الحريرية تنقض على الدولة والطائف
ليلى نقولا الرحباني
لم يكن تمرد المدير العام لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي على رئيس الجمهورية ورئيسه المباشر وزير الداخلية زياد بارود تفصيلاً عادياً في الحياة اللبنانية، ولم يكن أمراً مستغرباً في ظل قضم الحريرية السياسية للدولة اللبنانية منذ عام 1993 ولغاية اليوم.
لم يكن تفصيلاً أن تقوم وزيرة المال ريا الحسن بحجب رواتب موظفين في القطاع العام للضغط على وزير الاتصالات، وأن تمنح السائقين العموميين “مكرمة” أشبه بالمكارم الملكية التي منحها الملك السعودي للرعايا السعوديين لثنيهم عن التظاهر ضد العائلة المالكة، والمطالبة بمزيد من الحقوق والتنمية.
وليس تفصيلاً أيضاً، أن “يتعنتر” عبد المنعم يوسف ويواجه وزير الاتصالات وهو الذي ضبطه الأمن اللبناني واعتقله هارباً في شاحنة للأغنام ومتنكراً بزي امرأة، وسُجن بعدها لمدة عشرة أشهر بتهم فساد وتعدٍ على المال العام، ليخرج بعدها لاستلام إدارة عامة، ويتحكم بقطاع الاتصالات في لبنان، ويمارس سلطة خارج كل أطر القوانين الدستورية العالمية واللبنانية.
ليس تفصيلاً أن يحاضر السنيورة بالعفة والسيادة وحفظ المال العام، وهو الذي أخرجه الحريري الأب من غرفة المحقق متهماً بالاستيلاء على المال العام ومشاعات بلدية صيدا إلى وزارة المال، فيُعيّن من سرق المال العام وزيرًا للمالية، مهمته الحفاظ على أموال الدولة وحسن التصرف بمواردها.
كل هذه ليست بتفاصيل، لكنها ليست الجوهر والأساس بالتأكيد. الأساس في كل ما يحصل يعود إلى التسعينات من القرن الماضي، حين صاغ السعوديون للبنان نظاماً معطلاً، يحتاج دائماً إلى طرف خارجي أو أطراف عدة للتدخل لحلحة عقد لا يستطيع النظام حلها، لأن لا آليات فيه للحل.
وما لبث أن تكرّس النظام العقيم، بتنصيب مشيخة قضمت الدولة وأموالها وأملاك المواطنين في الوسط التجاري، فتكرست “الحريرية السياسية” التي ورثت المارونية السياسية، ففاقتها تعسفاً ومهارة في ابتداع قهر المواطنين، وفاقتها تسلطاً على مقدرات البلاد. وإذا كان الوجود السوري في لبنان قد فرض نوعاً من التوازن والمساكنة الإجبارية بين الرئاسات التي جمّلت نوعاً ما صيغة الطائف المعطلة، فإن تجربة الحكم الاستئثاري والاستفرادي الذي مارسته الحريرية السياسية منذ انسحاب السوريين من لبنان في عام 2005، ولغاية اليوم أظهرت ما كان مستوراً، وأحلّت حكم العائلة الاستفرادي مكان حكم الدولة.
لم يمكن ممكناً للحريرية السياسية أن تقبض على الدولة اللبنانية لو لم تتحالف مع الإقطاع الطائفي وقطاع رؤوس الأموال، ولو لم يعطِ الطائف رئيس الحكومة اللبناني صلاحيات لا تحدها سلطات أخرى، وتمنع أي إمكانية للعودة للاحتكام إلى المؤسسات، أو إلى الشعب عندما يتعسف الحاكم في استعمال الصلاحيات التي أعطاه إياها النظام الجديد.
