صورة لأحد ملصقات الحملة القومية لرفض التعديلات الدستورية
حملة التصويت ب “نعم” بين الجهل وتدليس الثورة المضادة
محمد واكد
يقوم مؤيدو التعديلات الدستورية المقترحة الآن بالترويج لواحدة من أكبر حملات التدليس التي عرفتها مصر. وتتجلى أولى صور هذا التدليس في تسويقهم لفكرة ساذجة مفادها أن التصويت بـ<<نعم>> على التعديلات الدستورية هو توكيد للديمقراطية، وأن من يرفضونها إنما يرفضون بذلك الديمقراطية نفسها. أو على الأقل يدعون أن من يرفضون هذه التعديلات إنما يبنون موقفهم على الخوف ممن سيفوزون في الانتخابات البرلمانية القادمة–خصوصا فلول الحزب الوطني السابق الذين يقومون الآن بإعادة إنتاج أنفسهم في أشكال جديدة، وجماعة الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية–وبذلك يصورون من سيرفضون التعديلات على أنهم لا يثقون في قدرة الشعب على تحديد مصيره ويتعالون على الديمقراطية على نهج <<حسني مبارك>> الذي كان دائما ما يدعي أن الشعب غير جاهز للديمقراطية.
اللعب بتعديلات مبارك والإلتفاف على الثورة
وردا على ذلك أقول أن كلامهم هذا فارغ من أي مضمون جدي ومردود عليهم، فمن المعروف للجميع أن إسقاط الدستور السابق كان أحد مطالب الثورة الرئيسية التي أجمعت عليها قوى الثورة، و أن كافة وسائل الإعلام نقلت هذا الإجماع، الذي اتفق عليه كل الثوار، وعلقت مواده على كل اللافتات التي رفعت في ميدان التحرير والميادين الكبرى، وهذا أمر أكيد لا يحتمل اللبس أو التأويل. ومن المعروف أيضا أن التعديلات الدستورية المقترحة ما هي إلا نسخة معدلة تعديلا طفيفا من التعديلات التي اقترحها الرئيس المخلوع <<حسني مبارك>> قبل خلعه للإبقاء على نظامه، والتي رفضتها كل قوى الثورة بما فيهم الكثير ممن يقولون <<نعم>> الآن، وإن تناسوا ذلك وأخفوه عن الناس.
لكننا نراهم الآن يقبلون بنسخة معدلة من تعديلات لا تختلف اختلافا جوهريا عما رفضناه بشكل قطعي منذ شهر، ويتعاملون معها كما لو كانت بيت القصيد الذي قامت الثورة من أجله. وفي هذا الطرح الكثير من التدليس كما هو واضح. بل الثابت هنا هو أن في فرض حل <<حسني مبارك>> على الشعب، الذي رفضته الثورة بشكل من قبل، تعدٍّ شديد على الديمقراطية من حيث الشكل والمضمون.
حدوتة البيان الدستوري الجديد لا معنى لها
وفي نفس السياق، يتحجج معسكر <<نعم>> بحجج واهية أخرى من نوعية أن التعديلات الدستورية المقترحة ما هي إلا <<بيان دستوري جديد>> يلغي الدستور القديم أو على الأقل لا يحتم عودته، وهذا في أفضل الأحوال الأمر كلام مضحك، حيث أن ممثلي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين يشرفون على الأمور يقولون بشكل واضح أن من حق القوات المسلحة التي عطلت العمل بهذا الدستور أن تعيد العمل بنفس الدستور القديم في صورته المعدلة بعد الاستفتاء بـ<<نعم>>. ولنكن أكثر تحديدا، أكد اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية والدستورية، وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه:
<<فى كلتا الحالتين (نعم أو لا) سيتم إعلان دستورى، ولكن مع اختلاف الإجراءات، فإذا ما جاءت النتيجة بـ«نعم»، ستكون المواد محل الاستفتاء هى أساس العمل، وإذا ما جاءت النتيجة بـ«لا» سيتم إعلان دستورى يتضمن أحكامًا عامة خلال فترة انتقالية وليس دستورًا جديدًا…ثم سيتم إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية، ويعود العمل بالدستور القديم وفقا لما يقرره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصفته هو الذى عطل الدستور، ومن حقه أن يقرر العمل بالدستور>>. هذا هو نص كلام اللواء شاهين بالحرف، وأظن أن معناه واضح للجميع. بالإضافة لذلك، يرفض القائمون على التعديلات أن يأتي الاستفتاء على هذه المواد في صورة بيان دستوري مستقل، ويصرون على أن تحمل كافة المواد إشارة إلى مواد الدستور القديم التي يجري تعديلها، وألا تعرف نفسها على أساس أنها تنهي العمل بالدستور القديم.
وعلى ذلك، لا يوجد أي مضمون حقيقي للإدعاء بأن التعديلات تمثل <<إعلان دستوري جديد>>، حتى لو صح ذلك من حيث الشكل الإعلامي. لهذا أفتت معظم معظم الرموز القانونية المستقلة بأن مقولة استقلالية هذه التعديلات عن الدستور القديم هي مقولة واهية لا صحة لها، وذلك على خلفية علاقة المواد المعدلة بالدستور القديم وتصريح القوات المسلحة بإمكانية إعادة العمل به، على الرغم من أن لعدد من القانونيين تصريحات صحافية توحي بعكس ذلك. كما أن هذه المواد بمفردها لا تصلح أصلا لأن تكون بيانا دستوريا مستقلا كما يدعون. ولذلك لنا أن نتساءل عن سبب الزج بهذه الحدوتة الآن على الرغم من أنها لا تعني شيء حقيقي.
الخوف من الديموقراطية…وكلفتة الدستور على مقاس الحبايب
وفي نفس السياق أيضا يتحجج معسكر <<نعم>> بأن من سيرفضون هذه التعديلات يرفضون بذلك الديمقراطية لتخوفهم من فوز التيار الإسلامي في الانتخابات، وأنهم يرفضون التعديلات لمنعه من الفوز وإعطاء نفسهم الوقت الكافي لتنظيم أنفسهم لمواجهة هذا التيار. وهذا أقرب للكلام الفارغ منه للحوار الجدي. فبكل تأكيد يحق للمستقلين غير المنظمين الذين شاركوا في الثورة–وهم الغالبية الساحقة ممن شاركوا فيها–أن تتاح لهم فرصة حقيقية لتنظيم أنفسهم، ولا يحق لأحد أن يتعجل العملية الانتخابية ليمنعهم من ذلك أو يقطع عليهم الطريق ثم يدعي أن العكس هو ما يحدث–وهذا من أبسط أسس الديمقراطية.
لكن ليس هذا مربط الفرس أصلا كما يحلو لهم أن يصوروه. فاعتراض معسكر رفض التعديلات على هذه النقطة، وهو الجانب الذي أنتمي إليه، لا ينبع من رفضهم لفوز الإخوان في الانتخابات القادمة بقدر ما يعود إلى رفضهم استئثار مجلس شعب ينتخب على تعجل وتسرع بوضع الدستور الجديد. نحن نقول إذا كانت الانتخابات سوف تأتي بالإخوان أو غيرهم فهنيئا لهم، ولا نظن أن يرفض ذلك عاقل أو صاحب مبدأ، أما أن يعني ذلك أن يقوموا هم وفلول الحزب الوطني بصياغة دستورنا الجديد، كما نشير الترتيبات التي ستتبع التصويت بـ<<نعم>>، فهذا ما نرفضه بشدة.
