دمروا العراق فلننتبه لمصر
28 شباط 2011
أحمد حسين
لتكن أمريكا هي التي أيقظت المارد كما يقول البعض. المهم أن المارد حينما خرج من القمقم وشاهد ضوء الشمس، لم يلتفت إلى من فتحه. كانت له وهو سجين الظلمة،أفكار عن الحرية التي ذاقها يوم كان طليقا. وعرف وهو في محنته أنه أخطأ يوم اختار السجن على الموت، وعرف أيضا , انه لو تخلص من أسره لما اختار على الحرية شيئا، ولو خيروه بينها وبين نعيم الآخرة. أدرك أنه لا يوجد خيارات في هذه القضية، إذ ما هو الموت سوي الحرية، أمام خيار الإستعباد، والعيش في كينونة خالية من المعنى الإنساني؟ لقد حل في سجنه لغز الحياة، وعرف أن الكائن يمكن أن يعيش الموت مضاعفا وهو حي، وأن الرفض والثورة للمستعبدين والمحرومين، هي فرصة للحياة وليست خيارا بين الموت والحرية.
لقد بلغت تعاسة الشعوب العربية قعر جهنم. لم يعد لديها مما يحتاجه أو يعتز به الإنسان شيء. لا الخبز ولا الكرامة ولا الحرية. وأعظم من ذلك كله أن أحدا في العالم، لم يعد يأبه لبشريته، فصنفت كونداليسا رايس أطفاله علنا كبضاعة ليس لها ثمن ولا طفولة. صار البصق المعنوي على الشعب العربي موضة في الإعلام والسينما والشارع الثقافي المعاصر. لم يكن العالم بالطبع مسؤولا إلا بمدي حاجة أصحاب الحضارة في كل عصر، لكبش فداء يعبر عن عن مزاج الترفع الحضاري، كحاجة نفسية قادمة من عبادة الذات. لذلك اخترع العصر السابق ” النور ” كجماعة ضعيفة بدون رفعة حضارية أو وطن معروف، وحملهم كل مساويء التخلف. وثنى بالساميين ثم بالشرق عموما، وهكذا دواليك. إذن فهذه هي غريزة الحضارةالسائدة عبر الزمن. اختيار جماعة أو شعب أو عرق ضعيف لتدنئته واستحلال كرامته واتهام إنسانيته، لتستطيع العلية الحضارية في كل عصر التمتع بذاتها المتميزة، التي تملك كل جماليات الحضارة ومزايا المعرفة.
وحينما اختير العرب ليكونوا كبش الفداء في هذا العصر، حصل ذلك لأنهم شعب ضعيف ومصاب في بنيته الكلية بحالة من الشلل الإجتماعي التام، وغير قادر على الدفاع عن نفسه ووطنه وثرواته وبالتالي عن إنسانيته عموما. وبدا مستسلما لكل أنواع الظلم والنهب والإعتداء. وكان ضياع فلسطين وعجز العرب فيما بعد عن حماية الشعب الفلسطيني أمام قلة غازية، هو القشة التي كسرت ظهر الجمل. لقد أصابهم ما أصاب المارد حينما خضع للنبي. واجههم التاريخ بنكبة ثقافية كبرى هي ثقافة الخلافة، أي الحكم الإلهي، أي أقسى وأشمل أنواع الإستبداد في التاريخ، فغرقوا في مستنقع الغيبية والإستسلام للقدر حتى أصبحوا فريسة هينة لكل الغزاة والطامعين ولصوص الإمبريالية العالمية، التي وجدت في عجزهم فرصة العمر، لحسم المعركة التي بدأت بين الغرب والعرب منذ قرون طويلة.