وليس أدّل على عقم هذا النظام الطائفي سوى التعطيل الذي يمارسه الرئيس ميقاتي اليوم، والتجارب نفسها بالمماطلة والتسويف في تشكيل الحكومة، التي حصلت مع سعد الحريري وقبله فؤاد السنيورة. إن التعطيل الذي مارسه رؤساء الحكومة المكلفين منذ 2005 ولغاية الآن ينبئ أن هناك خللاً وعطلاً بنيوياً في هذا النظام، يجعل بمقدور شخص بمفرده أن يعطل البلاد، فلا يؤلّف الحكومة ولا يعتذر ولا يتقيد بمهل زمنية تجبره، إما على تأليف حكومته والتقدم من المجلس النيابي لنيل الثقة، أو الاعتذار عن المهمة، ما يفضي الى قيام استشارات نيابية جديدة تؤدي إلى تكليف شخص آخر.
وإذا كان هدف الطائف والتعديلات التي طرأت على الدستور اللبناني بناءً عليه، هو تحويل الثنائية التنفيذية في النظام اللبناني من ثنائية شكلية لصالح رئيس الجمهورية إلى ثنائية فعلية، تتوزع فيها صلاحيات السلطة التنفيذية بين رئيسي الجمهورية والحكومة، فإنه بالتأكيد- وكما بيّنت التجارب- قد فشل في هذه المهمة فتعطّل البلد وتعطّلت مصالح الناس في أكثر من مناسبة وأكثر من مرحلة. إذ لم تستطع صيغة الطائف أن تخلق أي إمكانية للتوازن في النظام، بل عطلت إمكانية الرقابة الفعلية والمحاسبة، وجعلت من رئيس الحكومة اللبنانية يحكم كما يشاء، ويضرب عرض الحائط جميع أسس التوافق الوطني والإرادة الشعبية، ويعطل الدولة ويشلها بانتظار أوامر فيلتمان، فيضع الشروط التعجيزية على الكتل النيابية، ويطلق فيتوات على هذا المواطن أو ذاك، للتوزير في الحكومة، وذلك في انتهاك صارخ لكل مبادئ المواطنية والمساواة بين المواطنين التي يكفلها الدستور اللبناني، وتكفلها جميع القوانين المرعية الإجراء.
ضابط يتمرد على رؤسائه، ووزيرة تحجب المعاشات عن الموظفين، وتحاول الاحتيال في أرقام المالية العامة لتبرئة ذمة من سيطر على وزارة المال منذ عام 1993 لغاية الآن. ضابط يقدم الشاي للعدو خلال الحرب بأمر من نائب ووزير فيكافأ، ونواب متهمون بالتآمر على أمن دولة شقيقة، وقاضٍ يعطل القضايا والقانون لخدمة فريق سياسي…. فساد ونهب وتعطيل، فضائح خطيرة تصل عقوباتها إلى حد الخيانة العظمى…ولا محاسبة ولا قضاء ولا قانون، لمجرد أن حكم ما بعد الطائف نصّب للبنانيين “ديكتاتورًا مقنّعًا”، أدخل الحاشية إلى الدولة وصارت الدولة هو، ومن بعده صارت الدولة العائلة، والعائلة الدولة.
واقعياً، لقد أظهر التمرد الأخير، أن لبنان تحول في عشرين سنة منذ انتهاء الحرب ولغاية اليوم، من شبه دولة تقطع أوصالها الميليشيات، إلى مشيخة عائلية تطلق اسمها على المطار والمستشفى الحكومي والحرم الجامعي والطرق الرئيسية و”تربح المواطنين جميلة” بأنها سطت على أموالهم لتعمّر فيها.. للأسف، تحول لم يبق من لبنان الجمهورية إلا التسمية، فمرحباً بجمهورية جديدة تنضم إلى جمهوريات الموز في إفريقيا.
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
اعن موقع التيار الوطني الحر 2 حزيران 2011
http://www.tayyar.org/Tayyar/News/PoliticalNews/ar-LB/hariri-HH-90033.htm