عودة الموتى
7 آذار 2011
أحمد حسين
ليبيا:
لا شك أن العقيد معمر القذافي بدأ كشخصية مرهفة ثوريا إلى حدود الإنفعال. أخلص لفلسفته الثورية وكتابه الأخضر وللشعب الليبي إخلاصا شديدا، ومنصفا من وجهة نظره. تميزت شخصيته بالإندفاع والفهلوية، فاصطدمت رهافته وعصبيته الثورية، بجليدية الطواشيين، في نادي السياسة الأمريكية، المسمى بالجامعة العربية. ومع الوقت نجح السائس الأمريكي المعروف عمرو موسى، في وضع المسكين، داخل دائرة من العزلة والعبث الشخصي، مستغلا مباشرته وإخلاصه المغفل، إلى أن قرر تجميد عضوية ليبيا في النادي ” العربي ” والإنضمام إلى النادي الأفريقي. وبعد أن قررت قناة الجزيرة ترشيح عمرو موسى لمنصب الرئاسة في مصر، بوزنها الأفريقي الكبير، لم يعد له مكان يلجأ إليه سوى فنزويلا في أمريكا الجنوبية.
هذه هي قصة دونكيشوت العربي، المسمى عمر القذافي.
عرفت من متابعة الأخبار لاحقا أن القذافي، لم يعد يأبه للثورات، وأخذ يتعامل بالسياسة الدولية، بذات الإنفعال والعصبية والفهلوة مع بعض الدهاء المكتسب، وغير الموفق في معظم الأحيان. ولكنني لم أكره القذافي، ولم أستطع التعاطف عقليا مع نموذجه المثالي.
كرهت القذافي لأول مرة، حينما عقد مع زوجة ساركوزي صفقة إطلاق سراح الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذين حقنوا الأطفال الليبيين بالأيدز. من يومها أيقنت أن الرجل لم يعد يختلف عن غيره من طواشيي عمرو موسى، يفتقر إلى الإتزان العقلي والإحساس بالكرامة. تمنيت مخلصا لو أستطيع البصق في وجهه وليفعل بي بعدها ما شاء. كتبت مقالتين بعدها عنه، لموقع التجديد العربي تم تجاهل أحداهما ونشرت الأخرى، ثم نسيت الرجل.
يومها لم يثر الشعب الليبي ولا الإخوان في ليبيا على القذافي. بل إني لا أذكر أن أحدا في ليبيا، قد ندد بهذه الفعلة التي تهتز لها الجبال. ولا أذكر أن الشيخ ” بطن العجل ” صاحب الكرامات الإفتائية، في التطبيع والإعتدال وشؤون الحيض، قد أشار إليها بكلمة واحدة. وقد قيل أنه سئل في ذلك فقال: زوجة ساركوزي مسيحية، ولا حكم للمسلمين في أهل الكتاب، والديمقراطية في قطر لا تسمح بذلك. فقيل له: ولكن القذافي ليس ” مسيحية “، وهو المسؤول عما فعل. فقال: القذافي مجنون! وليس على المجنون حرج.
وأرسلت إلى ” بطن العجل “، أسأله: هل الأيدز حرام أو حلال؟ قال هو حلال في المرأة وحرام في الرجل. وبعلت بجوابه، فأرسلت استوضحه، فأجابني: ألمرأة نصف رجل في الحساب الفقهي، وفي الحساب الإجتماعي أقل من عشر رجل، وموت الكل ليس كموت النصف أو العشر. والمرأة إذا ماتت نقص أعوان الشيطان واحدا، وهذا موت حلال. كذلك فإن الإيدز أعراضه في المرأة ليست ظاهرة كما في الرجل، وقد تصيب به إحدى النساء القذافي فيموت، وهذا منتهى الحلال. أما الرجال فمنهم العابد ومنهم العالم ومنهم المفكر، فحرام أن يصيبهم الموت. وقلت لنفسي: سبحان رب العزة! وهل تجوز فتوى المجنون في المجنون؟ والخائن في الخائن، و “بطن العجل ” في ذنبه؟ وكنت أعني: كيف تجوز فتوى الإخوان في القذافي؟ ثم أجبت نفسي: كل شيء في الدنيا جائز حتى الكفر. وهو ممنوع فقط في الآخرة. لذلك نسمع كل يوم فتوى القحاب في القحاب، والدياييث في الدياييث، ولا أحد يرى في ذلك بأسا.
