ناعورة حماه فوق نهر العاصي «السفير»
حمـاه وجراحهـا وإرث «الإخـوان»: أعطنـي حريّتـي!
غدي فرنسيس
قبل الوصول إلى حماه، ستطلق أحكام مسبقة كثيرة: مدينة متشددة، «إخوانية»، ريفية، منتفضة ضد النظام، مخرّبة، سلفية… قد تقول أي شيء عن الحموي، لكنك لن تنصفه بأي تصنيف. فحين تصل إلى أرض حماه، ستجد «موزاييك» سياسياً اجتماعياً في ظل بيئة ريفية محافظة.
في مدينة تصدير المواشي ومنتجاتها، تلتقي الاشتراكي العربي، والشيوعي، والسوري القومي الاجتماعي، والبعثي، والإخواني. وقبل التوجّس من كلمة «إخواني»، لا بد من الإشارة إلى أن «الإخوان المسلمين» في حماه، ليسوا تنظيماً سياسياً، بل حالة اجتماعية، ووصمة وجرح مفتوح منذ الثمانينيات، ولم يسقط من ذاكرة المدينة.
وبعد جولة حموية وأحاديث مع مختلف التوجّهات السياسية والحزبية والمذهبية، يمكن القول ان مدينة حماه، بالمقارنة مع أخواتها – حمص، اللاذقية، درعا، دوما، المعضمية… وغيرها – قد قدّمت الصورة الاكثر عقلانية عن الانتفاضة السورية. ربما علمها التاريخ ودماء أبنائها المسفوك في الماضي، أن «السلاح» ليس الطريق الامثل إلى الرفض ولا التعبير عن الرغبة بالتغيير.
أحداث الثمانينيات:
جرح مفتوح… وعبرة
في حماه، ذاكرة الدم المراق رادعة. يروي الشارع أن تسعين في المئة من الآلاف الذين قتلوا لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل بسلاح «الإخوان المسلمين»، وأن قيادات التنظيم فرّت في تلك الأيام إلى العراق، حيث كان حزب البعث العراقي هو الذي يدعمها ويسلّحها. أحياء كما هي، دمرت فوق رؤوس قاطنيها. قبضة الحديد والنار هذه، ولدت سيفاً ذا حدّين. فالشارع إذ نقم على النظام، نقم أيضاً على المسلحين الذين كانوا سببا أو ذريعة للإبادة التي حدثت.
تقتصر شعبية «الإخوان المسلمين» في حماه على التعاطف أكثر منه بالارتباط والتنظيم السياسي. جراحها لا تزال مفتوحة، وترتفع على كل لسان حين تسأله. آلاف قتلوا بتهمة ومن دون تهمة: يوم دخل الجيش إلى حماه، كان الشباب والرجال مشاريع شهداء، لمجرّد أن لهم قريباً أو صديقاً إخوانياً. وسبب إبقاء الجرح مفتوحاً أن مصير الآلاف لم يعرف بعد.
يقول أحد الشباب الاشتراكيين إن الملفّات الإشكالية التي يجب أن تغلق في حماه هي: المفقودون منذ العام 1982، الذين يتجاوز عددهم العشرة آلاف، والمهجرون قسرياً، الذين تتجاوز أعدادهم العشرة آلاف أيضاً. إضافةً إلى الأملاك التي صودرت من أصحابها منذ ذلك الحين بتهمة أنهم مرتبطون بقرابة الدم أو المجتمع لأحد من التنظيم الذي كان مسلّحاً واستهدف الشخصيات السياسية القيادية حينها.
مفاعيل الثمانينيات الاقتصادية: ارتقى الريف وتدنّت المدينة
إذا كان لا بد من التوصيف المذهبي لشرح الوضع الحقيقي في ظل التصنيف السائد، فنعتذر مسبقاً عنه. ولكن، حول المدينة الريفية حيث غالبية سنية وأقلية مسيحية، للريف طابع علوي واسماعيلي. وقبل «أحداث الإخوان»، كان الريف ينعش المدينة اقتصاديا. ثم بعد الأحداث، انكفأ الريف عن المدينة خوفاً من ردود فعل قد تتخذ شكلاً ثأرياً، وبالتالي، انتعش الريف بأبنائه اقتصادياً، وتدنى وضع المدينة بغياب مال الريف. ثم ان المدينة دفعت ثمن «الإخوان» عقوبة اجتماعية واقتصادية فرضتها السلطة، فالوظائف والامتيازات والتسهيلات كانت محرّمة على كل من له قريب كان يوماً في تنظيم «الإخوان المسلمين»، فترى اليوم شارع المدينة يشكو من أن أصحاب الوظائف، في كل الدوائر الرسمية مثلاً، هم من أبناء الريف، يقصدون وظائفهم يومياً، ثم يعودون إلى قراهم. هذا ما زاد «الغلّ» في شرائح المدينة.
