ألليبي
الشاعر أحمد حسين
دعك من الشعر
كل قوارير الدنيا لا تتسع لدماء هذا القتيل.
1
كيف تتسع الفكرة لروحه والكلمات لجسده وهو الذي حارب كلاب الجحيم،
وأفاعي جزيرة العرب وسيكلوبات جهنم ووضع قدميه على عنق العالم
أربعين سنة.
دفنوه مع ابنه في ملايين الكيلومترات المربعة، كل ذرة رمل في الصحراء الليبية
ستقول لك أنه مدفون فيها، كل ساقية ستقول لك أنه يشرب الآن منها، وكل ليبية
حبلى ستقول لك أنها تحمله في أحشائها.
لم يكن الرجل أسطورة، كان نبيا لم يفهم العالم كما ينبغي، ففعل ما أراد
وكتب على نفسه الخلود.
2
طفلا كان أول أمره يلاعب ظلال النخل ثم سحرته الشمس، في الطريق
إلى البيت، رجلا فاتح القامة عريض المنكبين يمشي كعدة رجال،
عيناه لا تتذكران لون عباءته، لأنه كان دائما أبعد من نظرتيه.
كان يرى ليبيا من الجزائر حتى مصر، فيركب هجين الذاكرة إلى بابل
حيث بنت السيكلوبات حائطا أعلى من النهار. فيعود حاملا فجيعته
إلى ” بني وليد “.
3
لا بد من ذاكرة جديدة، لهذا الفضاء المدلى من المجهول على خلوة الزمن الخائف
كعجوز عارية من الثياب تستر عورتها بالرمل.
ركب في البداية جواده الهجري فسبقته السلاحف الصحراوية، ومضى يتعثر بحبات الرمل
كحمارة عرجاء.
قال وهو يزيح السراب عن قدميه : كيف امتطيت هذا الحمار المتنكر كجواد
تسفده حمير الجوالين كل يوم ويشير بفقحته إلى جذوع النخل؟
الهجري ديوث العالم.
4
اللعنة علىك أيها الكائن المضاف، المعجب بكذبه، ابن الجارية المعجب بعشاق
أمه، كلب العالم المطرود من باب إلى باب.
ألهجري خطيئة ذاته، ندم التاريخ، خضوع العبد لسيده العبد، وحنين المقتول
إلى القاتل.
سخفه يغسل دمه عن ثوب العالم، موته ينقذ شرف الإنسان.
كيف سأنجو من هذا الجسد الغادر، وأغادر هذا الإسم المشتوم بأحرفه؟
قال له صوت الشمس : أخرج منه بإذني إن شئت، ولكنك لن تخرج من دمك بعيدا،
ستكون لوحدك، إن الوحدة شبح الموت.
سيطاردك الفأر السيكلوب ذو العين الواحدة، ليبني حولك سورا لا باب له.
لا يوجد في نفق الغربة إلا الوجع، ستمشي مقلوبا كالكأس وتعطي دمك لغيرك، أو تبحث عن نفسك في رجل آخر.
أقسي ما عرف الناس من الألم، الغربة في وجع المعرفة، فلا تبحث في ذاتك حتى لا تعرف أنك صفر الكينونة، وابحث في قدميك وفي الرحلة والدرب، فلا صفر له قدمين سواك؟
قال : أريد الغربة حجرا، والوجع لأعرف، والمعرفة حديقة شوك في بستان الألم، سأولد من ندم الأميين فأبني بيتا أو مدرسة، أخطب ود الرمل أفجر نهرا منه، أحاول زمنا أخضر قبل هروب الماء.
قال له صوت الشمس : يظنون بأنك مجنون، يستدعون لك السيكلوب كي يخرج منك الشيطان.
قال : يقولون بأن الملك يطير بلحيته في الليل، ولو شاء تنفس سحبا وسقى عطش الرمل، ولكن يخشى أن يهجره السر إذا باح به.
سأقول لهم إن كان الملك يطير بلحيته، فالمجنون يطير بنعليه، سيسقى الرمل بلا خوف من أحد، ويعود ليزرع ليبيا شجرا وحليبا.
إن الفأر السيكلوب جاء يميت الزمن هنا، ليعيش بأعمار الموتى.
سأقول لهم عيشوا ليموت، سيقتله الزمن الحي، وتلتئم ثقوب الخيمة، ويصير الصبح لنا والليل لنا،
والرمل لنا والماء لنا، والفرح لنا والحزن لنا، والعشب لنا والنفط لنا، والله لنا، نحيا ونموت ونحيا.
5
الموتى ينتصرون على الأحياء، سماوات تمطر كبريتا وصواعق، يأتي الموتى من كل ثقوب الظلمة تحت عباءات الحظر الجوي يدب كأقدام الفيلة فوق رؤوس الأطفل، ليحمي المدنيين من الوحش المتخفي رجلا في “سرت “، ليشرب نفط الليبيين.
يقف الرجل المتخفي في النار يحاور دهشته : هل ضيعني الحب الأعمى أم حدس الشعراء؟
حسبت الحب دواء يشفي الناس من الغربة، يحرس خبز الفقراء من السرقة، فلماذا ينتفض علي العسكر في مصر، وحجاج الثورة في تونس، وجواري الدوحة في الجيش، وضباط المخدع، والحرس الجمهوري على الباب الخلفي لملك الرقص المخلوع، وفقهاء نكاح الذكر بساحات الأزهر، والمربوط بقرنيه المعروف ببطن العجل، ومؤتمر كرادلة الشيطان، واسطبلات سليمان العربية في ميدان التحرير، وحلف الناتو؟
6
أنا لا أعشق موتي، لكني لا أخشاه، ركبت سفينتي المثقوبة كرها في بحر الرحلة، لكني كنت سأركب سمك القرش إليها، أو أمشي في البحر على قدمي وأغرق، هذا قدر الناجين من الموت الهجري، يمرون من الألم إلى الألم، تزفهم المحن المدفونة في دمهم نحو الأضرحة المجهولة في الشعر، وحزن القلب بلا سبب غير الحب لمن قتلوك من الحب.
تعال إليه يعلمك دخول الحفرة من باب القصر شهيدا، يتلو وجهك في فرح الكينونة وغناء الأطفال السعداء الليبيين إذا جاء الموعد بعد رحيل الفارس حين يموت ويحيا الشعب.