العودة إلى المستقبل

أوباما قبيل خطابه أمام مؤتمر “إيباك” في 22 أيار الجاري صورة من قناة روسيا اليوم

العودة إلى المستقبل

أحمد حسين

كان السيد أوباما واضحا ونزيها في أدائه، بحيث لم يترك لآي محلل مجالا للتفلسف على حسابه. لم يقل شيئا لم يقله كل رؤساء أمريكا من قبله مرارا وتكرارا. حتى الفرق في الإخراج لم يكن كبيرا. كان مباشرا في الأداء أكثر ممن سبقوه جميعا، ولخص كل شيء في جملتين إحداهما مكتوبة حرفيا، والأخرى مقروءة ومفهومة حرفيا أيضا:

” مستقبل أمريكا متعلق بالشرق الأوسط “:

قال هذا بالحرف ليفهم العالم، وليس العرب، أن أي اعتراض على ما ستفعله أمريكا في الشرق الأوسط لن يفيد شيئا. فالقضية بخطورة وحجم المستقبل الأمريكي، والتباحث بشأنها مع أي طرف دولي غير وارد، حتى لو أدى ذلك إلى حرب شاملة. ومع أن هذا أيضا ليس جديدا، إلا أنه لم يطرح بهذه المباشرة والتصميم من قبل. فأمريكا استتباعا لهذه الجملة التقريرية، تبين أنها في قمة الإستعداد والقدرة على تنفيذ خططها جميعا في الشرق الأوسط بدون تردد. أي أن الرجل كان يهدد أية قوة قد يخيل لها أن الفيتو، أو حتى إعلان التعبئة العامة، سيؤثر على القرار الأمريكي بامتلاك المنطقة التي يتعلق مستقبل أمريكا بها.

” الجملة ” الثانية كانت بنفس القوة من المباشرة والحزم، ولكنها كانت أداءاً تراكميا لعدة جمل تفصيلية قصيرة ومباشرة، لم توضع في جرعة واحدة لمقتضيات الوضوح التفصيلي فقط. هذه الجملة يمكن عرضها كاملة بدون أي غبن موضوعي:

” قرارنا المتخذ بخصوص المنطقة العربية هو التخليج الديموقراطي. والقضية الفلسطينية لم تعد قائمة على أي مستوى حقوقي كان. ليكن هذا واضحا ! ما يمكن عمله من أجل الفلسطينيين مقصور على المستوى الإنساني. هذه القضية خارج التفاوض من الآن فصاعدا، لأن حلها أصبح جزءا من القرار الأمريكي العام في المنطقة. ولن نترك للفلسطينيين أية فرصة للإلتفاف على ما تقرر.”

أكثر مباشرة .. أكثر مباشرة حتى من بوش الإبن نفسه هذه الجملة المفصلة نوعا ما، موجهة للجميع بدون استثناء. موجهة للأصدقاء والأعداء في المنطقة وخارجها. وإذا كان فيها نسبة من التخصيص فهي موجهة لحلفاء اوباما الإسلامويين والخليجيين، وإلى أعدائه من الأنظمة القومية التي قال أن عليها أن تختار بين الرحيل أو الإنضمام إلي مشروع الخلجنة الديموقراطي.

وليس في هذا أي استخفاف بالعرب كما سيقول كبار المحللين منهم. فالعرب غير موجودين أصلا في ذهنية القرار الأمريكي. والعربي المفترض هو من يسمى ” رجل الشارع ” كما عبر عنه أوباما. رجل الشارع هذا، هو الوحيد الذي يتحدث عنه الرجل بشيء من الإهتمام، لأنه شاب أولا، ولأنه يسهم بدور طليعي في الديموقراطية وتنظيف الساحة من الأنظمة القومية الإستبدادية التي لا تؤمن بحرية المواطنين في اختيار من يتبعونه. والأهم من هذا كله، أنه ولد وترعرع في حقبة الفراغ التي تلت كامب ديفيد وظهور شعار ” الإسلام هو الحل “، وتم إعداده في هذه الحقبة ديموقراطيا وليبراليا وخليجيا.