ولطالما اعتبر الحموي من الشرائح المرتاحة اقتصادياً نظراً لمدخوله الذي يزيد على مصروفه، فالمحافظة هي التي تصدّر إلى كل سوريا، وإلى الخارج، منتجاتها الغذائية، وبالتالي، فإن كلفة المعيشة فيها أقل من باقي المحافظات. وتصدّر المواشي أساساً لدول الخليج وعلى رأسها السعودية.
محافظ متشدد
ولكن ليس متطرفاً
لا شك بأن المجتمع «متشدد» لجهة السواد الغالب على الشارع ولباسه. وحتى المسيحيات يغطّين رؤوسهنّ أحياناً. لكن الحموي عموما يشتهر بحبه لمشروب العرق. وقد تجد رجلاً، زوجته منقّبة، يلتزم بأداء واجباته الدينية، وفي الوقت ذاته قد لا يتردد في احتساء كأس من العرق مع الاصدقاء، سرّاً. وهذه ليست مبالغة. فحتى الشيخ العرعور الحموي الذي يخطب من الخارج للتحريض اليوم، تسود الشارع أحاديث عن صباه في الأحياء المسيحية وشربه للعرق. ولكن سجل للعرعور يوم الخميس انه بعد دعوته المتلفزة، وبرغم تلبية بعض التجمعات في بانياس وحمص وبعض اللاذقية لها، إلا أن مدينته حماه لم تستجب لدعوته … ما يعكس، بحسب كثيرين، وعي أهلها وحساسيتهم إزاء مثل هذه الدعوات. ففي حماه، وبرغم «التشدد» الديني، لم تظهر علامات الخطاب الطائفي كما في حمص مثلاً، ولم يتهوّر «طلاب الحرية»، كما لم يرفع السلاح للتصدي للأمن، فللحموي هدف واحد محدد واضح: الحرية والتحرر من قبضة الأمن الموروثة، منذ زمن ذنب لم يقترفوه من إرث الثمانينيات. ما يريده الحموي «السني» اليوم، أن يتحرر من عقاب السلطة في التملك والوظائف المتناقل والموروث. يريد أن يحسم ملف المفقودين نهائياً كي يستطيع أن يحل مشكلات الإرث والوظائف. يريد أن يتخلّص من عبء الثمانينيات.
ساحة النضوج السياسي ورحم القيادات
من حماه، خرجت قيادات سوريا عبر التاريخ. وهي أرض خصبة للحزبيين. قوميون وشيوعيون وثم من بعدهم الاشتراكيون العرب انطلقوا ونشطوا من أرض حماه. فما الذي يقوله حاملو إرث هذه الأحزاب اليوم؟
اشتراكي وقومي وماركسي
ضد النظام الأمني
الاشتراكي العربي، مولع بحراك اليوم، لكنه لم يتحرك بعد. يرى في الشارع ما يلبي طموحه. يحمّل حزب البعث والنظام الأمني مسؤولية غضب الشارع. ورث عن أبيه بعض الأراضي المقيدة بسبب قانون قديم أصدره الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومفاده أن الأرض لمن يعمل بها. ولذلك، فعلى وائل أن يتخلص من الفلاحين الذين يزرعون أرضه قبل أن يعيد أملاكه. يعتبر أن الشارع الحموي قادر على امتصاص التطرف والتخلص من التشدد حين تسنح له الفرصة للعمل السياسي. يطالب بصوت عال بقانون لائق للأحزاب يرعى الفرز الشعبي ويكفل تمثيل كل الشرائح. يعتبر نفسه «سنيّاً معتدلاً» ويرفض صبغ حماه بالتطرف أو السلفية. كما يصف «الإخوان المسلمين» بالحالة العاطفية لا أكثر ولا أقل، ويعتبر أن المجتمع سيمتصها إذا منحه النظام حرية العمل الحزبي السياسي. يطالب لهم وله، بقانونٍ للأحزاب، كي يفرز الشارع ذاته. يصف مدينته على الشكل التالي: «نحن محافظون ولكننا لسنا متزمتين». ثم يفيد بأن الرئيس اجتمع مع حماه مرتين: في المرة الأولى، التقى فئة من التجار والمقربين من السلطة، وهذا ما استنكره الشارع، معتبراً أن أولئك لا يمثلونه. ثم في المرة الثانية التقى مشايخ الجوامع وكان ذلك مقبولاً… يقول وائل، الاشتراكي، إن حماه خزان السياسيين في سوريا، وانه ليس ضد الرئيس، بل يعتبر أن الرئيس يملك فرصة، مطالباً، بصوت مرتفع بقانون للأحزاب، وبحرية الصحافة وانتخابات مجلس شعب نظامية حرة ولكن ليس الآن: «فلندع الشارع ولنعطه مجالاً كي يتحزّب، في فترة لا تقل عن عام، ثم لتجرِ انتخابات، ولتفتح صفحة جديدة في العمل السياسي السوري».