وكان من الأفضل لمن يتباكون على الديمقراطية الآن، إذا خلصت نواياهم، أن يفصلوا بين عملية صياغة الدستور ونتيجة الانتخابات المسلوقة في تحليلاتهم ومقولاتهم، تلك النتيجة التي لن تمثل طموحات أغلبية من قاموا بالثورة وأغلبية الشعب في أي حال من الأحوال نظرا لضيق الوقت–وإن كنا لا نشكك في ضرورة قبول نتيجتها. و كان أجدى لهم بدلا من أن يدافعوا عن الترتيبات الديكتاتورية السخيفة التي توجبها التعديلات المقترحة أن يدفعوا باتجاه التسريع بعملية تؤسس للجنة صياغة دستور جديد تكون ديمقراطية وشفافة وممثلة للشعب كله في معزل عن الانتخابات التي ستحدد القوى التي ستحكم البلد وتلك التي ستشرع لها. وكان يمكن الشروع في تحديد القوى التي ستحكم البلد وتشرع له دون الحاجة لترتيبات دستور مبارك السخيفة، وذلك بالرجوع إلى بيان دستوري جديد واضح ولا لبس في ماهيته مع وضع إجراءات انتخابية مؤقتة وسريعة لحين صياغة الدستور الجديد. لكنهم تعللوا بالشكليات ولفظوا الجوهر. وهنا لنا أن نرتاب في إصرارهم على الربط بين وضع الدستور الجديد من ناحية والفوز في انتخابات تقوم على النظام الفردي وتتم بشكل مسلوق ومتسرع من ناحية أخرى.
مرة أخرى أقول: أهلا وسهلا بنقل سريع للسلطة، وأهلا وسهلا بإعلان دستوري جديد وإجراءات سريعة لتنظيم ذلك، وأهلا وسهلا بكل من سيفوز بالانتخابات حتى لو كانت مسلوقة، لكن لا وألف لا للربط بين شكل الدستور الجديد وهذه العملية المسلوقة. إن من يصرون على هذا الربط لأسباب شكلية واهية من نوعية ضيق الوقت وغير ذلك مما كان يمكن تجاوزه باللجوء لأشكال إجرائية مختلفة عن الدستور القديم الذي أسقطته الشرعية الثورية يجب أن يثيروا الريبة، لا الاحترام.
وعلى هذا المنوال تبقى مسألة الإصرار على انفراد الفائزين في الانتخابات التشريعية والرئاسية بصياغة الدستور الجديد سابقة هي الأولى من نوعها لم تحدث حتى في جمهوريات الموز والبطيخ! فعلى سبيل المثال من غير الممكن إطلاقا تصور أن يقوم حزب ساركوزي المحافظ أو الحزب الليبرالي البرازيلي بإعادة صياغة دساتير فرنسا والبرازيل، مثلا، لمجرد أنهم فازوا بالأغلبية في الانتخابات في لحظة ما! ومن البله الشديد أن تعهد لهم مجتمعاتهم بتلك المسئولية وحق تحديد من يشارك في وضع الدستور من خارجهم، وإن إئتمنتهم على تعديل الدساتير الموجودة بالفعل في حدود ضيقة لأن القيام بمثل هذه التعديلات يعتبر إجراءا طبيعيا في كل الديمقراطيات.
لذلك نرى كافة نظريات وضع الدساتير في الديمقراطيات الحديثة ترفض أن يحتكر الفائزون في الانتخابات في لحظة ما وضع دستور جديد للبلاد، وإن أعطت الفائز الحق في عمل تعديلات محددة حين الحاجة لذلك، لكن شتان بين التعديل وصياغة دستور جديد. ولذلك أيضا تنهي هذه النظريات عن استخدام نفس المواد الدستورية التي يراد بها إدارة عملية تعديل الدستور في الظروف العادية في وضع دستور جديد من الأساس. بل على العكس تماما، تؤسس كافة هذه النظريات لأن تكون عملية وضع الدساتير الجديدة من مسؤولية لجان واسعة تمثل أطياف الشعب كله.