وننصرف من النظرية إلى الممارسة، ونزور ما يحدث في ليبيا اليوم. والأمور هناك متشابكة، والأنباء متضاربة. الشيطان مخيم هناك بقبيلته في بنغازي، والساحر مخيم بأتباعه في طرابلس، وكل يدين غريمه. يقول الشيطان: رأيت الله عيانا. فكيف أكفر به؟ عصيته، نعم! ولكنه يغفر المعصية ولا يغفر الكفر؟ والملائكة إخواني، وسوف يشفعون لي. فاتبعوني ولا تتبعوا القذافي فهو كافر ومن تبعه إلى جهنم. ويجيب القذافي متمهلا وهو يضحك: يا حمار! من الذي يغيظك أكثر، الذي ينكرك أو الذي يستهتر بك؟ رأيت الله، فلم تخشه، وعصيته استكبارا. ونحن لم نر الله، ونؤمن به ونخشاه. وإذا عصيناه فبغواية منك. فمن هو الذي أقرب إلى المغفرة؟ لقد فعلت ما فعل صاحبك ” بطن العجل “. استخف بالله فحلف في حضرته بيمين مؤتلاة عليه، دون أن يستأذنه. وسترى يوم الزنقة كيف تحشران معا، وخلفكما المحصنون والمحصنات بالزنا. وسمع بطن العجل بما قيل، فأخذته عزة الشباب الثمانيني، ووقف يصيح من قناة الجزيرة بعد أن خلع عقله:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفيني
وأجابه القذافي ارتجالا، وهو صامد كالصخرة:
اليوم الزنقه اليوم الزنقه وريني حالك يا بقه
ويبدو أن الأمر بين الإثنين لن ينتهي إلا بما اقترحته كلينتون، وهو عودة السنوسي إلى الحكم، على غرار ما حدث في تونس من عودة بورقيبة إليه، وإلى يمينه السيدة وسيلة.
تونس:
قال الراشد المرشد:
مثلي بينكم أيها التونسيون، كمثل يوحنا المعمدان، أضيء بدمي زنقات الإيمان بينكم وبين الخلاص. سيأتي من الأموات ليفديكم بدمكم، ويحرركم من زين العابدين بن علي.
وصاحت الجموع: ومن هو أيها الضوء المعمداني؟
قال: ألسيد بورقيبة! يبعث حيا بينكم، فيعيد للدولة هيبتها، وللحكم استقراره، ويعطي الأغنياء غناهم والفقراء ملكوتهم السماوي، كما أمر الله. يأمركم بالصلاة والزكاة، ويأمر النساء بالحجاب حتى لا تخرج منهن الفتنة إلى الشباب، وتعود الفوضى إلى حالها. فوالله ما أشعل الثورة إلا هن، وما أغرى الشباب بالتحرر إلا هن.
فصاح شباب من الحاضرين: وتحلف بالله كاذبا يا معمد الشياطين بعرق الفقراء! ماذا كنت تفعل عند عجوز السوء القوادة الإنجليزية؟ قمت عن الزنقة، بعد الثورة، وأتيت في هيئة نبي كذاب لتخرج أمريكا من زنقتها. هل رأيت شابا في الثامنة عشرة يغوي امرأة في الثمانين؟ فما بالكم يبدأ أحدكم شحاذا أو لصا أو مدمنا، وما يكاد يطرق باب الله بصلاة او صلاتين، وإذا هو مليونير يبحث عن الزنا الحلال، فيغوي وهو الثمانيني، أو تغويه، فتاة في الثامنة عشرة. والله لئن عاد بو رقيبة، لنربطنه بعجل سمين، ونسلط النحل على دبره! إرحل عليك البهلة.
فصاح الراشد المرشد مستشيطا: لأرمينكم بداهية محنطة تشبه الأفعى، يخرج الشر من وجهها كما تخرج الرائحة من الجيفة، يعيد إليكم الأدب.
وصرخ شاب من بين الجمع: وهل يقوى شيء على شعب غضب لحق، أيها المغفل! إن الباطل يسلب العقل ويورث الحيرة، والحق يزيد في العقل حتى يبلغ الوعي. إنزل وعد إلى عجوزك المتصابية، وجزرك الشيطانية، ولا تجعلنا نتجول حفاة في الشوارع.
ونزل الدجال وهو يحوقل ويقول: رويدا يأتي المارينز إلى ليبيا، وعندها ترون الهول.
وصاح به هذه المرة رجل جاوز الشباب: أرسلهم! لنا عندهم ثأر في العراق لا تمحوه الأيام. فلعلني لا أموت إلا بعد أن أشفي غليلى من أولئك الهمج. لم يعد الهول يخيفنا بعد أن شفينا من تدجيلكم. سيفيض النيل على ليبيا ويغرق أبناء الشياطين.
مصر:
أهو حتم على العسكر، أن يكون رؤساء الحكومة الإنتقالية من خارج الشعب والثورة؟ نعم هو حتم أمريكي مفهوم! على الماضي بتدرجاته المموهة، أن يتسلل إلى المستقبل، وعلى المستقبل أن يتوقف في ميدان الشهداء ولا يتسلل إلى معاقل الماضي. ورويدا يتحول مشروع الثورة إلى هبة شعبية، والهبة الشعبية إلى مظاهرات ميدان التحرير. ومظاهرات ميدان التحرير، إلى مطالب الشعب، التي ستفرغ من مضمونها الفعلي ليصبح تنفيذها الشكلي غطاء لشرعية النظام القادم القديم. ولكن كيف أقتنعت الثورة بذلك؟
لقد فعل الوقت الضائع فعله، واستطاعت الشياطين أن تخدع الملائكة، حتى استكملت استعدادها لثورتها المضادة، بعد أن نجحت في اختراق الثورة وجعلتها ثورتين. ثورة الوزير الثوري السابق، وثورة الرافضين للعبة العسكر. هل خلت مصر من النخب الفكرية التي لم يلوثها النظام السايق؟ وما معنى الحكومة الإنتقالية في مفاهيم الثورات، سوى أنها الحكومة الثورية الأكثر نصاعة من كل الحكومات القادمة، والتي ستضع الثورة في سياقها الشعبي الأكمل بعد انتهاء الفترة الإنتقالية؟ في الثورة تمنع كل أشكال التعددية في الفترة الإنتقالية، وإلا لأصبحت الثورة لونا من ألوان النظام المعدل. ألجيش لا يفاوض الثورة. الجيش يقوم بمفاوضة الفئات السياسية القديمة المشهورة بانتهازيتها وفئويتها ورعبها من مطالب الثورة الشعبية. وهل يتوقع من الجيش المصري أو التونسي أن تكون قياداته العليا نظيفة من العمالة في نظام قام كله على العمالة؟ هل يغيب عن التوقع أن أمريكا لن تترك الجيش في قبضة النظام؟ بل على العكس سيكون الجيش هو حامي النظام ومسقطه في آن واحد، كما تقتضي إرادة أمريكا؟ فكيف يكون وضع الثورة حينما تخرج من حسابها أن الجيش في الأنظمة العميلة لأمريكا، هو ممثل أمريكا المباشر في النظام ؟ وكيف تفهم الثورة نفسها حينما تتصدى لرجالات النظام السابق في الوزارات المدنية، ولا تتصدى لهم في الجيش؟ تطالب بإسقاط أبو الغيط وأحمد شفيق ولا تطالب بإسقاط الطنطاوي ورئيس الأركان، وكأنها تصادق على عمالتهم وتمنحها شرعية التحكم في الفترة الإنتقالية. من قال أن الجيش ليس عدوا للشعب في أية دولة عربية؟
على الثورة المصرية أن تعيد النظر، في حالة العبث التي وضعها فيها الجيش وأن تجدد ثورتها، وتأمره بالعودة إلى ثكناته، بعد أن يقوم مجلس الثورة بعزل قيادته التي تنسق مع أمريكا خطوة بخطوة. إن المشهد الذي أخذ يتبلور كبديل عن الثورة على الساحة المصرية يثير الرعب. ولو قام الشعب بالإستيلاء على المشهد، وشكل مجلسه الثوري وحكومته الإنتقالية، وأصدر أوامره الأدارية الملزمة استنادا إلى زخم الثورة الشعبية وقوتها الجماهيرية العظيمة، وحلت الأحزاب السياسية القديمة، وأعلن مجلسها حالة الطواريء إلى حين وضع دستور يقوم على الديموقراطية التحررية، والتعددية الآمنة لسارت الأمور بشكل مختلف تماما، ربما بكلفة استشهادية أعلى مما حدث، ولكن بدون أية خسارة مطلبية. هذا هو شأن كل الثورات التي لم تبلغ من الزخم الشعبي مثل ما بلغت الثورة المصرية. كان بإمكان الثورة حسم الأمور في يوم واحد لصالحها من خلال أية مواجهة. وكان بإمكانها حمل السلاح لو اقتضى الأمر. وما لم تقم به الثورة المصرية منذ البداية، يظل يضعها أمام ذات الخيار، خسارة الثورة، أو استعادة الزخم الثورى والتصرف من موقع القوة السيادية المطلقة، التي تأمر الجيش ولا تستجدي قيادته العميلة، فتقوم بفك الإرتباط به أولا. وبكل مؤسسات النظام السابق.
أي وضع ثوري هذا الذي يسمح، للإعلام المبتذل، بالحديث نيابة عن الشعب المصري وثورته، والتمهيد مرة لترشيح خياط الحمير، ومرة لترشيح سائس البغال، لرئاسة مصر، وكأنها أرملة تبحث عن زوج مما تيسر.
مصر ليست ثورة. إنها الثورة. فماذا نفعل بفرحنا إذا لحقها سوء؟
أللهم لا!
أللهم لا!