فلتكن إذن أمريكا هي التي بدأت الحراك، لتتخلص من عملائها الذين أصبحوا خردة لا تناسب مخططاتها، ثم تعيد المارد إلى سجنه. لكن مخطط الجدل، وتراكمات التجربة، كانت أقوى من أوهام أمريكا. قلب الإنسان العربي الفرصة لصالحه، وكشف عن سعير الغضب المحتدم، والقوة السجينة داخله، وفاجأ كبرياء سفلة الحضارة في الصميم. وبدون مفارقة الموضوعية لصالح الإنفعال، فإن الشعب التونسي والمصري صنعا لأول مرة في التاريخ، النموذج الأكمل للثورة الشعبية. ألشعب يقود نفسه، منطلقا من موضوعية الثورة في موقع الجدل الفعلى، وليس من موقعها في التحسس. أي أنهما شكّلا أرقى حراك ثوري عبر عن طبيعة عصر بكامله، وبدأا مرحلة جديدة في علاقات الشعب بالنظام، وعلاقة البشرالحقيقية بموضوعة الحرية. لقد جسد شعبا المعجزة، كل مقولات الحرية عمليا، في مقولة واحدة بسيطة وغير مسبوقة، هي أن الشعب هو النظام، وأن النظام هو الألية فقط. فقد وقف الشعب في الشوارع والميادين يملي على النظام مطالبه بلهجة الثائر وليس المتظاهر أو المحتج كما يرددون.
إن خطورة الثورات العربية على النظام العالمي السيادي لا حدود لها. إنها ثورة تضع سيادة العالم الغربي الأمبريالي، في ذات موضع الأنظمة المحلية، وتقترح داخل التاريخ ثورة عالمية متدرجة ستؤدي في النهاية إلى فكفكة السيادات الغربية على العالم بجميع فروعها وعلى رأسها السيادة الإقتصادية. إنها مواصلة لثورة التحرر العالمي، بآليات جديدة، تلعب فيها الإرادة الشعبية المباشرة، كل الأدوار التي كانت تعيش عليها انتهازية الأحزاب وانحرافاتها. فبعد انتشار ثقافة الثورة الشعبية، سيتشكل نوع جديد من الرقابة الشعبية المباشرة، يقلل فرص الإنحراف بشكل جذري، وتصبح القيادات تحت سطوة الشعب، وليس تحت سطوة السياديين الغربيين. وهذا ما يجعل أجراس الخطر تدق دفعة واحدة في كل دوائر النظام العالمي الجديد، أي النظام الإستبدادي الجديد الذي وضعته أمريكا والصهيونية على أجندة غير أجندة التاريخ. لذلك فليس هناك مكان للتوقعات في ما ستحاول تلك القوى فعله. سيكون هجمة حياة أو موت. لن يترك الغرب والصهيونية وسيلة لإرجاع المارد العربي إلى القمقم، واحتواء الثورة المصرية بشكل خاص، لا يستخدمها. ولكن هذه المرة سيتحرك في ظروف كلها ضده. سيتحرك في ساحة تملكها وتسيطر عليها الشعوب وليس الأنظمة. ولكنه مع ذلك لن يتراجع قبل أن يهزم. ويكفي أن تحقق الثورة المصرية استقرارها الثوري، وتهزم الثورة المضادة، وسيعرف أنه انهزم في المنطقة كلها. لذلك فإن على الثورة المصرية أن تحسم الأمر سريعا على ساحتها، لأن كل يوم يمر سيجعل عبء الإنتصار أثقل عليها وعلى الشعوب العربية. عليها أن تؤلب الجيش على قيادته العميلة وتؤازره في الإنقلاب عليها بالتحركات المليونية، وأن تسمي العملاء بأسمائهم. لا فائدة من الإنتظار ما دام المخطط الأمريكي في مصر ينجح في التماسك، ويجير الوقت لصالحه. إذا كان الإنتصار على أمريكا متعلقا بإفشال مخططها في الداخل المصري، فإن مواجهته منفردا أسهل من مواجهته بعد أن يقوى عوده بتجميع صفوف شراذم الحزب الوطني والليبراليين والجماعة في كتلة واحدة، وبعد أن تنجح أمريكا في تسليم الحكم في ليبيا لحلفائها. إن استيلاء الثورة نهائيا على السيادة داخل مصر، سيجعل من جهود أمريكا في ليبيا عديمة الجدوى، ويفشل مخطط التأليب الذي تحاول تنفيذه ضد الثورة المصرية.وعندها سيسقط في يد أنصار أمريكا في مصر، وفي يد فريق عمرو موسى المسمى الجامعة العربية، وفي يد الدس الإعلامي المتحالف مع الثورة المضادة. وهذا يعني أنه سيسقط في يد أمريكا، التي لن تحارب في ساحة خالية من عملائها التنفيذيين. وإذا تجرأت على ذلك، فسوف تشتعل الساحة بها وبمصالحها وبقواعدها. سيصبح عدد كوادر الثورة المصرية الفاعلين على طول الساحة وعرضها، عدة عشرات من الملايين. وسوف يقرب سقوط جنرالات أمريكا في مصر، تفكيك الجيوش في كل البلاد العربية وانضمام أفرادها إلى الثورة وسقوط أنظمة الحريم، والصيد بالصقور.