الديمقراطية تستوجب تنفيذ مطالب الثورة. الديمقراطية تستوجب وضع دستور جديد للبلاد من كل أطياف الشعب. التمسح في الديمقراطية يطالبنا الآن بالتغاضي عن مطالب الثورة ويحصر حق وضع الدستور الجديد في يد مجلس شعب تكوَّن على عجل بالنظام الفردي (لا القائمة النسبية)، ومثل هذا المجلس لا يجوز أن يحدد معالم الدستور الجديد حتى لو حق له حكم البلاد. ولا يحق لكائن ما كان أن يصور هذا الاعتراض على أنه رفض مبدئي لتولي فصيل ما مقاليد الحكم بعد أن يأتي بالإنتخاب.
التعديلات تستقي شرعيتها من نظام مبارك وتعيد إنتاج ديكتاتوريته، وترفض الشرعية الثورية
وبناء على ما سبق عرضه بالنسبة لهذا الرفض الشديد من قبل معسكر التعديلات الدستورية لأحد أهم مطالب الثورة وركائزها، ومحاولة الباس عملية الالتفاف عليه بلباس الديموقراطية، نجدنا لا نستغرب ما يقوله أعضاء المجلس العسكري من أنهم لم يأتوا للسلطة بناء على الشرعية الثورية، وإنما أخذوها بتفويض من الرئيس المخلوع، حيث يؤكد سيادة اللواءممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية والدستورية، وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالحرف <<البعض كان يعتقد أن القوات المسلحة تولت بمقتضى الشرعية الثورية، ولكن ما حدث أن القوات المسلحة نزلت إلى الشارع وفقا لقرار رئيس الجمهورية باعتباره القيادة السياسية>> ونفهم أن تفويض الرئيس السابق هو مصدر شرعيتهم على الرغم من عدم دستورية هذا التفويض حتى طبقا للدستور القديم، ونفهم كيف انتهى بنا الأمر في حصر إنجازات الثورة في نفس التعديلات التي اقترحها <<حسني مبارك>> قبل رحيله، فهو كما يبدو مصدر شرعية هذا التوجه من الألف للياء! ولا بد لمن يصوت بـ<<نعم>> لهذا الحل أن يعرف مصدر شرعيته، وعليه أن يتحلى بقدر قليل من الأمانة ولا يتمسح في الديمقراطية.
كما نفهم كيف قام سيادة المستشار طارق البشري، رئيس اللجنة التي صاغت التعديلات الدستورية، وهو من أهم الرموز التي صورت رفضنا للتعديلات على أنه خوف من الديموقراطية، بتحذيرنا من تأجيل الإنتخابات البرلمانية إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسية. وكانت بعض فصائل المعارضة قد اقترحت ذلك من أجل توفير بعض الوقت للمعارضة غير المنظمة لكي تنظم نفسها ولو قليلا–وهي تمثل أغلبية الشعب وأغلبية من قاموا بالثورة. لكن فصيل الإخوان المسلمين المنظم جيدا من قبل الثورة، وسيادة المستشار، والكاتب الكبير فهمي هويدي، رفضوا ذلك تماما. وتعلل سيادة المستشار بأن إجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية قد يؤتي بديكتاتور مثل مبارك لما في الدستور من صلاحيات جزافية للرئيس، وبذلك نخاطر بإعادة إنتاج مبارك 2. ونسي سيادته أنه هو الذي قاد عملية البناء على هذا الدستور أصلا، ولم يقول لنا لماذا يطلب مننا أن نلجأ لدستور ربما يأتي بمبارك 2 من الأساس، بدلا من تغييره الآن، ولماذا لم يتخذوا مثلا دستور 54 كأساس للتعديل إذا كان ضيق الوقت هو السبب، وهو دستور مقبول في أواسط المعارضة أكثر بكثير من الدستور الحالي. وكان من الممكن أيضا إلغاء بعض الصلاحيات الجزافية فورا، كحق الرئيس في تعيين ثلث مجلس الشورى، فمثل هذا التعديل لا يحتاج لوقت أصلا. لكن ها نحن نرى البشري يسوق لنا دستور يقر هو نفسه بأنه عمود الديكتاتورية في مصر، متعللاً في ذلك بشكليات إجرائية لا تقنع طفلا، شكليات كان يمكن تجاوزها بسهولة إذا خلصت النوايا. وها نحن نراه ينعت من يرفضون الاحتكام لهذا الأساس الديكتاتوري، كما أفاد هو نفسه، بالخائفين من الديموقراطية.
