مخيم شاتيلا بيروت
من ميدان التحرير إلى مخيم شاتيلا : “صرخة الحرية !”
د. فرانكلين لامب
ترجمة: زينب عبدالله
قد تؤثر صرخة الحرية في ميدان التحرير وارتداداتها الممتدة إلى الشرق الأوسط أو لا تؤثر على الأحداث الحاصلة اليوم في ولاية ويسكونسن الأمريكية الليبرالية، إلا أن معظمنا يتفق على أن ثورتي تونس ومصر قد أحدثتا صدى واسعا وأنهما تعطيان زخما كبيرا لتحركات مماثلة في المنطقة.
مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ليست استثناء.
ربما عاجلا وليس آجلا، سيتقاعد ما يقارب ستة من الطغاة العرب على مضض أو سيذهبون للعلاج في المملكة العربية السعودية. وفي الحقيقة سيذهب بعض السعوديين إلى أمريكا لإشغال ممتلكاتهم الواسعة في الولايات المتحدة الأمريكية، أو تلك التي تقع في بعض الأحياء الإسرائيلية، ثنائية القومية، والتي ترتفع فيها معدلات التملك بشكل كبير. ويدرك الكثيرون في إسرائيل أن وكالة الاستخبارات المركزية توقعت أن انهيار مستعمرة المستوطنين بات قريبا.
ويشعر أولئك المراهنون على اتفاقية كامب ديفيد الموقعة عام 1978 وما ترتب عليها من تنازلات، وعلى معاهدة السلام الموقعة عام 1979 والتي أقصت مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي وخدعت الفلسطينيين فتنازلوا عن السيطرة على المنطقة لإسرائيل لمدة ثلاثة عقود، يشعرون بأن سيول الفيضانات تتسع من حولهم.
وقد أورد البيت الأبيض أنه منسجم مع حقيقة أنه يمكن إعادة التفاوض حول اتفاقية كامب ديفيد ولكنه وإسرائيل يخافان من أن يتم تجميدها أو تعطيلها إلى أجل غير مسمى إذا لم يتم إلغاؤها في خلال الأشهر القادمة.
ونشهد اليوم جزءاً من إعادة التنظيم لعهد جديد. وفي الحقيقة، نحن نشهد انتشارا لثقافة المقاومة.
لذلك فإن قادة إسرائيل المذعورين يحاولون مع عملائهم في الكونغرس إقناع الشعب الأمريكي بأن مبلغ ثلاثة مليارات دولار سنويا هو مبلغ زهيد وحيوي كتكاليف لاتفاق كامب ديفيد لضمان أمن أميركا، في حين أنهم يعلمون جيدا بأن الحقيقة هي عكس ذلك تماما. وقد أشبعت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) الكابيتول هيل هذا الأسبوع، كما أتخمت وسائل الإعلام، بحالة الإستنفار القصوى التي أطلقتها كـ “نداء عاجل” ينص على التالي:
“الرجاء حث أعضاء المجلس على توقيع رسالة إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تحث فيها جميع الأطراف الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية على التأكيد للقادة المصريين المستقبليين ولوجوه المعارضة على أهمية التزام مصر بواجباتها الدولية خصوصا في ما يتعلق باتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل.”
والتقى الوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة مع أعضاء الأمم المتحدة الذين يبلغ عددهم 130 والذين رعوا قرار مجلس الأمن ورفضوا اقتراح باراك أوباما والسفيرة سوزان رايس بإطلاق النار على قرار مجلس الأمن المتواضع بخصوص إدانة المستعمرات الإسرائيلية.
وقد تضمن اللقاء، الذي عقد يوم الخميس الواقع في 18/2/ 201، عرضا خجولا للأسس، فربما كان متأثرا بما كشفته الأوراق الفلسطينية عن الغدر والاتهامات بالخيانة، إضافة إلى أحداث ميدان التحرير.
وقد أطلقت التهديدات من البيت الأبيض قبيل التصويت إلى شخص “الرئيس” محمود عباس في خلال مكالمة هاتفية أجراها أوباما واستمرت 40 دقيقة. وقبل أن ينتبه عباس من صدمة التوبيخ الأول جاءه التوبيخ الثاني من هيلاري كلينتون.
وكان كل من سفراء بريطانيا وروسيا والصين من ضمن الذين قاموا للدفاع عن القرار المرفوض. إلا أن تصويت مجلس الأمن 1- 14 للتضامن مع فلسطين كان أمرا مستغربا. وما يزال استخدام حق النقض الأمريكي “الفيتو” للمرة الثالثة والستون يعكس صورة الشعب الأمريكي والعالم الرازح تحت وطأة الكونغرس. ولكن الحقيقة هي أنه يعكس صورة المستوطنين الإسرائيليين الذين يقيمون في أرض مسروقة، وليس صورة الشعب الأمريكي ولا قيَمه. ولذاك فإن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحصدان نهضة عربية وإسلامية مما يعجّل في رحيلهما من المنطقة.
وبعد ساعات تلت تصويت الأمم المتحدة الشجاع، أعلنت الحكومة المصرية المؤقتة فتح معبر رفح على أسس محددة – حتى الآن.
إن الرمزية موجودة في كل مكان وهي تشبه كل شيء أحيانا. فمن كان يظن مثلا أن مصر، بعد أيام قليلة من عزل مبارك، سترحب بالسفن الحربية الإيرانية عبر قناة السويس للمرة الأولى منذ عام 1979؟ وعندما تصل السفن الإيرانية إلى بور سعيد سيرحب بها وربما يحتفي بها عمال أحواض السفن والشعب المصري رغم التهديدات الإسرائيلية والتصريحات التي يطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان عن أن استخدام إيران للمياه الدولية هو “عمل عدائي” و”يثبت أن الإيرانيين يصبحون أكثر وقاحة.”
ويبدو الكثير من الفلسطينيين الموجودين في المخيمات والمجتمعات اللبنانية مسلّمين بما كان يحصل ككثيرين غيرهم. فقد أظهرت إحصائية أجراها مركز العالم العربي للبحوث والإنماء نشرت في الثاني من شباط/فبراير 2011 أن 74 % من الفلسطينيين يدعمون الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في تونس والتي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي.
وفي مخيمات لبنان يظهر أن دعم النهضة العربية يكبر مع كل انتفاضة في المنطقة. فهم يشعرون كما يشعر الكثيرون ممن عملوا طويلا من أجل الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان خلال السنوات العشرين الماضية والذين يفوق عددهم أربعا وعشرين منظمة دولية ومحلية غير حكومية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني، يشعرون بأن قوة ميدان التحرير ستعني أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان سيحصلون عاجلا أم آجلا على الحقوق المدنية الدولية الأساسية والتي يستطيع اللاجئ بموجبها امتلاك منزل أو الحصول على عمل كسائر اللاجئين المستفيدين من القانون.
وهناك نماذج ممتازة من القيادة الفلسطينية الجديدة في مخيمات لبنان والتي تشدد على الحقوق المدنية. من هذه النماذج صديقتي المفضلة في مخيم شاتيلا (زينب الحاج) المولودة والناشئة والمقيمة في مخيم شاتيلا. وهي ترحب دائما بالزائرين الغربيين وتعرض عليهم قضيتها. وما إن تصل إلى منزل زينب، وهو مكتبها أيضا، فإنك تدرك الحاجة الماسة لحصول الفلسطينيين على الحقوق المدنية الأساسية والسبب الذي يجعلها هي وأصدقاؤها يؤمنون بالحكومة اللبنانية الجديدة. وهم أيضا متأثرون بميدان التحرير الذي يتشرفون بأن يكون التزاما أخلاقيا ودينيا وقانونيا وسياسيا للحصول على حقوقهم في العمل وامتلاك المنازل.
ويرحب أفراد عائلة الحاج المؤلفة من 14 فردا، والذين ينتمون إلى أجيال ثلاثة، يرحبون دائما بالزوار الأجانب ويدخلونهم إلى غرفهم الثلاث ويصعدون بهم إلى السطح الذي يطل على المنطقة المحيطة بالمخيم حيث حدثت بعض أشد المجازر قسوة ليس فقط خلال مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982، وإنما أيضا خلال حروب المخيمات بين 1985 و 1988.
لتلتقي بـ “الآنسة الدولية” وأصدقائها وأجدادها الذين مشوا نصف نهار من قرية صفد في شمال فلسطين إلى لبنان يوم 12 أيار/ مايو 1948، ما عليك إلا أن تدخل إلى مخيم شاتيلا من جهة الجنوب، ثم تنعطف إلى جهة اليسار حيث جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني/ مستشفى عكا، وتتجه شمالا” في شارع صبرا نحو ما تبقى من مستشفى غزة التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. ثم تمر بعدها بمقبرة قدامى الشهداء حيث يدفن ما يقارب 1000 ضحية مجهولة الهوية قتلهم الإسرائيليون في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، وبعد ذلك تتجه نحو النزلة الثالثة من جهة اليمين حيث الشمس لم تشرق منذ 60 عاما. وتخطو حول برك مياه الصرف الصحي والأخاديد لترى بعدها العشرات من الأولاد الجميلين يركضون ويلعبون، أو يذهبون ويأتون من مدرستي الأونروا في المخيم. تجنب الدراجات وافخر إن رأيت نسوة فلسطينيات مرهقات يحملن الأكياس وهن عائدات من السوق، يضعن الأكياس على رؤوسهن لحفظ توازنهن ويحملن الأطفال بين أذرعتهنّ. وترى إلى يسارك بقايا كوخ حقير وبجانبه ملجأ مسقوف بألواح الزنك الصدئة يتجنب سكان المخيم المرور بقربه.
السبب الذي يجعل الناس يكرهون دخول ذلك الملجأ هو أن عائلة الحاج سمحت لجيرانها منذ 29 عاما بالاختباء فيه عندما حصلت مجزرة عام 1982 ثم فرت العائلة شرقا من مخيم شاتيلا إلى مكان أصبح فيما بعد السفارة الجزائرية على طريق المطار وهو حاليا مركز بلدية الغبيري المدعومة من حزب الله.
وعندما عادت عائلة الحاج إلى منزلها بعيد المجزرة، علمت أن جيرانها السبعة عشر قد ذبحوا لأن الإسرائيليين قد أعطوا ميليشيا الكتائب اللبنانية آنذاك خرائط تحدد بدقة أحد عشر ملجأ في المخيم. وتستذكر زينب التي كان عمرها سبع سنوات آنذاك أنها أرادت البقاء وعدم الفرار لأنها قررت أن تلعب بالدمى مع صديقتها المفضلة “منى” وكانتا تحبان مخبأهما السري. وقد ذبح سكان المخيم جميعهم وعددهم 278 شخصا دخلوا إلى الملاجئ وكشفهم الإسرائيليون في مخيم شاتيلا، ذبحوا بين الساعة السادسة من مساء الخميس ومنتصف ليل الجمعة في أيلول سبتمبر 1982 باستثناء أربعة منهم.
في حديث الليلة الماضية وخلال استئناسي بطبق من “الشوربة الفلسطينية” الساخنة التي حضرتها السيدة الحاج، كان الحديث عما تسميه زينب ورفاقها “النهضة العربية والفلسطينية الكبرى” . “ما الذي يحصل؟ هل من الممكن أن تتحرر نتيجة اتفاقية سايكس بيكو عاجلا أم آجلا؟ ” عبست سهى شقيقة زينب، وهي طالبة تمريض في مستشفى بهمن المجاور، وقالت: “إن الأمر يعود إلى إسرائيل.”
ووسط الهيجان المتكشف في الشرق الأوسط يتوقع البعض أن تثور المخيمات الفلسطينية في لبنان في تمرد ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي هي أسوأ من كل مناطق الثورة المفتوحة حاليا. وإذا جاءت الثورة فسوف تكون مطلبا للحرية والكرامة والعدالة. حالياً، يعقد العديد من اللقاءات وتدور الكثير من النقاشات حول التظاهر من أجل هذه المطالب إلا أنه في الأمد البعيد لا يوجد إشارات لمظاهرات حاشدة بالرغم من أن الصمت الحالي يمكن أن ينفجر فجأة.
وأصدقاء زينب هم أكثر تفاؤلا في هذه الأيام بأنهم سينعمون أخيرا ببعض الحقوق المدنية الأساسية. فيبدو أن سبب الحماس المتزايد هو توقع الكثير من سكان المخيمات الحرية في تونس ومصر وربما في المنطقة كلها، أما في لبنان فيتوقعون ذلك بسبب تغيير الحكومة.
إن إخفاق البرلمان اللبناني في إحداث تغييرات هامة في الصيف الماضي أصاب فلسطينيي المخيمات بخيبة أمل كبرى، لكن أملهم بدأ يعود بعد تغير الحكومة.
الحماسة المتصاعدة تظهر جلياً في النشاط المنتشر بين الشباب الفلسطينيين الذين يحثهم كبارهم. فمن بينهم أشخاص موقرون وآخرون منسيون وأبطال من المقاومة الفلسطينية الذين على مدى نصف قرن ساهموا في الحصول على اعتراف عالمي بهم ودعم متصاعد للقضية الفلسطينية. عنيت بذلك تكريم متوسطي العمر الذين يقبعون من دون عمل داخل المخيمات، يستغرقون في الذكريات ويتساءلون “ما هو الخطأ الذي حدث” ويناقشون التطورات الأخيرة كالوثائق الفلسطينية التي كشفت مؤخراً ومن الذي حارب منذ القدم لاسترجاع فلسطين.
كثيرون ممن سبقوا أيام غولدا مائير يصرحون بأنه “ليس هناك أناس كالفلسطينيين” وكثير من وسائل الإعلام في العالم نقلت كذب غولدا مائير على أنه حقيقة، ولم تلجأ أبدا إلى تسوية المبادئ التي تؤيد الصراع الفلسطيني من أجل العدالة. التقيت مؤخرا برجل في مخيم شاتيلا كان قد عمل في مؤتمر المفوضية التنفيذية للاجئين عام 1950 في غزة. وهذا كان بالتأكيد قبل 14 عاما على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة. وكانت هذه اللجنة تحديداً هي التي أنشأت أول مجلس تشريعي في أوائل الستينات، وقد أرسلت أول وفد من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة عام 1961.
إن المخيمات في لبنان مليئة بالأبطال المعمرين. فيوجد من بينهم الآلاف من الأمهات اللواتي عانين الكثير وحققن الكثير من أجل عائلاتهن وقضيتهن. نسلهن يملأ المخيمات الحاشدة، إذ يوجد نيلسون مانديلا صغير في مخيم الرشيدية بالقرب من صور، وأخرى التقيت بها في مخيم عين الحلوة وهي تبدو نسخة عن دلال المغربي. وفي نهر البارد الذي ما زال بانتظار إعادة التعمير بعد تدميره عام 2007، رأيت شابا يشبه خليل الوزير (أبو جهاد) وقد شرح رغبته بإعادة إحياء مقاومة فلسطينية حتى التحرير. وفي مخيم الوافل في البقاع قضيت أمسية مع شاب يمكن أن يصبح في المستقبل (السيد) حسن نصرالله إذ يريد أن يساعد في قيادة شعبه للعودة إلى فلسطين.
وكما شوارع القاهرة، فإن المخيمات في لبنان ستبدأ بصرخة “الحرية!”. والمخيمات هنا قد ولّدت قيادة جديدة بمساعدة القيادة القديمة التي تتوقع أن تحترم الحكومة الجديدة كلمات المقاومة وتفعِّل في البرلمان الحق الكامل للعمل وتبطل قانون 2001 التمييزي الذي يسلب الفلسطينيين حقهم في ملكية بيوتهم.