الثورة، ومسامير جحا..؟!
أحمد حسين
ليس للثقة مكان في الأسواق على اختلاف أنواعها. والسياسة سوق شرعية للمكائد باتفاق ضمني بين الدول، وفي العلاقات الاجتماعية الطبقية. لذلك لا يتعامل بالثقة وحدها إلا السذج والمغفلون. هناك مكان للثقة، التي يجب أن تبقى دائما افتراضية فقط، إذا كانت محمية بوعي المعرفة وشرعية الشك، وآليات المراقبة والاستطلاع والحذر. وعند اقتران الثقة بالتسليم الاعتباطي، فالصدمة قادمة بدون شك. والشبهات تلغي منطقيا أي اعتبار للثقة، لأنها مؤشر على عدم الوضوح.
لقد كان موقف القمة العسكرية في مصر أثناء الثورة، عبارة عن موقف واضح الغموض. موقف للجيش بين الثورة والنظام، ولكن خيوط الإرتباط فيه مقصورة على النظام. والثورة المصرية كان من الواضح أنها حركة قائمة على القطيعة التامة بين الشعب والنظام، لا خيارات أخرى فيها، كما ظل الشعب المصري يعلن طيلة الوقت. فهي ليست ثورة إصلاحية أو تعديلية تطال أوضاعا اجتماعية مفردة، أو أشخاصا بعينهم داخل النظام، فقط. فكان على الجيش إذن أن يظل في ثكناته مع النظام أو يعلن قطع علاقته به، قبل نزوله إلى الشارع، ليحمي الثورة كما كان يتردد. فكيف يحمي الثورة وهو يتلقى أوامره من الطرف الآخر؟ وممن كان يحمي الثورة بعد انهيار أجهزة القمع في المواجهة ومغادرة الساحة؟ كان يحمي من إذن؟ الشعب من النظام أم النظام من الشعب، أم جهة أخرى من الإثنين؟
لقد كانت حركة الجيش واضحة الغموض إذن لمن أراد. هل كان الجيش ينفذ أوامر القمة العسكرية التي كانت طرفا واحدا مع النظام ضد الثورة، فنزل إلى الشارع ليساعد النظام على لعبة كسب الوقت؟ أم كانت له مرجعية أخرى، ولعبة موازية تجريها من وراء ظهر الشعب والنظام معا، هدفها إسقاط مبارك والحفاظ على جوهر النظام؟ الإمكانية الثانية، كانت هي لعبة أمريكا الواضحة المعالم، التي بدأت مع عودة البرادعي إلى مصر. كانت أمريكا قد بدأت لعبتها ضد مبارك قبل الثورة، ولكن الثورة الشعبية فاجأت الجميع، بعمقها واتساعها وقوتها الشبابية، وأربكت كل الحسابات، مما جعل أمريكا تدخل ساحة المضاربة لاحقا باحتياطيها داخل الجيش المصري.
وبما يخص علاقة أمريكا بمبارك، فهذه ليست مجرد شبهات. كان هناك سياق ذو وضوح نسبي لم يكن تجميع خيوطه صعبا. هناك انحياز النظام المصري الواضح لإسرائيل في خلافها مع أوباما في المنطقة. وهناك وضوح أكبر في قضية التوريث، والخلافات مع الإخوان التي كانت في طريقها لحل الجماعة وإخراجها عن القانون،عكس رغبة أمريكا كليا. وكانت هناك لغة التثاؤب بين الإدارة الأوبامية ومبارك. وكان هناك إعلام فضائية الجزيرة (فضائية أمريكا والجماعة وآل جبر) الذي بلغ قمة الجمال والشفافية في عدائه لمبارك شخصيا. وكم هو مثير للغثيان والشبهة تهافت بعض المفكرين والمثقفين المصريين على الظهور على شاشة الجزيرة النابغة، متجاهلين دورها عمدا، لغاية في نفوسهم. لقد بلغت علاقة الجزيرة بمبارك حد الصدام قبل مفاجأة الثورة. وقد ظن البعض أن استرسالها الشهم في تغطية أنباء الثورة المصرية، والتحقيقات المطولة الذي كانت تبتز فيها المعلومات ابتزازا من بعض الأشخاص، كان تعبيرا عن ميلها للثورة. والحقيقة أن نوابغ الجزيرة من المذيعين والمذيعات، كانوا يمثلون الموقف الأمريكي من مبارك، ونفاقها المسموم للشعب المصري وثورته. كل هذه الخيوط كانت تشير إلى حقيقة الموقف الأمريكي ونواياه.