والتخليج بحيادية موضوعية تامة، هو نوع من التقابل الرمزي للواقع، مع أسطورة المسخ المثيولوجي الإغريقي. ولعل الوثنية الإغريقية الموحية، قد اختبأت في ثنايا البنية الغربية اليهوسيحية، وأضافت إليها بعدا إيحائيا مقيما، يتمثل في مسخ الكائنات الذي ظلت آلهة الأوليمب تمارسه كعقوبة إبداعية بناءة. هذا المسخ في المعالجة المسرحية، يشير إلى دورالمزاج السوداوي والفكاهي في نفس الوقت، لكبير الآلهة ” زيوس “، الذى كان مولعا بتركيب رؤوس العجول والكلاب على أجساد البشر وبالعكس. هذا في الميثيولوجيا، أما في الواقع اليومي فهو تدنيء طبيعة البشر بغرائز الحيوان، وتدنيء غريزة الحيوان بطبائع البشر كما يحصل في السيرك على سبيل المثال. وذهنية تخليج الوعي في السياسات الإستشراقية هو مسخ معنوي، تقابله الهجنة، أو الهجرنة، أو تدييث البشر. وما كان يرمي إليه أوباما بالضبط، هو دعم الظاهرة الخليجية بالدينوية، أي الإسلاموية، وتكوين المواطن الهجري العالمي، أو ما دعاه برجل الشارع، الذي لا يهمه من أين يأتي الخبز ما دام سيأكله مع الهامبورغر، حتى على مائدة الشيطان. أي أن أوباما كان يعني تدييث العرب أمريكيا، بوحي من نهج ” الفكاهة السوداء ” الذي اتبعه زيوس في مسخ الكائنات.

إذن كان أوباما، وهو على فكرة مواطن عالمي شاب تتوفر فيه كل صفات رجل الشارع، يتكلم بثقة لها ما يبررها على المستوى الشخصي والتمثيلي. فهو مستنبت أفريقي مقصود وشديد الإيحاء، تتمازج فيه عجائب من الفن الإستشراقي التدييثي بتوازن مذهل، يجعل الديموقراطية الأمريكية تبدو في ذهن الشاب الشرق أوسطي، مستحضرا شبابيا،لا حدود لسحره وإيجابيته الشبابية. فقد استطاع هذا المستحضر أن يوصل شابا من أصل إفريقي كأوباما، لوكان بقي في موطنه الأصلي لأصبح بائع فلافل على أحسن تقدير، ليصبح رئيسا أمريكيا. فما الذي يحول إذن بين شاب من أصل عربي، وبين أن يصبح بالديموقراطية أيضا، رئيسا لبلاده بمساندة مباشرة من أمريكا؟ على الأقل سيستطيع في ظل التنمية والوفرة التي ستهيؤها الديموقراطية، أن ينجح مثل أي مواطن أمريكي من أصل أفريقي، في امتلاك سيارة فخمة، ودخل عال يتيح له مغامرة شبابية ممتعة سواء في السياسة أو اللهو الشبابي؟ فهل هذا الشاب المفترض على حق؟ منطقيا نعم! وفعليا لا! وفي الحقيقة أن لدينا هنا أمرا مثيرا للشك. إذ يحدث أن أمريكيا أشقر من أصل عربي استطاع أن يصل إلى أقل مما وصل إليه أوباما بلونه المعدل. ربما كان سيحصل شيء كهذا، لو كانت أمريكا قادرة على تخيل العرب بحيادية. وهذا غير منطقي من الناحية الفعلية. فأمريكا تستطيع إحتمال أي عميل من أصل غير عربي، ولكنها لن تستطيع احتمال عميل من أصل عربي. تستطيع احتمال أي مواطن أمريكي من أصل غير عربي، ولكنها لا تستطيع احتمال مواطن أمريكي من أصل عربي. أما لماذا؟ فليسأل هذا الشاب نفسه هذا السؤال على الأقل. ولن نحمل أنفسنا عناء الإجابة على سؤاله المفترض، لأنه على الأغلب لن يفكر فيه. وإذا فكر فيه ولم يعرف الإجابة، فما الفائدة من إجابته بعد خطاب أوباما، الذي أجاب بوضوح على كل الأسئلة التي يمكن أن يطرحها رجل الشارع من أصل عربي، مغلقا بذلك الباب، نهائيا، أمام موضوعية أي تساؤل، لأن التساؤلات بعد خطابه لم يعد لها مكان، بانتفاء الجدوى منها. فالخطاب كان مجرد تلاوة مركزة للقرار الأمريكي الذي حان كشفه، ولم يكن أطروحة للتحاور. كان خطابا استشراقيا يتضمن تلقائيا مرجعيات التبرير للقرارات كلها، ولا يتضمن التبريرات نفسها، التي يمكن الإطلاع عليها لمن أراد، في أرشيف التاريخ المتداول عالميا. فإذا كان علم الإستشراق يشكل مرجعية التبرير لسياق التاريخ نفسه، فكيف لا يكون مرجعية كافية لجزئية تاريخية تتعلق بالعرب وحدهم؟!

ماذا كانت ستضيف الثرثرة إلى خطاب أوباما لو تطرق إلى التبرير؟ كان هذا سينقص من قطعية القرار وصرامته من ناحية، ويهبط بالمسلمات إلى مواقع الإدعاءات. ماذا كان سيقول غير ما نعلّمه نحن لأطفالنا في سن الحضانة، وما يقوم كهنتنا بتجديده يوميا، وعلى رأس كل قرن؟ هل كان سيقول غير تكرار غير تكرير تلك المسلمات وكأنها قيد البحث:

لقد اختار العرب، ولا أدري لماذا، أن يعيشوا على الأرض الخطأ التي يتعلق بها مستقبل الشعب الأمريكي. واختار الفلسطينيون، ولا أدري لماذا، أن يعيشوا على الأرض الخطأ التي يتعلق بها مستقبل الشعب اليهودي. فهل يجب على أمريكا وإسرائيل أن تضحيا بمستقبل شعبيهما لحساب الخيار السيء للعرب؟

بالنسبة لأرض إسرائيل فإن الشعب اليهودي عاش على هذه الأرض قبل ظهور العرب على ساحة التاريخ بقرون طويلة. لقد ظل العرب في صحرائهم حتى ظهور الاسلام، يعيشون خلف الواقعة الحضارية والتاريخية لمنطقة الشرق الأوسط، بينما ظل الشعب اليهودي منارة لشعوبها ومن ضمنهم العرب، الذين لولا صحف إبراهيم وموسى، لم يكن لهم شأن يذكر. فمن هو شعب فلسطين الأصلي إذن؟ وأنا شخصيا كإبن سابق لأب أفريقي مسلم، أعرف ما يقوله الإسلام بهذا الشأن. إسألوا الإسلاميين أنفسهم، إذا كان هذا هو الصحيح التاريخي والديني أم لا. والذين يخالفون ذلك هم المرتدون عن الإسلام فقط. هؤلاء المسلمون المرتدون، هم من يسمون أنفسهم بالقوميين العرب، وينكرون الأولية التاريخية والحضارية لليهود والغرب في هذه المنطقة. وهم أقلية صغيرة وجاهلة بين المسلمين المعتدلين. أليس من المنطقي إذن، بل من الواجب، أن نكون مع الأكثرية الاسلامية المعتدلة، التي تؤمن بحل تحالفي معنا ومع الشعب اليهودي، على أسس الحق التاريخي، ضد الأقلية العروبية الارهابية التي تدعي بأولية تاريخية في المنطقة، وأولية حضارية في العالم. كيف يمكن التعامل مع مثل هؤلاء المجانين بغير القوة؟

وبالنسبة لنا نحن الأمريكيين، فإننا سلالة أوروبية صميمة، ونحن ورثة الأمبراطورية الرومانية وحضارتها وليس المسلمين. وهنا يكفي التسلسل التاريخي المعتمد، لحل هذا الإشكال على أساس الأحقية التاريخية مقابل الواقع السكاني الذي لا يمكن تجاهله. واحد يملك الأرض فعلا، والثاني يستثمر حق الوجود عليها بالتقادم. فالقضية قضية مستقبل بالنسبة للطرفين. وهنا يصبح الحل هو المستقبل المشترك بين المالك والمستثمر بحيث يتحول الإشكال إلى ميزة لدى الطرفين. فنحن لا نفكر بطرد المسلمين من الأرض التي أصبحوا يحتاجونها بقدر ما نحتاجها نحن أيضا. ولكن لنا الحق في رسم خطوط المستقبل المشترك معهم، وهو ما نفعله الآن بالإشتراك مع حلفائنا في المنطقة.

كيف يمكن الإعتراض على قوة هذا المنطق البناء؟ فلماذا لا نقبل به بدون تفاصيل وتبريرات، حتى لا نتعرض لمثل هذه الفضائح الحقوقية التي لا يمكن دحضها أو مقاومتها ذاتيا؟ ربما كان البعض سيكابر وينكر ذاته، والمكابرة في حالتنا عبث دموي لن يكون له أية نتائج غير عكسية. فالمكابرة تحتاج من القوة أكثر مما يحتاج الحق. فإذا كانت قوتنا عاجزة عن حماية الحق، فكيف ستحمي المكابرة؟

من نحن، عرب أم مسلمون؟ ماذا يفيد هذا السؤال؟ إذا كنا عربا فنحن مجانين. وإذا كنا مسلمين فنحن مع أمريكا. هذا ما قاله أوباما بالتفتيت المباشر، فلماذا نعقد الأمور ونضع أنفسنا أمام خيارات سخيفة هي ليست خيارات حقيقية؟ لنعد إلى الكلام المباشر الذي طرحه أوباما كمسلمة أمريكية لا خيارات فيها ولا تبريرات، لقد قال الرجل بكل المباشرة اللاذعة:

لا تخدعوا نفسكم ! نحن لا نمنح خيارات لأحد في قضية يتوقف عليها مستقبلنا. نحن نمنح امتيازات لحلفائنا، ونحرم كل أشكال الخلاص على أعدائنا. سندوسهم حتى باسم حقوق الإنسان، وباسم الديموقراطية، وباسم التحرر. فإذا كان الموت يعتبر خيارا من وجهة نظرهم، فليختاروا بينه وبين التخليج الديموقراطي. هذا هو حقهم الوحيد.

لقد كذب هنا أوباما رغم صدق نواياه. الموت ليس خيارا، فكل حي سيموت بما في ذلك أوباما نفسه. الخيارات تخص الحياة فقط ولا شأن للموت بها. ولكنه كان يقصد بكلامه الإنتحار، الذي هو خيار فات زمنه بالنسبة لنا. لقد انتحرنا قبل خطاب أوباما بقرون طويلة، لكي نحول حقنا إلى مجرد مكابرة. والذي ظل يعادي ذاته ويعتبر وجودها كفرا لقرون طويلة، ماذا يريد الآن من الآخرين أكثر من الشفقة؟

لقد تورطنا مع أنفسنا، ولا يهم كيف ورطونا. المهم هل يمكننا الخروج من ورطتنا؟ ربما، ولكن بعد أن نكون أكثر إصرارا على المواجهة من أمريكا. وبعد أن يدرك الشباب العربي أنه ليس لديه الكثير من الوقت، وأنه قد حانت لحظة التحول الحاسمة، ليستعيد الشارع من أيدي شباب أمريكا الإسلامويين ويطردهم منه. كيف يعقل أن يكون مسوخ العمالة أكثر إصرارا واستبسالا من الوطنيين والقوميين والتحرريين وأصحاب المصير؟ لقد مرت الصدمة الآن وانكشف كل شيء. أمر دبر بليل، اتخذت له أمريكا أهبته عقودا، فجندت ودربت وسلحت وخططت ودفعت بكل عملائها ومرتزقتها وقتلتها وخبرائها في سيل دافق خارج من بين أصلابنا وترائبنا. رجال ونساء وأطفال وكومبارس وشرفاء مخدوعون في مشهد كل ما فيه كذب سينمائي. إسلامويون بدون لحى وليبراليون بلحى وإسلامويات بالجينز وليبراليات محجبات، وشعارات معدة منذ سنين، تتصاعد مع دراما اكبر مهزلة في تاريخ المؤامرة. كتاب ومفكرون وحقوقيون وساسة وعسكر وأدوار تتقافز كالمفرقعات في ساحات الإعتصام لتصيبنا بالذهول. فتحوا كل قماقمهم دفعة واحدة لتخرج منها شياطينهم وتجتاح وعينا بالصدمات، وساحاتنا بالضجيج، فأصبحنا وكأننا معهم بدون أن ندري. ولولا طائرات الناتو، ومسرحياتهم الثورية المطولة، وماخورية الإعلام المشوهق، لمر علينا وقت آخر، قبل أن نفيق على صوت أوباما وهو يتلو علينا شروط الاستسلام الملزمة.

والآن هل سيكون هناك هجوم مضاد من جانب الشباب العربي؟ هجوم لاسترداد ميدان التحرير، وهجوم لطرد الغنوشي والسيسي، وهجوم للشباب السوري العربي يحبط البنايونيين وقحاب الخليج وكلاب الليبرالية التي تنبح في قناة الجزيرة من دمشق على دمشق، بالإسم والصورة ولا تستحي أن تتشكى من نقص الديموقراطية، وكأنها تريد رفع العلم الأمريكي في المظاهرات التي تسيرها ليختبئ وراءها المسلحون الإسلامويون، بالضبط كما احزاب التحالف المشترك في اليمن.

متى يقوم الشباب العربي القومي والتقدمي والتحرري بثورته المضادة على الثورات الإسلاموية والليبرالية، ويحسم المعركة مع أمريكا عبر عملائها، ثم ينثني ليحاسب أنظمته ويسقطها لصالحه، أو يبقيها لصالحه، وليس لصالح أمريكا؟

متى يقتحم الكتاب العرب القوميون والتحرريون، ساحات الوعي بأقلام تقطر سما ناقعا لا يعرف المهاودة، ولا يبقيها مشاعا تنبح فيها الكلاب والمرتزقة والعملاء؟

إذا انتصرت ثورة الشباب العربي التحرري المضادة على عملاء أمريكا، انهزمت أمريكا في العالم العربي.

عن مجلة كنعان الألكترونية 22 أيار 2011

عن prizm

شاهد أيضاً

إسرائيل وجيشها يقاتلان على “جبهة أخرى”: الهواتف الذكية بين أيدي الجنود في قطاع غزة!

21 شباط 2024 سليم سلامة تشكل شبكات التواصل الاجتماعي، منذ زمن، جبهة إضافية أخرى من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *