بين تونس و مصرأضواء كاشفة، وظواهر أساسية
د.محمد عبد الشفيع عيسى
كشفت أحداث الثورة الشعبية التونسية، ومن بعدها أحداث الثورة الشبابية الشعبية المصرية الوثابة، خلال يناير وفبراير2011 عن حقائق عديدة ، أبرزها حقيقتان:
1- عمق التفاعل العضوي على المستوى المجتمعي والشعبي بين الأقطار العربية، فقد تنادى الشعب العربي في جميع الأقطار بما جرى في تونس، التي كانت تبدو بعيدة عن قلب حركة الأحداث العربية العامة في السنوات الأخيرة ، من وراء أسوار القمع الأمني والعزلة السياسية المفروضة داخلياً وعربياً . ومن أصغر الأصقاع ، في القرى والنجوع والبوادي، من أقاصي اليمن مروراً بلبنان ومصر والخليج بما فيه السعودية ، إلى سائر بلدان المغرب العربي، كان واضحاً عمق الاهتمام الشعبي بما حدث في تونس الشقيقة ، ومتابعة جميع ما يجري لحظة بلحظة، مع تمّني أن تكنس حركة الأحداث كل المظاهر الدالة على اهتراء منظومات الحكم السائدة ، والفساد المستشري ، والذل التبعىّ إزاء بعض قوى النظام العالمي. وجاء التتبع العربي الشعبي الشامل لحركة الثورة المصرية الأخيرة دليلا أشد وضوحا على الحقيقة ذاتها.
2- التقارب النسبي في الشكل والمضمون بين الواقع الذي جرى إسقاطه أو هز أركانه على الأقل، في تونس الشقيقة، وبين واقع البلدان العربية كافة، وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية .. حيث ألقت الأحداث المتبادلة أضواء كاشفة على الواقع العربي، وقامت بـ (تعرية) نادرة لجميع جوانب هذا الواقع، بما جعله ناصع الوضوح أمام العيان، وأبرز مفاصله أو (ظواهره الأساسية) بادية أمام الجميع. وفي محاولة منا للرصد التحليلي لما حدث في الحالتين، نلقى الضوء فيما يلي على الظواهر الأساسية في الواقع المصري الراهن. فما أهم هذه الظواهر؟
إن الظاهرة الأولى هي سيادة منطق النهب، ممثلة في: سيطرة المافيات أو (عصابات النهب السريع على طريقة “اضرب واهرب”) في ظل غياب أو تغييب أية ضوابط للتكاليف والأسعار وهوامش الأرباح ومستويات أجور المشتغلين. وهناك أكثر من نوع من هذه العصابات النهابة أو “المافيات” نرصدها في “رؤوس أقلام” فقط، على النحو التالي، ودون أن يعني نمط تسلسلها ترتيبا للأولوليات بالضرورة:
أولا : المافيات الكبيرة
1- مافيات التجارة الخارجية والداخلية أ- مافيات الاستيراد:
• للمواد الغذائية، مثل :- الشاي – الحليب الجاف – الأسماك المعلبة
• للسلع الوسيطة، مثل : – الأخشاب – الكيماويات الوسيطة – مواد التنظيف
• المدخلات الزراعية: – البذور والتقاوى والأسمدة
• استيراد السيارات على اختلاف نوعياتها ومن مختلف الدول
• استيراد الأجهزة مفككة لتجميعها في غيبة ضوابط تسعير السلع المستوردة.
2- مافيات التجارة الداخلية بالجملة، مثل :
• تجارة الخضروات والفواكة
• تجارة السلع الصناعية على اختلافهاوذلك كله، كما أشرنا، في غيبة أي لون من التسعير الجبري أو الاختياري أو التوافقي، وفي غيبة فاعلية جمعيات المجتمع المدني لحماية المستهلك، في ضوء تغييب دور الهياكل التعاونية للمنتجين والمستهلكين معاً .
3- مافيات الإسكان والعقار والبناء في الأراضي الجديدة وأراضي الدولة، من باطن التعاملات غير (الشفافة) مع الأجهزة المسئولة في الدولة.
4- مافيات الاستثمار والانتاج الصناعي، كما في حالات صارخة مثل: صناعة “حديد التسليح” والأسمنت، وليست صناعات قائمة على مجرد “التعبئة” كالزيوت النباتية والشحوم الحيوانية ومواد التنظيف و “الصابون”.
5- مافيات الخدمات وخاصة:
• المستشفيات الخاصة المسماة بالاستثمارية
• المجمعات والمنتجعات السياحية
ثانيا: المافيات الصغيرة،
• ماافيا العلاج الخاص وعيادات كبار الأطباء
• الأنشطة المهنية لكبار المحامين وبعض فئات المهنيين الأخرى.
ثالثا: المافيات الصغرى (أو الميكرو)
إذ تمتد سيادة منطق المافيا حتى أصغر مستوى Micro ابتداءاً من الموظف البسيط حتى (منادى السيارات) لدى “مواقف الانتظار” غير المرخصة.
الظاهرة الثانية: فهي الفوضى المجتمعية المنظمة والعشوائية، ومن مظاهرها:
أ – فوضى التعليم (: تعليم حكومي، خاص، أجنبي)
ب- فوضى العلاج الطبي
ج- فوضى النقل والسير وحركة الشارع
د- فوضى البناء والإسكان والتشييد
هـ- فوضى القطاعين الزراعي والصناعي
ح- فوضى القيم الاجتماعية (تعّدد الأنظمة القيمية وتضاربها).
الظاهرة الثالثة: التداخل العضوي الوثيق بين قوى الثروة وقوى السلطة، بين العصابات النهابة-”المافيات”- و بين “جهاز الدولة” على المستويات العليا والوسيطة. وفي ذلك تفاصيل كثيرة، ليس هنا محل استعراضها أو تحليلها. ويتمثل هذا التداخل في حالة صارخة هي حالة أحد رجال الأعمال الذي هو صاحب شركة ذات موقع احتكاري مسيطر في أحد القطاعات الصناعية الفرعية الكبرى، وفي نفس الوقت هو “ممثل الأغلبية” في مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان)، و “أمين التنظيم” في الحزب الحاكم ( المسمى بالحزب الوطني الديموقراطي) ورئيس إحدى لجان مجلس الشعب.
الظاهرة الرابعة :التداخل بين الحزب الحاكم وأجهزة الدولة، ابتداء من الرأس الأعلى حيث رئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى للحزب، وحيث الأمين العام للحزب رئيس ما يسمى بمجلس الشورى (الغرفة الثانية في البرلمان) ورئيس المجلس الأعلى للصحافة ورئيس لجنة الأحزاب … وربما غير ذلك ..!
الظاهرة الخامسة :غلبة “الاستمرار” و “الاستقرار”- استمرار نظام الحكم واستقرار النظام السياسي القائم – على مطالب التغيير والتجديد الجذري، سواء من حيث تكوين وشخوص جماعة السلطة، أو في التركيب الجيلي والفكري لما يسمى بالنخبة السياسية ، وفي آليات الحكم الدستورية والقانونية والسياسية. وتتمثل هذه الظاهرة، ضمن أمور أخرى، فيما يلي:
1- استمرار بعض شخوص جماعة السلطة الرئيسيين لمدة ثلاثة عقود دون تغيير، على مستوى القمة والمستويات الوسيطة .
2- الطابع الجزئي و“المظهري” للتغييرات الدستورية التي تم إجراؤها اعتباراً من عام 2005، حيث روعي فيها عدم النص على أي مما من شأنه المسّ جوهريا باحتكار الحزب الحاكم لأهم مواقع السلطة العليا، ممثلة في منصب رئيس الجمهورية.
3- المراقبة والسيطرة على العملية الانتخابية للبرلمان وكافة الهيئات التمثيلية، بما يضمن تجميد آليات الحركة السياسية في المجتمع.