وبالعودة إلى الجيش المصري، نستطيع أن نتبين ما يشير إلى خضوع قيادته للضغوطات الأمريكية. من ذلك، أن يتطوع بيانه رقم كذا إلى تأكيد التزامه بالاتفاقيات الدولية. فالتطرق إلى مثل هذا الموضوع الغائب عن الظروف، والذي ليس أصلا من صلاحيات مجلس عسكري مهمته إدارة الشؤون الداخلية للبلاد بشكل مؤقت، يدل على أنه وليد ضغط خارجي، ليس من حق مجلس تصريف الأمور العسكري أن يمتثل له بالنيابة عن أي نظام قادم، خاصة وأنه موضوع جوهري في المعادلة الثورية. كما لم تقم أية دولة بإثارته رسميا، إلا إذا اعتبرنا أن علاقات مصر الدولية تدار من خلال التصريحات الصحفية لكلينتون وأوباما. كما أن أية جهة رسمية في مصر، لم تعلن تنكرها للاتفاقيات الدولية المعقودة مع مصر. وباختصار فإن إعلان هذا الالتزام، يمكن تبريره، فقط بالإيعاز غير الموثق بالنوايا. وهذا أمر مقلق. والتفسير الذي أدلى به المحلل العسكري المتقاعد السيد الزيات لقناة الجزيرة لم يكن موفقا بالمرة.
والأمر الذي يجب أن يستفز عقل الثورة ومؤيديها، هو تعيين أحمد شفيق رئيسا لحكومة تصريف الأعمال. إن “مسمار جحا” هذا لا بد أن وراءه شيئا. ولن تنفع في سبب اختياره أية حجة مقنعة للشعب المصري. قد يقال أن الجيش قد اختاره بسبب الحاجة إلى خبرته الإدارية. ولكن ألم يكن من الممكن تعيين مجلس وزراء من التكنوقراطيين الأكفاء ورجال القضاء وممثلين عن الثورة، وإسنادهم بمستشارين سابقين من مختلف الوزارات السابقة؟
إن أكثر شيء محزن حدث للثورة الشعبية في مصر هو دماء الشهداء الذين سقطوا بيد الغدر. ولكن الأمر الأكثر حزنا أن لا يكون للثورة آلية واضحة تقف لتسائل المجلس العسكري عن مغزى بعض الأمور في قراراته وخطابه، أو أن تكون هذه الهيئة عاجزة عن تمثيل الحد الأعلى لمضمون الثورة. إن الشهامة والطيبة لا ينفصلان. والشعب المصري شهم إلى أبعد الحدود كما هو معروف عنه وكما أثبت على أرض الواقع، ولذلك فهو حتما طيب بمدى ما هو شهم، وعرضة للتسامح مع بعض تصرفات الجيش من خلال ثقته به وثقته الحالية بنفسه. ولكن الأمور الآن من الحساسية العملية بحيث لا تحتمل المخاطرة. وعلى النخب الثورية الشبابية، أن تحمي طيبة الشعب من من مسامير جحا المشهورة. إن من واجب الثورة لحماية نفسها وحماية مجمل شرائحها الشعبية، أن تقوم بالبحث عن تلك المسامير واقتلاعها، لا أن تسكت عن غرسها في لحمها. وإذا بدا أن مسامير النظام ومسامير أمريكا وربما إسرائيل في الجيش المصري، تحاول الحفاظ ولو على نفس واحد يتردد، لأحد من أصحاب تلك المسامير فعلى الثورة أن تعود إلى ميدان التحرير، لتفرض فرزا داخل الجيش بين أبناء مصر وأبناء أمريكا والنظام البائد.
إن أخبار الفساد المالي بعينية أشخاصها، ليست هي القضية الآن. وربما يكون التركيز عليها خارج سلة المبادئ الأساسية للثورة، كما تفعل قناة الجزيرة، هي لعبة مقصودة مثل ألعاب صرف النظر عن رداءة الفن، إلى سير الفنانين الشخصية. وأخطر ما يمكن أن يحدث للثورة الآن هو خفض الوتيرة وتبريد الوعي والالتزام. إن هذا الأمر يجب ألا يحدث خلال عقد من الزمان، وأن تبقى مبادئ الثورة هي النظام بعينه، حتى تصبح جزءا من التزام الوعي والعفوية المعرفية لدى الشعب المصري. يجب أن تمكر الثورة بأعدائها كما يمكرون بها، وأن تحمي ثقافة الثورة في هذه المرحلة التكوينية من الاهتزاز قيد أنملة. وأن تحارب تسلل الطوباوية إلى وجدان الجماهير. وإلا فقد يمضي زمن الثورة، ويأتي زمن البكاء.
إن أمريكا شر خالص، وعقل خالص، ومصلحة خالصة. فهل سلمت بثورة يوليو لتسلم بثورة بثورة يناير؟ من يستطيع أن يمحوا الظلم والقمع والتجويع والاهانة ونظام مبارك من ذاكرته، فلينس أمريكا. أما قبل ذلك فإنه انتحار. وعلى الجيش أن يفهم هذا بغض النظر عن أن ما قيل بخصوص الشبهات هو صحيح أو غير صحيح. فمربط الفرس ليس موضوع النزاهة بالمطلق. مربط الفرس هو التزام الجيش بالثورة وليس العكس. وهو ما يجب على الشعب المصري أن يتأكد منه باستمرار، بدون تحفظ أو تسليم.