لا يمكن تصور السيناريو الآخر. إنه سيكون انهيارا مريعا بحجم التاريخ. ولكن هذا لن يكون واردا أبدا، في حال انتصرت الثورة المصرية، ومنعت إعادة تشخيص النظام، وحققت استقرارها السيادي داخل مصر. لقد أستعاد الشعب المصري اكتشاف ذاته، ولن يعود التاريخ إلى الوراء، ولكن المخاطر كثيرة، والوقت في عالم الشياطين بالغ الأهمية. وإنقاذ الثورة في مصر، هو إنقاذ العالم العربي بأكمله. وإذا شاء الشباب الثوري العربي حماية فرصة المستقبل، عليه أن ينظم نفسه منذ الآن، للمساهمة في حماية الثورة في مصر، ويترك الباقي لحين تحقيق الإنتصار النهائي لها.
في اليمن حرب أهلية بين القوميين والليبراليين، وفي البحرين تحولت الثورة إلى صراع بين الشعب من ناحية، والنظام والإخوان من ناحية أخرى، حيث قام هذان الأخيران برفع شعار الطائفية. أما ليبيا فيعيث فيها تحالف أمريكا والإخوان ومرتزقتهم فسادا. ولا تصلح هذه الصراعات نموذجا لثورة من أي نوع. فالشعوب هناك لم تستطع أن تحقق تلاحمها كما حدث في مصر وتونس. لقد أثبت الشعبان الليبي واليمني افتقارهما لوعي حقيقة المرحلة المصيرية، وأنها صراع بين أمريكا وحلفائها من العملاء وجماعة الإخوان وبين الشعوب العربية ومستقبلها القومي والسياسي، ولا مكان فيها لتصفية الحسابات السياسية حاليا. لذلك فإن أنظار كل القوميين التحرريين في العالم العربي، يجب أن تتوجه الآن إلى الثورتين الشعبيتين في مصر وتونس. وأن يتوقفوا عن أية أوهام بشأن دور الجماعة في الثورة المضادة التي أعلنتها أمريكا في ليبيا بمباشرة الجماعة، وتأييد كل دياييث الساحة العربية والعالم الغربي. برلسكوني وساركوزي وميركيل وبوتين والآم المسلمة بريطانيا وبان كيمون ومنظمات حقوق التجسس على الإنسان، كلها تتباكى على الشعب الليبي أي الإخوان. ألا يكفي تأييد أسوأ زعران العالم السياسيين، ومعهم الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي بقيادة الشيخ ” بطن العجل ” ليقول من هم الأخوان؟ إنهم داء هذه الأمة. نكبوها في وعيها وثقافتها وهويتها وتماسكها الإجتماعي، منذ أن أفرزتهم لعنة الإستبداد الديني الأسوأ في التاريخ. واليوم لن ينفع الحزن ولا الندم ولا بكاء الأجيال القادمة على سفوح الذل والعبودية، إذا أعطت الشعوب العربية لهم الفرصة، ليقيموا قاعدة امريكية وغربية للثورة المضادة في ليبيا. سيضعوا ثورة مصر وتونس بين فكي الكماشة، وكذلك أي حركة تحرر قادمة في العالم العربي.
إن النخب الشعبية ليست بحاجة إلى من ينظر لها، فلديها من حسها الثقافي والمعرفي، ما يسد حاجة المرحلة ويربو. ولقد أثبتوا ذلك بامتياز وفرادة ثورية انتزعت دهشة وإعجاب الدنيا. ولكن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى الأفعى المقتربة. والإنتباه نصف السلامة، والإقدام نصفها الآخر. لقد دمروا العراق، فهل نتركهم يدمرون مصر؟ العقل والوعي والتجربة، كلها تقول أن أمريكا لن تكف عن المحاولة ما دام حلفاؤها قادرين على الحركة وخداع الوعي.
موقع كنعان http://kanaanonline.org/ebulletin-ar
28 شباط 2011