أما الماركسي، المحامي ابن مصياف، فيرى أن الغد مشرق واعد، ويشرح امتداد النظام منذ الاتحاد السوفياتي وحتى ما بعد سقوطه. يثق ببشار الأسد، معتبراً أن الثورة كانت مشروعه من الأساس لكنه يرى الوضع الآن سينتهي إلى حل من اثنين: إما أن يلحق ركب التطور البشري والربيع العربي، وإما لن يستطيع أحد أن يقف في وجه التاريخ.
أما المهندس القومي، فقد أوقفه الأمن أربع مرات لأنه «حيّا التحرك عن الشرفة» ولأنه يتكلّم بأعلى صوت. يظن الأربعيني الثائر أن النظام هو من ترك الساحة للتنظيمات الدينية وضيّق على الأحزاب وأطّرها في جبهته «الهزلية». اليوم، يعتبر هذا القومي أن المؤامرة موجودة، ولا يتناسى مشهد العراق الماثل أمامه، لكنه يؤمن بأن الانتفاضة «على علاتها» قد تكون فرصة ذهبية للتغيير الذي ينعش الأمة والشعب ويعيد الحقوق لأصحابها. يشتكي من «القبيسيات»، وهنّ تنظيم نسائي ديني متطرّف، يدخل عقول بناته الصغار. يصفهن بأنهن صنيعة السلطة ثم يقول: «بعدما رعى النظام هذه التنظيمات، انقلب اليوم السحر على الساحر، والحل الوحيد لمعالجة التطرّف هو بالدولة المدنية والحرية السياسية المطلقة، وليفرز الشارع ذاته».
«إخواني» منفتح
بما أن حماه تصلح نموذجاً للمجتمع الريفي السوري، قد يصلح «الحاج وليد» ليكون نموذجاً إخوانياً معتدلاً. ربما لا يمثل «الاخوان»، لا كتنظيم أو الصورة العامة لهم. وهو ينادي بتعدد الأحزاب. يصف نفسه بالمعتدل، ويرضى بأي رئيس كان، ولكن ضمن قانون يرعى تمثيله. «أخي وأبي قتلا في الثمانينيات، لكني لست بحاقد، حتى لو قاد التغيير شخص كالأسد، لكنني أريد حرية التحزّب». يصافحك باليد.. ويكشف عن ندبة خلقتها «هراوات» الأمن على ظهره. أوقف قبل لقائه مع «السفير» بيوم، لكنه استعمل الوساطة ليخرج. اليوم، وكما كل يوم، يخرج وليد، وأولاده ورفاقه في تظاهرات بعد صلاة العصر. يتلاعبون بالامن. تضحك عيناه إذ يروي: «هلكناهم ومش عم يعرفوا من وين منطلع». برغم انفتاحه الظاهر وحواره المتحضر نوعاً ما، يصوّر مطالبه بشيء من المذهبية. ثم يروي لنا عن القنابل المسيّلة للدموع وعن دوره في تنظيم المسيرات: «أنا أخرج لأتأكد أن أحداً لن يندس بيننا ويثير الشغب، فإذا أراد واحدنا أن يتعدى على الأملاك العامة، نسبقه ونؤدبه، نحن لا نريد من يضر بشكل التحرّك». ثم يروي عن لقاءات المعارضين الحمويين مع الرئيس ويشرح: «قالوا لنا إن الرئيس يسمعهم ونحن لا مانع لدينا وقد تكلمت مع الشيخ، ما نريده هو إغلاق ملفّات الماضي، ومنحنا الفرصة لنشارك بالحكم. نريد أن نصبح جزءا من الدولة، ثم لاحقاً يصار إلى تداول السلطة. ما أريده، أن أتخلّص من وزر الثمانينيات. لن أنسى دماء أبي وأخي، لكن العدالة اليوم، تكفيني كي أنظر الى كيفية بناء دولة أشارك بها. أريد مناصفة، أريد حقي. لا أريد أن أحاسب على ما لم أفعله».
حماه هي سوريا
تمثل حماه، بشخصيتها الريفية السنية، نموذجاً لكل الانتفاضة السورية. وبرغم مجتمعها «المحافظ»، يجمع أهلها، بأطيافهم السياسية، على أن المجتمع قادر على امتصاص التطرف، إذا أعطيت الأحزاب أرضية ما لتعمل عليها. الاشتراكي والشيوعي والقومي والإخواني، جميعهم معارضون، ولا شيء يجمعهم سوى المطلب الوحيد: أعطني حريتــي أطلق يديّ. اترك لي الأرض لأبنــي حزباً سياسياً. وبانتــظار الحل السياسي المرتقب، تستمر حماه بآلافها المتضامنة مع الجراح، بالتظاهر لكن دون سلاح وبمطلب إصلاحي واضح ومعلن. وحتى اليوم، لا تزال تمثل الساحة الاكثر عقلانية التي يمكن ان ينطــلق منــها الحل باتجاه سوريا كلها. فحماه الجرح الاكبر، والانتفاضة الأصح، تريد كرامتها وتريد ايضا… طي صفحة الماضي.
عن السفير اللبنانية 28 أيار 2011
http://www.aafir.com/Article.aspx?EditionID=1856&ChannelID=43706&ArticleID=2868