن أمريكا لم تعد تريد أو تستطيع إخفاء استراتيجيات عولمة بحجم الكون، وآليات أخطبوطية مليونية الأذرع. فلم يعد على المهتمين بالسياسة سوى أن يعرفوا طبيعة المسخ الأمريكي، ويتابعوا حركة الطفيليات التي ترتزق على قذارات جسده، ليتوقعوا بناء على ذلك منطقه السلوكي. أما محاولة قراءة المهرجانات الويكيليكسية، ومباريات قراءة فناجين السياسة في الندوات الفكرية، وإعلام أنظمة إربح المليون، فهي تفيد في التخلص من مشاكل الهضم، ووجع الرأس، وحمى الخجل. أمريكا أوضح من الطاعون. والدواء منها تسليم النخب للشعوب وليس تسليم الشعوب للنخب وصيدليات العولمة الأمريكية.
عن مجلة كنعان الألكترونية