الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / مذكرات طائر عربي

مذكرات طائر عربي

قصة قصيرة من وحي اللحظة:

مذكرات طائر عربي

(رغبة غافية )

كلاديس مطر

وفي فترات القيلولة التي اقضيها ورفاقي بين دغل الأشجار الساكنة، كان حديثنا لا يبتعد عما كنا نراه ونحن محلقين في فضاءنا الحزين. ومرة ونحن اقرب الى الإغفاءة في هدأة قيظ الظهر أخذ طير شبه نافق كان يقف بالقرب مني، يقص علينا حكاية ديكتاتور عندما كان محلقا مرة في سماء بلده:

بلغ “جلال الدين أزرق” الكهل الخامسة والسبعين من عمره قبل يومين. أما بلاده التي حكمها وهو يرتدي بزته العسكرية منذ زمن بعيد فقد كانت تسير في كل الأحوال كما تشاء لها الأقدار. لقد اعتادت على نمط ثابت معين، وهكذا فإنها تدار حتى ولو كان ممدداً في أرجوحته غافياً مستمتعاً في قيلولة ما بعد الغذاء.

كان جلال الدين متكأ على أريكة شيخوخته عندما ضغط على زر التلفزيون مغيراً المحطة. وفي لحظة جمد الدم في عروقه، وأخذ مارد غاف في عمق رغبته يفيق ببطء ودعة، بينما ترك نفسه تستسلم من دون منغصات إلى حبل بلا دنس.

من مواصفات بلد يحكمها رجل كجلال الدين وجود عدو، وإلا فكيف سيبرر تحسين الأزياء العسكرية ونوعية القماش والتفنن في ترتيب الشرائط وميلان القبعة؟ ثم هناك قانون الطوارئ الذي يبرر شراء السجاد الثمين من أجل صالات إلقاء الخطب الكبرى ومصاريف الأمن الباهظة وعدم رغبة في محاكمة الملقى القبض عليهم بدافع الكسل.

وإذا افترضنا الفقر عدوا آخر – وهو كذلك حتماً – فإن القضاء عليه يستلزم ذلك القانون الآنف الذكر والبذلات العسكرية والملاحقة….

أما الصفة الأكثر بروزاً فهي ميوله الشخصية: ميول خلقتها رفاهية السلطة المطلقة والإحساس المتعاظم بالأنا التي تطغى على وجود بلد يحيك صبره كما تفعل العجائز ببكرات الصوف أمام أبواب بيوتهن المشرعة.

قلنا إن رغبة غافية قد استفاقت للتو لدى جلال الدين حينما كان يشاهد التلفزيون، وأخذ يقضم شفتيه العليا والسفلى ضاغطاً عليها بأسنان اصطناعية ناصعة كاللؤلؤ. وأمعن نظره أكثر وبدأ يحدق كأنه يرى للمرة الأولى نساء جميلات، ثم استقام مستنداً على عصاه المطعمة بالفضة وجلس على حافة مقعده، وقرب وجهه من الشاشة وهو لا يزال يقضم شفتيه ويرف بجفنيه صعوداً وهبوطاً. أما حارسه الذي كان يقف ميبساً خلفه فقد غض الطرف وأحنى رأسه متغافلاً عن اهتمام سيده الغريب.

في صباح اليوم التالي أفاق جلال الدين باكراً وأفاقت معه رغبته. وترك نفسه يحلم في سريره المزخرف قبل أن يطلب مساعدة زوجته على النهوض. لقد بدت سنوات المجون بعيدة حين كان قادراً هو وضباطه على التهام قبيلة من النساء كاملة في جلسة سكر واحدة. أما حين فاجأه الشلل النصفي، فقد بات يتجنب حتى الحديث عن ذلك خائفاً من أن تفتح الذكريات جروحاً قديمة ومتعاً غيبها قسراً عن ذاكرته.

ونهض بكل سنيه الخمس والسبعين وطلب أن يتناول إفطاراً على عجل. وحين جلبوا له لباسه العسكري المزين بالشرائط والمهماز، طلب أن تفتح خزانته القديمة وأمر بإخراج بزة كحلية بديعة وقميص أبيض حريري أخذ يزين أكمامه بأزرار ذهبية من الطراز الكلاسيكي ذات القفل كان قد نسيها في علبتها المخملية… ثم تعطر وخرج مع سائقه.

– إلى أين يا سيدي؟

– درْ بي فقط في المدينة من دون ضجيج أو حراسة.

– إلى أية جهة من المدينة يا سيدي؟

– …إلى كلية البنات. أحم!

– … أ…..حسناً…..حسناً يا سيدي!!