تناقضات البشري وهويدي
سؤال جدي نطرحه إذن على سيادة المستشار والأستاذ فهمي هويدي ومن درج على نهجهم مثل الزميل الفاضل وائل جمال: كيف تعتبرون من يرفضون هذه الترتيبات السخيفة خائفين من الديموقراطية ولا يثقون في قدرة الشعب على فرض خياراته على الدستور القادم ثم تتخوفون أنتم من الإنتخابات الرئاسية بنفس تخوافتنا؟ هل يقتصر حق التخوف لكم فقط؟ ألا يحكم كل هذه الترتيبات نفس الدستور المعيب؟ لماذا تصبح تخواتكم أنت مشروعة وتخوفات غيركم خيانة للديموقراطية؟ هل يعود ذلك لشهرتكم مثلا؟
ألا يحق لنا أن نتساءل إذا كان رفض كلا من طارق البشري وفهمي هويدي، مع كل الإحترام لهم، والإخوان لانتخاب الرئيس أول يعود لعدم قدرة الإخوان على الفوز بمنصب الرئيس، على الرغم من قوتهم البرلمانية؟ وهل يرفضون تعديل الدستور أولا حتى لا تصبح الانتخابات بالقائمة النسبية فتقل نسبة الإخوان في البرلمان القادم الذي سيلعب دورا محوريا في تحديد معالم النظام السياسي في مصر؟ هل يمكن بناء موقف حقيقي على أساس مبرراتهم الشكلية من نوعية ضيق الوقت إلى آخر ذلك من التبريرات الشكلية التي تهدف للالتفاف على جوهر العملية السياسي؟ وكيف نتعامل مع تناقض مواقفهم بين الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، علما بأنهم محوكين بنفس الدستور؟!
ولماذا لم يفصلوا بين عملية وضع الدستور وعملية تحديد القوى التي ستحكم مصر–وهو ما كان سيكفي كافة قوى المعارضة حتى لو فازت الإخوان بالبرلمان والرئاسة معا، وهو أيض ما يكفل إزالة تخوفاتهم هم أيضا إذا خلصت نواياهم؟
وأخيرا، كيف نقييم موقف طارق البشري من طريقة صياغة هذه التعديلات وقربها الشديد من تعديلات <<حسني مبارك>>؟ أعني بذلك أن طارق البشري من رموز الفكر الدستوري في مصر. وأنه علمنا جميعا أن عملية وضع الدساتير الجديدة هي بالأساس عملية سياسية تنخرط فيها كل طوائف المجتمع وفصائله السياسية، لا عملية فنية يقوم بها مجموعة من الخبراء القانونيين. وبرز ذلك بشكل جلي عندما سخر تقريبا من مطالب حركة تعديل الدستور التي قادها محمد البرادعي منذ شهور قليلة! لكننا وجدناه يتغاضى عن كل ما علمنا إياه وكل ما رمز اليه بقبوله أن يقوم بتعديلات شكلية على دستور يقر هو نفسه بأنه دستور ديكتاتوري بغيض، وبقبوله أن يقوم بذلك مجموعة صغيرة من الخبراء دون أي تمثيل من القوى السياسية المختلفة، الهم إلا الإخوان. الأدهى من ذلك أنه فاجأنا بوصف من يرفضون هذه التهريج إستنادا لنفس المواقف التي كان البشري ينظر لها حتى وقت قريب بأنهم لا يقبلون بالديمقراطية! هل من مفسر لهذا التراجع الكبير في المواقف؟!
التصويت بنعم يمثل أطول الطرق للإستقرار السياسي، وليس العكس
ولذلك نفهم أيضا كيف اعتمدت الحملة التي تحاول إقناع المواطنين بالتصويت بنعم على التدليس الشديد وترويج الأكاذيب من نوعية أن التصويت بنعم هو أقصر الطرق إلى الاستقرار السياسي، في حين إذا قرر مجلس الشعب القادم صياغة دستور جديد يخلو مثلا من نسبة العمال و الفلاحين وغير ذلك من التعديلات الجوهرية فسوف يتطلب ذلك حل مجلس الشعب مرة أخرى وإجراء انتخابات مرة أخرى طبقا للدستور الجديد! وعليه، يبدو أن من قرر أن هذه التعديلات هي أقصر الطرق للاستقرار السياسي قد قرر سلفا أننا لن نقوم بعمل أي تغييرات جوهرية في الإطار التشريعي (إلغاء مجلس الشورى، مثلا) أو في نسب التمثيل (عمال و فلاحين وكوتة المرأة) أو نوعية نظام الحكم ( برلماني – رئاسي) إلخ، لأن مثل هذه التغييرات تتطلب حل مجلس الشعب وإعادة الانتخابات مرة أخرى، بما يؤدي لإطالة <<عدم الاستقرار>> السياسي أكثر بكثير من البدء فورا في وضع دستور جديد. الطريق المقترح لمسار <<نعم>> هو في حقيقة الأمر أطول الطرق نحو الاستقرار السياسي، لا أقصرها، إلا إذا خرج الدستور الجديد المزمع وضعه بعد الإنتخابات في صورة تعديلات شكلية على الدستور القديم فقط لا غير.
الإبهام المتعمد
كما نفهم كيف صاغت اللجنة المصونة المادة 891 ومكرراتها بشكل مبهم لدرجة أن يختلف أساطين القانون وفقهاء الدستوريين على تفسيرها، بحيث لم نحسم حتى الآن ما إذا كانت تلزم المجلس المنتخب ورئيس الجمهورية بتعديل الدستور أم لا (لدينا آراء مختلفة لخبراء الدستور والقانون تفسرها على النقيض). ونعلم علم اليقين أن اللجنة المصونة على درجة من الكفاءة اللغوية بحيث كان من الممكن أن تصيغ هذه المادة بشكل واضح وحاسم لا يتحمل أي تأويل، وعلى ذلك، لابد وأن صياغة هذه المادة بهذا الشكل المبهم تعكس وجود إما نوايا مبيته لا نعلمها داخل لجنة الصياغة، أو وجود خلاف بداخلها حول تعديل الدستور بعد الإنتخابات من عدمه أدى في النهاية إلى تفضيل هذه الصياغة المبهمة، فخرجت بشكل <<لا.. ونعم>> الذي خرجت عليه وبتنا لا نعرف أي أستاذ في القانون الدستوري نصدق. المؤكد هنا أن هذه المادة لم تخرج بهذا الشكل اللغوي الركيك والمبهم عن جهل لغوي من قبل لجنة تضم أساتذة في القانون، بل المؤكد هو أنها حملت هذا الإبهام بشكل متعمد. السؤال هو من الذي أعطاهم الحق في الإعتراض أصلا على حسم هذه النقطة بما لا يتحمل التأويل؟!
وهنا تبرز نقطة محورية أخرى: كيف لنا أن نوافق على تعديلات غير واضحة لا يوجد إجماع على معناها اللغوي؟ وكيف لنا أن نوافق على تعديلات دستورية نختلف على ما إذا كانت تمثل بيان دستوري جديد أم لا؟ هل نوافق على شيء بهذا الإبهام يحذرنا من يريدون لنا أن نوافق عليه (ومن قاموا بصياغته) بأنه ربما يعيد إنتاج مبارك مرة أخرى؟!! الشيء الوحيد المعقول في مثل هذه الأحوال هو أن نرفض ما لا نفهمه وألا نقبل أبدا بالإبهام، بل علينا أن نرتاب فيما نطالب به طالما حمل مثل هذا الإبهام والإختلاف في التأويل. والأهم هو لماذا تتنازل الثورة لهذا الحد.
