مصر: حتمية البديل هي ذاتها حتمية الإنتصار
أحمد حسين
على المستوي العملي، لم تصل ثورة الشعب المصري حتى الآن في إحداث الفراغ الذي يتحتم عليها أن تسعى إليه لتحقيق حضورها الثوري على حساب حضور النظام، وهو ما تسعى إليه كل ثورات التغيير منذ اللحظة الأولى لاندفاعتها. ويبدو أن هذه الثورة حاضرة بالوعي والغضب الثوري والإستشهادي ووضوح الهدف، ولكن بدون محاولة فرض أوضاع من الأمر الواقع على النظام بالقوة، مثل احتلال مؤسسات أو مواقع حيوية، أو خلق ساحة تواجد آمنة نسبيا على الأرض لا يستطيع النظام التحكم فيها. لقد كان وعي الثورة منذ البداية ضحية للعفوية، ولكنه كان أيضا ضحية للشعار الخبيث حول سلمية الثورة. فلا يوجد أي معنى حقيقي لهذا الشعار المضلل، سوى أنه عنوان تفريغي قامت بارتجاله اوساط التواجد السياسي من معظم الفئات، كي لا يتم تجاوز وجودها وأجنداتها ” المعارضة “، أو لأن التغيير ليس في مصلحتها.إن المعارضة النظامية في جميع الأحوال، جزء من عضوية النظام السياسي الذي يتيح لها فرصة التنظيم، لتحقيق طفيليتها الإجتماعية، داخل توافقات سجالية آمنة مع النظام، بهدف التواجد على هوامش الإنتفاع. وفي ظروف تهديد بنية النظام التي هي امتداد اصطلاحي لها، من جانب قوة جديدة تنشد التغيير الجوهري وليس التقليدي، فإنها تشعر بالخطر على وجودها أكثر من النظام نفسه. إذ ليس أمامها فرصة استبدال سيد بسيد، في حالة اختلال الميزان الطبقي بشكل عميق، يطال الأسس التقليدية للحياة السياسية. فجوهر معارضتها القصوى للنظام، هو أن تحل محله.
لقد قدم شعار الثورة السلمية، للنظام والفئات السياسية المتناثرة في ساحته، فرصة لتجنب التهميش وإحداث الفراغات، ومحاولة الحد من ثورية المشهد، واحتجازه نسبيا داخل مشهد أقرب للتظاهر والإحتجاج والمطالب الإجتماعية الإصلاحية. وعمليا استطاعت تلك الفئات سواء كانت من داخل النظام أو خارجه، أن تختطف الفراغ المعنوي الذي أحدثته الثورة حول النظام، وليس في ساحته الداخلية، وأن تملأ مواضعها التي كانت أقرب إلى الفراغات قبل الثورة، بالزخم الفئوي المجاني الذي أتاحته لها الثورة، وتدور حول كل أطراف اللعبة المعادية، باقتراحات الحوار، وكأنها تتكلم باسم ” مشهد الإحتجاج ” الذي قامت ” بتوصيبه. وبينما كان الشباب الثوري مشغولا بالتحشيد ومقاومة هجمات البلطجة النظامية، كان ممهتنو البلطجة السياسية، يحاربون الثورة على طريقتهم، بإطلاق مصطلحات التحجيم على الثورة ” الإحتجاجية “، وعقد مزادات الحكمة والحوار والسجالات السلمية مع النظام الذي أصبح في وضع المساومة.
لا يوجد شيء مسبق أسمه ثورة سلمية. فالثورة هي سياق لفرض التغيير. إلغاء القديم وفرض الجديد. وإذا كانت الثورة لا تتضمن التغيير وإنما الإنقلاب فقط على عينية الحكم، تسمى تمردا. وقضية العنف الثوري في الحالتين ليست هدفا بذاته، أو حتمية سياقية للثورة، ولكن الهدف هو حتمية تحقيق السياق، الذي قد يحث سلميا إذا تخلى النظام عن المقاومة. أما في حالة المقاومة من جانب النظام فإن العنف يصبح حتمية سياقية نسبية للثورة، أي في حدود اللزوم الموضوعي فقط.
لم يكن على الشباب الثوريين أن ينساقوا بالطيبة مع شعار سلمية الثورة. ولم يكن عليهم، وبالطيبة أيضا، أن يجيزوا لغيرهم الحديث عن طبيعة الثورة وأهدافها. ألم يكن بوسع الشباب الثوري أن يختار ناطقا باسم الثورة يجيد عرض أهدافها فقط، ويتكلم عن سقف يتصاعد باستمرار، لقطع الطريق على كل أجندات التكسب، ثم يقوم بإصدار البيانات والأوامر اليومية للثائرين، كرد دينامي للمواجهة، يتعامل بشكل غير مباشر، مع الهجمات المعنوية التي يقوم بها أصحاب الأجندات الخاصة، وبشكل مباشر مع إعلام النظام؟ ألم يكن بوسعهم على سبيل المثال تشكيل هيئة إعلام ثورية مكونة من ثلاثة أو أربعة، من أساتذة كليات السياسة والتاريخ والإستراتيجية، ممن يؤيدون الثورة، ولو للقول أن الثورة قائمة ومتنامية وموجودة ديناميا وهي تمثل الجميع ولا أحد يمثلها؟ أتساءل فقط لم لم يحدث ذلك؟ هل الذي منع ذلك، كما تردد قناة الجزيرة، هو تواجد فئات الشباب المسلم وغيرهم من الفئات الأخرى كل بأجندته الخاصة؟ طبعا يجب الحذر من كل ما يتناوله المحققون في تلك القناة المجندة، ولكن أليس على الجميع الإلتزام بأجندة الثورة كما يصرح بها الناطق واللجنة الإعلامية، والإمتناع عن التمثيل الموازي، أو الإنصراف؟ أسبوعان كانا كافيين لترتيب هذا الأمر كما أعتقد، فماذا كان المانع.
