سر الثورة الشعبية… وفجورالثورة المضادة
أحمد حسين
يبدو ان غزو ليبيا على وشك الدخول في مرحلة جديدة. وتتضمن هذه المرحلة على الأغلب توسيع أطر الغزو ووسائله الأرضية. فقد بدأت قناة الجزيرة تكثر من الشكوى، وتعلن عن تراجع ” الثوار” وقلة حيلتهم أمام تفوق سلاح الكتائب، وتراخي قصف الحلفاء الجوي. كما أن علامات الحزن الجليلة أخذت تظهر على وجوه المذيعين والمذيعات أثناء نقلهم للأخبار المقلقة عن أوضاع الثوار الذن لا يملكون أية أسلحة متطورة.
من يصدق الآن أن الثورات العربية قد تحولت إلى وبال على الشعوب العربية، على الأقل من الناحية المعنوية والإنسانية. معدلات الإهانة والإستخفاف بالإنسان العربي، التي ظن البعض أنها بلغت ذروتها قبل الثورات، طفرت الآن إلى مستويات غير مسبوقة. لم يعد الفعل الغربي والإعلام المحاذي يخاطب أو يتحدث عن ثلثمائة مليون من البشر المتخلفين، كما كان يفعل طيلة الوقت، بل أصبح يتحدث عن ثلثمائة مليون من البشر الفاقدي الإرادة والحقوق الإنسانية. السياسات الدولية هي التي تتحدث عنهم بالنيابة، كشعب قاصر يعيش تحت رعاية صلاحيات القانون الدولي والدول المتقدمة.
امريكا والغرب ومؤسسات القانون الدولي، أصبحوا يهرعون اليوم لحماية دماء العرب وحرياتهم الإجتماعية من أنظمتهم الفاسدة. فكأنهم، على ضوء ما اعتادوا إلحاقه بالعرب من تنكيل، يقولون الآن بوضوح: لا يحق للعرب حتى أن يقتلوا بعضهم بعضا. نحن فقط من يحق لنا قتلهم، بموجب القوانين الدولية. أي أن العرب أصبحوا خصوصية بدون مصطلح للتداول السياسي الغربي. هل هذا صحيح أم أنني أبالغ؟ ليتني أجد من يقنعني بأنني أبالغ! لقد حاولت أن أهون على نفسي وأزعم لها أن الأمر ليس كذلك تماما، فشعرت بأنني أتبجح.
حينما أرى ساركوزي، وهو يتناول العرب وكأنه يسخر من وجودهم، أسأل نفسي: هل هو مؤهل شخصيا لمثل هذا التعالي المفرط؟ وأقول: لا أدري! ولكن من قال أن امتهان العرب يحتاج إلى مؤهل ذاتي في ثقافة الغرب السياسية؟ يكفي أن يكون ساركوزي أو كلنتون أو أوباما، يعتقد ذلك ويتصرف على أساسه، ثم لا يجد من العرب اعتراضا عليه، لكي يصبح هذا حقا له. هذا هو ميزان الحق والعدل الطبيعي. فالكرامة مثل الحياة تؤخذ ولا تعطى. أضف إلى ذلك أن أولئك الناس، يؤدون من وجهة نظرهم، واجبهم تجاه دولهم وشعوبهم وتجاه أنفسهم. وإذا كانوا يدوسون العرب بفظاظة أثناء ذلك، فلأنهم بحاجة ماسة إلى ذلك، ليظلوا أثرياء وآمنين. فالعرب نظريا شر تاريخي على المصالح الغربية. ويجب أن يظل نظريا اطول وقت ممكن، لتلافيه بالتعديل النظري أيضا. لذلك يجب وضعهم اجتماعيا في سياق من الفكفكة والإعدام البنيوي إلى أن يزول مصطلحهم التاريخي من أساسه. وفي هذا المجال أبدع الغربيون إبداعا معجزا. كان واضحا لهم منذ البداية أن الخطر القومي هو مصدر التهديد الوحيد لمستقبلهم. فالقومية هي طبيعة التطور الإجتماعي وديناميته التلقائية، والشعوب هي ظواهر اجتماعية قومية بالحتم الموضوعي. وفي افتراض غياب الروابط القومية تتلاشى أهمية روابط الزمان والمكان وموضوعية الإنتماء، ويصبح الشعب في حالة سيولة تتشتت