حملة “كنتاكي” في صورة جديدة
وأخيرا تظهر أصابع الثورة المضادة في ثنايا كل هذا الكم الهائل من التدليس ولي الحقائق، هذه الثورة المضادة التي بدأت بحدوتة <<كنتاكي>> وانتهت بحدوتة أن التصويت بـ<<لا>> يدخل الدولة في حالة من عدم الاستقرار وينشر الفوضى، وهي حجة منقولة بشكل حرفي من نظام <<مبارك>>، وأن <<نعم>> هي أقصر الطرق للإستقرار السياسي، تماما كما كان يقول عمر سليمان بالنسبة للتعديلات التي اقترحها نظام مبارك في أواخر أيامه، وأن <<لا>> تقضي على الاقتصاد وتدفع الجيش إلى الحكم وعسكرة الدولة، وأن <<لا>> تعني إلغاء المادة الثانية من الدستور، وهذا غير وارد أصلا، وأن <<لا>> تخدم الأجندة الأمريكية، كما تفضل <<فهمي الهويدي>> بالقول، وتلاه موقع الإخوان، مستخدما بذلك نفس مقولات <<حسني مبارك>> في تجريم الثورة على أساس أنها أمريكية وإسرائيلية من قبل. وأنا لا أظن أن هذا التقارب الشديد بين منطقهم ومنطق الثورة المضادة من حيث الشكل والمنطوق الحرفي وليد الصدفة البحتة بقدر ما هو منطق من يريد أن يتحكم في مقاليد الأمور بتجريم الغير.
إن الواضح أن حجج معسكر <<نعم>> واهية للغاية وبعضها مضحك. لكن أكثر ما يضحكنا من أطروحتهم هو تمسحهم في الديمقراطية لرفض إطلاق عملية وضع دستور جديد تشمل كل فئات الشعب وقصرها على من سيفوز في انتخابات بالنظام الفردي متسربعة عن عمد. فهذا الحديث يحمل بصمات نفس المعسكر الذي قاد الثورة المضادة، و نراهم الآن يستخدمون كل أساليب البلطجة وشراء الأصوات وتمزيق لافتات الغير من أجل دعم حملتهم للتصويت بنعم، تماما كما كانوا يفعلون في الانتخابات السابقة. هذه الحملة مهترئة تماما، ويكفي دعم فلول الحزب الوطني ورموز الثورة المضادة وإعلامها لها، و إن كنا لا ننكر وجود الكثير من الشرفاء فيها الذين على ما يبدوا صدقوا أن ما يفعلونه الآن هو لصالح مصر والديمقراطية–وهذا حدث في حالة الثورة المضادة التي قادها نظام مبارك من قبل. سوف تكون الهيمنة المخلة، لا القمع، أساس النظام الجديد على ما يبدو. وستثمر هذه الهيمنة المخلة بقدر ما تستطيع توظيف رموزا كتلك التي قادت صياغة التعديلات للعمل في مشروعها. وأنا شخصيا أرى في ترتيباتهم التي تحاول الإلتفاف على استحقاقات الثورة نفس خطورة اللوبي الأمريكي على مصر، إن لم تكن أخطر. كما أنني على يقين تام بأن التصويت بلا هو الحل، فلا أفهم كيف لأي شريف أن يقلق من تشكيل دستور جديد أولا، ولا أرى أي منطق مقنع في الدفوعات الشكلية التي يدفعون بها لتبرير هذا القلق. وأخيرا أقول لمن لا يستطيع حسم أمره: لا تؤيد أبدا شيء لا تفهمه، فرفض التعديلات ليس نهاية المطاف، أما تأسيس نظام على خلفية مريبة أو حتى غير مفهومة فيمكن أن تدخلنا جميعا في دوامة كلنا في غنى عنها.
عن موقع جدلية
http://www.jadaliyya.com/pages/index/941/-between-ignorance-and-fraudulence_the-yes-vote-ca