4- التلاعب بتكوينات الأحزاب السياسية المرخصة قانوناً، واستمرار حظر أكبر جماعة سياسية في المجتمع وهى جماعة الأخوان المسلمين واضطهاد أعضائها وقياديها .الظاهرة السادسة كبت حركة النقابات العمالية (النقابات المهنية واتحادات الطلاب)، وقد تم ذلك من خلال سيطرة الحزب الحاكم على اتحادات العمال، والمنع الفعلي للإضرابات العمالية أو محاصرتها كأسلوب أساسي للتعبير المطلبي المنظم، و“تفصيل” قانون النقابات المهنية واللوائح المنظمة لاتحادات الطلبة في المؤسسات التعليمية من المدارس والجامعات، بما يكفل تحجيمها في الحدود المناسبة “لاستمرار” نظام الحكم الراهن و“استقرار” النظام السياسي .هذا، و تجدر الإشارة إلى أن الظواهر المشار إليها، والتي أضاءتها “كشافات” الثورة الشعبية التونسية، ليست أكثر من “مظاهر” خارجية لحقائق عميقة الجذور، ثاوية في أعماق البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ؛ ونذكر من بين هذه الحقائق، في لمحة موجزة، ما يلي:
1- ضياع فرصة تحقيق انطلاقة تنموية حقيقية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ولقد كان من شأن هذه الفرصة، إن تحققت، “إعادة تموضع” الوطن العربي في النظام العالمي، بما يتكافأ مع ثرواته الطبيعية والبشرية والمالية الهائلة، وبالمقارنة مع مناطق أخرى أحسنت الاستفادة من الظروف الدولية لتحقيق انطلاقتها التنموية، ونشير بصفة خاصة إلى منطقة شرق آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، مع إدراكنا لاختلاف الملابسات.
2- عمق التفاوت الاجتماعي، الطبقي والمناطقي في البلدان العربية، وإهدار العدالة الاجتماعية، وخاصة في مجال إعادة توزيع الدخل والثروة بين الطبقات الاجتماعية وبين المناطق “الجهوية” داخل كل بلد عربي. وقد تم ذلك بفعل الانجراف وراء موجات العولمة الرأسمالية العاتية، وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء، واضمحلال الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وطغيان الأقليات الثرية على الغالبية الاجتماعية من المشتغلين اليدويين والذهنيين في عموم الوطن العربي. وتجسدت نتائج ذلك بادية للعيان، من وراء الحركات الاحتجاجية العربية الأخيرة، وفي مقدمتها: تفاقم ظاهرة “بطالة الخريجين”، و عدم التوازن بين أضلاع ثلاثية الأجور والأسعار والإنتاجية، وتحميل الطبقات العاملة والوسطى أعباء “الأزمة المالية والاقتصادية العالمية”، بتقليص فرص العمل وخفض الدخول المتاحة، وتجريدها من ملكية الأصول المنتجة للثروة ومن فرص الترقي التعليمي والمعرفي والصحي والمعاشي عموما.
3- تعمق احتكار السلطة من قبل عٌصب وعصابات، يقال لها نخب وصفوات، محتكرة للثروات، خاضعة للنفوذ الأجنبي، الأمريكي بصفة خاصة، وخانعة أمام العدو الصهيوني.
4- إهدار فرص تحقيق تكامل قاعدي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان العربية، سعيا إلى تحقيق منافع اقتصادية وسياسية مؤقتة للنظم الاقتصادية والسياسية القائمة.وانطلاقا من هذه الحقائق العميقة ، والمظاهر المعبرة عنها، كما بينت الأحداث التونسية والمصرية الأخيرة، تحركت جموع الشباب العربي في مصر، في ثورتها المباركة الأخيرة، سعيا نحو الخلاص، باعتناق آمال التغيير الجذري للأوضاع جميعا، نحو الأفضل في المستقبل.