بالطبع لم يفت الوقت، ومحاولات كسب الوقت التي يحاولها النظام،تصب في الحقيقة في مصلحة الثورة، لترسيخ وتعميم ثوريتها، وتنظيم آلياتها. فالثورة باقية، والنظام هو الذي يداهمه التحول والإنحلال. فالقائم هو سياق ثورة شعبية بكل المقاييس، وليس سياق زفة انتخابية، ولكن وقت الثورة يقاس أيضا بالإنجاز الميداني المتسارع، كجوهر للأداء الثوري. ستأخذ الثورة وقتها الموضوعي، ولكن كل وقت ضائع سيزيد من الأعباء وفوائض الخطر. فهناك اجندات دولية، أمريكية وإسرائيلية على الأخص، يجب حرمان أجنداتها من الوقت. أنها أجندات براغماتية مئة بالمئة، لذلك يمكن أن تتقاطع محاورها في التكتيك على نسق المتغيرات، وليس على نسق الثبات الإستراتيجي. ومعنى هذا هو أعباء جديدة ومواجهات جديدة، للثورة.
أوباميا – ديموقراطيا، يجب إسقاط مبارك ونظامه، فلم يعد لهما مستقبل على الساحة المصرية. ويجب إقامة نظام ديموقراطي انتخابي يكون فيه أكثر ما يمكن من التعددية الحزبية، لتسهيل السيطرة عليه. الليبرالية واجهة للحكم الديموقراطي، والجماعة هم رجال الكواليس الذين ليسوا معنيين بالحكم المباشر حاليا، بسبب استراتيجيتهم الخلافية، التي لا يريدون تعريضا لامتحانات صعبة، وبسبب ارتباطهم في إطار حركتهم بأجندة معولمة إسلاميا. ويمكن الضغط عليهم بسهولة بسبب استثماراتهم المصرفية الهائلة في الغرب، وارتباطهم الإيديولوجي بالرأسمالية العالمية. سنثبت نتائج كامب ديفيد كلها بنظام تابع ولكن أكثر ديموقراطية فقط، وليس أكثر تطرفا دينيا أو قوميا.
والسيناريو الأمريكي الآخر، هو السيناريو الجمهوري- الإسرائيلي. مبارك سيموت قريبا، وربما سنساعده قليلا على ذلك. بقاء نظامه هو الضمانة الوحيدة الممكنة لبقاء كل شيء على حاله. واستمرار معاهدة السلام مع إسرائيل، هو الشيء الوحيد الذي سيظل يغنينا عن التدخل العسكري في المنطقة. يجب ألا تسفر الثورة المصرية عن أي تغيير في الحالة السياسية المصرية، وإلا ربما علينا التفكير جديا في التدخل، فإن إسرائيل، إذا سقطت اتفاقية السلام المصرية ستضطر إلى الحل العسكري، ونحن معها بالطبع. كما أن انتقال الثورة إلى ساحات عربية أخرى هو مؤكد أيضا.
من المؤكد أن سياق الثورة المصرية لن يتوقف حتتى تحقيق أهدافه. إنه رهان مضمون لأنه سياق شعبي بكل المقاييس، له كوادره ونخبه التي يجب أن تجترح تنظيمها الثوري العاجل، ليس خوفا من احتمالات الفشل، ولكن لتقصير الطريق على الإجراء الثوري الإخلائي بمستوياته الشعبية، وانتقال النخب المخولة، لملء فراغات التنظيم الشعبي والتأسيسي، لبدء مرحلة البناء الديموقراطي الثوري، في جميع مجالات الحياة. إن وعي الحركة المدروس ميدانيا، والإنتقال إلى مستوى تنظيمي أعلى، سيوفر على الثورة مواجهات ما زال بالإمكان تلافيها بوطأة الحضور الشعبي، وقطع الطريق على أي عمل تخريبي أو تآمري قبل أن يستكمل أدواته , كما يجب البدء، ومن ميدان التحرير، بالإتصال مع تنظيمات شبابية مفترضة في الساحات العربية، لتستعد لرفد التحولات التي فرضتها الساحة المصرية، وتحويلها إلى احتياط عربي شامل، يقف وراء الثورة المصرية، ويشارك في دعمها بكل الوسائل عند الحاجة. إن الشباب العربي مستنفر في كل مكان لأداء هذا الدور، الذي يجب أن يتحول من خلال التفاعل الجدلي مع الثورة المصرية إلى تنظيمات ثورية شعبية ومساندة وبديلة عن غيرها،على اتساع الساحة القومية.
عن مجلة كنعان الألكترونية 10 شباط 2011