روافدها في كل الإتجاهات، مكونة بحيرات اجتماعية، أي قطريات صغيرة مختلفة المصالح تسير في اتجاه العدمية القومية. ولم يكتف الغرب بتحقيق القطرية العربية، بل شملها برعاية الدس الإستشراقي الواسع الإطلاع على إشكالات النفس الفردية والإجتماعية ” الهجرية “، وأهمها طبعا إشكالية عداء الدين للقومية. من منطلق هذه الإشكالية بنى كل استراتيجيته التخريبية للإنسان والمجتمع الهجري. والثورات العربية الحالية، كشفت لنا الكثير مما كان يعلمه الغرب عنا، ولا نعلمه عن أنفسنا. لم نكن نعلم أننا كشعوب قطرية قد قطعنا شوطا بعيدا في تبني التوجس القطري ضد ذاتنا القومية. كل ما حل بنا من نكبات مدبرة وفساد وأنظمة مديثة، أحالها الغرب على المصطلح اللغوي للتسمية القومية،…” العرب “، ليدعم هواجس القطرية وانفصام الشخصية والتحفظ من الذات القومية لدى البنية الإضافية الغالبة للعربي وهي البنية ” الهجرية “. هذا الفخ السيكيولوجي العبثي، لم يكن لينجح لولا حالة الإنفصام التي نجمت عن الهجرية، الفخ التاريخي الذي نصبه أسلاف الغربيين واليهودية المتحالفة مع روما، في جسد العروبة من خلال التهويد العقدي والثقافي، ومتابعته بالشعوبية في العصر العباسي وعصر الإنحطاط المتواصل إلى يومنا هذا، من خلال ظاهرة الدين السياسي التي حرص الغرب على تأسيسها منذ بداية استشراق المعاصر. وتحويل الجسد الإجتماعي القومي إلى أسمال بالية.
كل العيوب التي ينسبها الغرب وحليفه الدين السياسي إلى العروبة، هي ذاتها العيوب الموضوعية الناجمة عن غياب التوجه القومي عن قيادة الحركة الإجتماعية. هذه هي لعبة الغرب وحركات الدين الإستشراقية لتجريد العرب من التفكير في مشروعهم القومي. ويقول الإخوان والليبراليون اليوم معا للشعوب العربية، أن القومية عشق رومانسي للذات مضى زمنه. يقولون هذا، في عصر قومنة ال wasp في أمريكا للكوكاكولا والهامبورغر والزنوج، وفي عصر الجندب البلغاري المتفرنس الذي يستوحي أفكاره مباشرة من نابليون والفرنجة الأوائل، وبينما لا يعرف العربي أنه أصل الحضارة البشرية غير المنازع، ويكتفي بالنوم في حضن التهويد.
ومن الأشياء التي اكتشفناها عن أنفسنا بعد الثورات العربية ولم نكن نعرفها. أن الثورة المضادة أصبحت جزءا من قابليتنا الثقافية. إن الجيوش الليبرالية والإخوانية التي زرعتها أمريكا والصهيونية داخل جسدنا، ليست قوى خارجية مرتزقة. إنها مشاريع لأعراض بنيوية متغلغلة في بنيتنا الإجتماعية غير المحددة الهوية. فالإخوان هم عرض لتورط بنيتنا الثقافية والوجدانية في الهجرية. والليبراليون، وشر البلية ما يضحك، هم بأغلبيتهم من طبقة المثقفين العصريين العلمانيين الذين اكتشفوا بؤس الحالة الهجرية، ففتشوا عن بديل على الساحة فلم يجدوه، فتحولوا إلى عدميين، وبحثوا عن البديل في الليبرالية الحديثة للغرب. فالتساند العبثي بين الأعداء، الإخوان والليبراليين، حدث حينما دفع الأول الآخرين إلى حضن الغرب الذي يتسع للجميع، والتقوا هناك ليكونوا معا البنية اللوجستية الإستراتيجية للغزو الغربي المستمر. وكلاهما هو من نتائج غياب المناعة القومية للعرب.
الإخوان فصيل استشراقي وعميل تاريخي قديم، له مصالحه المشتركة مع الغرب، ولكنه أيضا عميل فكري وطبقي وسياسي يشكل معه مستقبلا اجتماعيا مشتركا. هذا الفصيل لم يكن عليه سوى التبشير بالخلافة كرومانسية وجدانية بديلة عن القومية، ليحقق كل أهدافه وأهداف الغرب معا.ويبشر بنواقض الوضوء والصدقات كبديل عن أي انشغال آخر للعقل ويحقق الثقافة الهجرية كساحة غائبة عن الوعي، أمام كل أنواع العبث الغربي. وهذا هو بالذات ما هيأ لليبراليين ساحة بائسة للتبشير بالعدالة والديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وحرية المرأة والرأي والرأي الآخر وباقي أجندات المشروع الغربي الذي استهوت بنوده الشباب العربي بوجه خاص، ليستوحي أحلامه الشبابية من شاشة قناة الجزيرة، ومواقع الإنترنت والفيس بوك. وقد أقنعته هذه الأوكار الليلية الساحرة، أنه ليس بحاجة إلى مشروع ذاتي، أو ثورة حقيقية للوصول إلى ما يريد. يكفيه حراك مطلبي مسالم ومتواصل، بعيدا عن الأفكار الغريبة والأيديولوجيات الإجتماعية. فالعصر عصر الديموقراطية وسوف يقف إلى جانبه كل دعاة وحماة الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وهكذا اكتملت كل الحلقات، وأركان الثورات السلمية والمطلبية، من الإخوان والليبراليين وشباب الفيس بوك، الذين سيوفرون لأمريكا والصهيونية شرقهما الأوسط الجديد ذي البنى القطرية المتوازنة والسعيدة والديموقراطية والتعددية الحزبية، أي آليات التحكم عن بعد على المدى البعيد.
وأمريكا ليست عاهرة ريفية ساذجة لتكتفي بجمال ساقيها، وكثافة الأشجار من حولها. لذلك لم تغفل عن عامل المفاجأة. فهيأت سلفا صماما للأمان. وقد حدثت المفاجأة وتحول الحراك المطلبي في تونس ومصر إلى ثورة شعبية عارمة، يقودها شباب غاضب ومعبأ بالوعي، يطالب بتغيير العالم من حوله اجتماعيا وسياسيا ودستوريا.
وفعلت أمريكا صمام الأمان المكون من العسكر في البلدين، ليؤدي دوره في الحقير والمنحط في لجم التوجهات الثورية وإعادتها إلى التواضع المطلبي. بدأت اللعبة بالتركيز الإعلامي لوكر المارينز على شخص مبارك. ثم ثنى هذا الوكر اللعوب بحماية بأسطورة الجيش لثورة الشعب. وهنا حدث التحول بين أكذوبتي الخوف والأمل، إلى صفقات مطلبية صغيرة وغير جوهرية بين الجيش راعي الثورة وحاميها، وبين الثورة المصرية كمثل. واستطاع دياييث أمريكا من العسكر أن يصلوا إلى حد تمرير دستور أفرغ الثورة من أي مضمون، على يد دياييث القضاء بقيادة راسبوتين وسطي ورع ومتخلف وعميل، هو المستشار طارق البشري. لقد كان واضحا أن مهمة الدستور الإنتقالي كانت ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام عودة مبارك نفسه إذا لزم الأمر. وقد تكفلت الرموز الحزبية القديمة والجيش بتمريره، بنسبة تبعث على اليأس.
ولا حاجة لإطالة الشرح. لقد أهملت الثورة المصرية طرح الشعارات القومية في ميدان التحرير. فما هو الخيار الأخر الذي فكرت فيه هذه الثورة كبديل؟ من الواضح أن النخب الثورية أخذت بالثورة الشعبية على حين غرة، ولكن هل خطر ببالهم أن هناك خيارات على الإطلاق، أم أنهم اعتقدوا أن التغيير هو الذي سيؤدي تلقائيا إلى البديل. لا يوجد معرفيا، تغيير يؤدي إلى ثورة. التغيير قد يرقى إلى المستوى الثوري حينما يحدث في إطار نظام قومي أو إيديولوجي مستقل، عليه إجماع شعبي مسبق. فهل كان النظام القائم يستند إلى إجماع شعبي من أي نوع؟ هل كان على الأقل نظاما وطنيا مستقلا. هل كان له مصطلح اجتماعي سوى مصطلح التبعية؟ كان يمكن ابتزاز النظام مطلبيا واعتبار ذلك ثورة لولا تبعيته. فالتبعية تلغي عنه صفة النظام وتحتكرها لنفسها. ومن غير الممكن إلغاء التبعية بدون إلغاء فكرها ومسبباتها، لأن التبعية هي حالة فراغ اجتماعي وإيديولوجي ونظامي، تحيد مصطلح الشعبوية، لصالح حالة استبداد، تنعكس على مفهوم الشعب والحرية ومفهوم الوطن الإجتماعي كله. وهذا أمر مستحيل الحدوث في حالة وجود إرادة شعبية، فكيف يعقل أن يثور شعب إذن لعزل الحاكم وإبقاء التبعية؟ إن الثورة هي تحقيق الشعب لوحدانيته في الحكم مقابل النظام. وهذا يعني تحديد شكل النظام الذي هو آلية الإرادة الشعبية. فما هو النظام الذي تخيلته الثورة المصرية الشعبية؟
لعل انفصام الشخصية الهجرية، على خلفية الدين والقومية، كان وراء حالة التردد والتجاهل التي بدا على ثورة مصر أنها تعاني منها. كان الحضور الوجداني للدين، يترجم في العقل الهجري تلقائيا إلى المظهر الإخواني الخلافي في عقول ضحايا الحالة االهجرية من كبار السن، يضاف إليهم، سياسيا، كل الأحزاب السياسية الطفيلية القائمة، التي لا تعتبر الثورية في صالحها، وكانت النخب الثورية تعلم ذلك. وتعلم أن طرح الممكن الثوري الوحيد، وهو الطرح القومي لن يكون طرحا مقبولا. كما أن هذه النخب كانت نخبا اجتماعية أكثر منها قومية. أي انها كانت أقرب إلى الليبرالية التحررية بثقافتها. أي أن هذه النخب أو بعضها لم تدرك، أو تجاهلت حتمية الثورة القومية الإيديولوجية للتحرر في الحالة العربية. فالقضية ليست قضية خيار من هذه الناحية. إنها قضية قانون طبيعي. إما أن تكون الثورة أو لا تكون. وهذا ما حرصت الثورة المضادة على طمسه، بتحالف الإخوان والليبرالية والعسكر.
إن مصر بلد كبير وعظيم حضاريا. وكان بإمكان النخب الثورية أن تطرح المصراوية كإطار للإجماع الشعبي، وتتجاهل خياري الدين والقومية العربية معا، ثم تواصل التقدم من هناك نحو أهدافها الثورية الأبعد. فالإجماع الوطني يمكن تحويله إلى إطار قومي للشعبوية. ولكن ذلك أيضا لم يحدث. وما يزال بالأمكان تجديد الثورة على هذا الأساس والوصول بها إلى تصفية جيوب التبعية، باعتبارها خيانة عظمى. ولا أظن أن هذا سينقصه الإجماع الشعبي، أو يستطيع الإخوان والعسكر والليبراليين وانتهازيو الحزبية المجاهرة ببقاء التبعية.
هل شاهدت النخبة الثورية المصرية، ما فعله تحالف الإخوان والليبراليون في ليبيا. هل ما تزال تذكر ما فعلوه في العراق. فهل سيعرضون مصر لمثل هذا المصير، بسكوتهم ثوريا عن الثورة المضادة التي أصبحت تعمل في العلن؟
لم يعد اليوم يسمع على الساحة السياسية والإعلامية العربية، سوى أصوات عجول الدينسياسة وهي تجأر على الشاشات الليبرالية. وأصوات قوادي الليبرالية السياديين والثقافيين والإعلاميين وهم يأكلون أحذيتهم علنا، لتشيع الفاحشة في الناس. لقد خرجوا جميعا، عجولا وقوادين، من أوكارهم في خوابي الليل المعتق، لينضموا إلى غزو يحول ثلثمائة مليون من مواطنيهم إلى عبيد للغرب والصهيونية. ويقولون بأنهم يدافعون عن الحرية وحقوق الإنسان العربي، في الحياة الكريمة، بدعم من العالم الديموقراطي في الغرب. ولو كانوا يقيمون لشعوبهم وزنا، لم يتجرأوا على مثل هذا الفجور. لو كان الشيخ ” بطن العجل ” يخشى من الفجور الصريح،
أو وقع أحذية الناس على صدغيه، لما خرج، وهو الذي انخرس عند إبادة العراق ومذابح الفلسطينيين وكل المذابح العربية الأخرى، وانخرس او تلعثم عند شتم الرسول، لما خرج هذا المنتن اللحية والشرف، يصرخ كالممسوس بالليبيين: أقتلوه شر قتلة! قاصدا القذافي. فهل يعجز هذا القذافي عن تمويل شاشة عربية نظيفة من المجون، ترد تنابلة الثورة المضادة إلى أوكارهم الليلية؟
www.kanaanonlin.org