وقاد جابر السائق سيارته في ذهول عبر أزقة المدينة، وكان رأسه يعمل دون توقف. مفاجأة ما ربما تنتظره. بينما كان سيده في مقعدة الخلفي ممسكاً بعصاه المستقيمة بين فخذيه وقد موهت النظارة السوداء الشمسية سحنته وجعلته عصياً على المعرفة وبان رأسه من زجاج السيارة كملك مخلوع تائه.

وفي زاوية شارع الكلية طلب جلال الدين من جابر التوقف للحظات. كانت الطالبات المراهقات يحتضنّ كتبهن وهن مسرعات إلى المدخل وقد بانت سيقانهن الجميلة تحت مراويلهن القصيرة الزرقاء وهي توحي بمجد الأيام الغابرة. وترك نفسه يتأمل وهو غائر في مقعده شكلهن البديع وهن يضحكن ويتحادثن، وافتر ثغره عن ابتسامة غريبة وظل هكذا وعيون جابر ترقبه من المرآة مذهولاً.

وبقيا صامتين في سيارتهما الواقفة على الزاوية زهاء الساعة، لم يجرؤ جابر خلالها على التفوه بحرف بينما كان ديكتاتور الغبرة يدلل رغبته التي أفاقت تماماً إثر هذا المنظر البديع.

وحين دخلت الطالبات جميعاً إلى الكلية وأُغلق الباب دونهن طلب من جابر العودة متمهلاً ماراً من جديد في الأزقة متأملاً حركة المرور التي أخذت تتصاعد.

عادا في اليوم التالي ليقفا في الساعة والزاوية نفسها وكل مرة كان جلال الدين يلبس بزة مختلفة ويتعطر. ومن جديد عاد لصبغ شعره وشاربيه بلون أسود محمر كما فك أزرار سترته الداخلية متخلياً عن وقاره. أما جابر فقد سمحت له العادة بأن يشير لسيده إلى واحدة من بين العشرات ثم يشير إلى أخرى منتقياً ما يروق لنظر العجوز السعيد. وتكررت الزيارات الصباحية لكلية البنات وفي كل مرة كانت زفراته تحرك سقف المدينة من شدتها كغطاء قدر أرقصه البخار.

خلّف العشق المتأخر بلوى في قلب جلال الدين، وإنْ كان من المستحيل أن يحصل على فتاة واحدة لتؤنس عزلته، إلا أن محاولات إحياء العظام وهي رميم ونفخ الروح في القرب المقطوعة قد ترك أثراً أليماً في نفسه. ولم تعد القمصان المكوية ولا الثياب الجميلة والعطور تفي بغرض التلصص عن بعد، وشعر بحاجة ماسة للمشاركة كأن روحاً شابة لا مبالية خرجت من حطام شيخوخته.

وأخذ يعتمد على جابر أكثر فأكثر حتى ركب هذا الأخير على كتفيه ودل بأقدامه.

– خذني إلى الناصية المقابلة. هناك يمكن أن أرقبهن في ساحة الكلية.

– ولكن يا سيدي… ماذا سوف ترى في الساحة !!

– سوف يلهون على هواهن هنا. اذهب إلى الناصية المقابلة الآن.

– يا سيدي… يا سيدي… ألا ترى؟ كيف يمكن أن أذهب إلى هناك من دون مخالفة السير؟ أم تريدنا أن نلفت الأنظار!

– لا…لا.. لا أريد ذلك. اللعنة ابق مكانك.

– أيضاً لا يمكنني أن أظل مكاني. إنني هنا منذ ساعة وأكثر وعلي أن أعود.

– .. تعود؟ تعود لمن ولماذا؟ إنك تعمل سائقاً لي وحدي، وإن كنت أحدثك الآن كصديق، نعم كصديق، فهذا لا يعني أن (تنيرني) كل لحظة بأرائك الهامة.

– حسناً كما تريد يا سيدي. كل ما علي هو أن أقول لزوجتي سبب التأخير. يجب أن أصطحبها إلى الطبيب.

– اللعنة. اللعنة عليك. لا تقل لأحد. انطلق. انطلق.. ولن آتي معك في المرة المقبلة.

– حافظ للسر واحد يكفي يا سيدي.

– (يتمتم وهو يلمح ابتسامة جابر الخافتة في المرآة) مجرم… معتوه… انطلق.

حين عاد جلال الدين إلى قصره قبل ظهر ذاك اليوم كان الوقت ما زال مبكراً، فاندس من جديد في سريره وكأنه لم يذهب ولم يعد ثم غفا. وما هي إلا لحظات حتى انفتح باب قصره في مخيلته ودلفت تلك الفتيات المراهقات يلبسن الأزياء الشرقية الشفافة الحالمة ويجلسن حوله ويتوسمن رضاه. أما جابر فقد كان يقف بالجوار ينتظر منه هزة رأس ليحقق له رغباته التي تطرأ للتو. واستمر حلم الديكتاتور طويلاً وتكرر في الإغفاءة نفسها كأغنية لا يمل سماعها.

حين استفاق بعد ظهر ذاك اليوم كان الوله قد بلل وجنتيه والوسائد بالدموع. وأخذ يتطلع إلى السقف وهو مستلق متابعاً، حركة الزخارف وألوانها ويتأمل ربما للمرة الأولى عجز السلطة والمال والغنى. وفكر في مخزون الحب لدى شعبه تجاهه فألفه ناضباً، ثم استدار بوجهه صوب زوجته التي كانت تقرأ على أريكة وثيرة أمام السرير، فأدرك فجأة قيمته بالنسبة لها، وعادت دموعه للسيلان من جديد. وعي متأخر وإدراك متأخر وحب متأخر ضل زمانه.

ولم تنفع في الأيام اللاحقة الورود الحمر التي ملؤوا بها غرفته بإخراجه من الاكتئاب أو السرير، ولا إحضار جوقة القصر الملكية لتعزف حوله موسيقاه المفضلة، ولا حتى تشجيع جابر له بالعودة للوقوف على الناصية كمراهقين من جديد.

لقد كان يتابع بينه وبين نفسه تطور حركة الثوار والمعارضين القديمة في الجبال، وكانوا كلما تقدموا في احتلال مساحة أكبر من البلاد لصالحهم ازدادت غبطته، وأربكته إلفته المفاجئة تجاههم. ولولا خوفه من أن يعتبر موقفه هذا انكساراً لقام للتو وخرج إليهم وهو متكئ على عصاه مجتازاً أدغال الجبال نحو مخابئهم والكهوف.

لحظة صدق نادرة ولدها العجز… عجز الجسد وتراجعه وقسوة الزمن حين يمر على الكبير والصغير والغني والفقير. هذا الزمن الذي لا يجرؤ على أن يكون هو نفسه، مع ذلك، حينما يمر على الجاهل والمثقف أو المحب والحاقد، أو القمعي وعاشق هذا العالم.

كان جلال الدين ينطفئ شيئاً فشيئاً بعد أن هزم بفعل التطير وعشق السلطة والدولة المتأخر، ومع ذلك وجد وقتاً ليطلب محاميه الذي حضر مسلحاً بحقيبته والأوراق إلى غرفة نومه:

– اقترب. اقترب. لا يمكنني أن أرفع صوتي أكثر واسمع إلى ما سأقوله لك.

– ها أنا يا سيدي !

– هل أحضرت وصيتي معك وكل الأوراق؟

– …إنها… إنها معي ها هنا جميعاً.

– حسناً. حسناً. أخرجها الآن أريد تعديلها في الحال.

كان لا يزال جلال الدين يعاني من رومانسيته الطارئة ولهذا فقد أراد أن يعيد أمواله إلى حيث يجب أن تكون: جيب شعبه والثوار. كما رغب أن تقطع كل الحبال التي كانت تشد أراجيح قيلولاته والعصي المطعمة والسجاجيد الحمر التي كانت تمد في كل مكان تطأه قدماه، حتى لو كانت نزهة على شاطئ البحر. لقد رغب فعلاً بكل هذا وهو يتأمل محاميه بعيون أطفأها الوجد والاكتئاب.

لقد أراد من بين ما أراد أن يوفر المال الذي كان يصرف على البذخ العسكري وإحباط المؤامرات، وأن يكرس لزيادة الدخل وإخراج البلاد من عنق زجاجة التخلف. نعم.. نعم أراد كل هذا معيداً في عقله نص وصيته مرات عديدة بينما كان محاميه متجهاً إلى القصر في ذاك اليوم.

ولكن كما أتت لحظة الصدق النادرة هذه رحلت مفرغة إياه من آخر نسيم للروح. لقد شرح كل هذا لمحاميه بصوته الخافت المتعب قبل أن يجعله وثيقة مكتوبة رسمية، واستفاض في شرحه وفي كل مرة كان المحامي يقول له (حسناً… حسناً… لنكتب هذا… ) كان يستمهله لمزيد من الفضفضة التي لا طائل منها…

وظل يتحدث ويشرح ويتحدث ويشرح إلى أن وافته المنية فوق سرير مجده وبين الأرائك وستائر الحرير وعدد لا يحصى من الخدم.

_______________

كتبت هذه القصة عام 2003 ونشرت مع مجموعة قصصية بعنوان “رغبة غافية” الصادرة عن دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع.

موقع الكاتبة: http://www.gladysmatar.net

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *