المراوحة بين الإحتلال الظاهر والمبطن
آرا خاجادور
لا يستطيع الإحتلال اليوم أن يفاخر بأنه قد حقق نصراً مشرفاً على الشعب العراقي بعد مضي كل تلك السنوات المريرة، ولا يستطيع خدم الإحتلال بكل أنواعهم ودرجاتهم التفاخر بأنهم قدموا شيئاً للشعب العراقي، لا على صعيد الحريات الديمقراطية، ولا على صعيد الحقوق الإجتماعية وإعادة البناء. فالعراق المحتل يعاني اليوم من فقدان أو تراجع خدمات الماء الصالح للشرب والكهرباء وكل أنواع الخدمات العامة الحيوية، وتسوده البطالة والرشوة وإنعدام الأمن. وإن أقوى قوة عسكرية وإقتصادية في العالم عجزت عما يُمكن أن تنفذه دولة نامية خلال نحو تسعة أعوام على صعيد إعادة بناء الطاقة الكهربائية وخدمات المياه التي دمرتها آلة الحرب العدوانية في العراق قبل وبعد إحتلاله. أليس ذلك كله بسبب سياسة معدة سلفاً، وليس أخطرها سرقة وسلب ونهب الممتلكات والأموال العامة والخاصة، التي شارك فيها المحتل نفسه وعلى رؤوس الأشهاد الى جانب خدمه.
إنهم جمعياً محليون ومستوردون وقوات إحتلال سرية وعلنية كانوا لصوصاً بإمتياز ومحترفي كذب وجريمة منظمة، فالعراق اليوم فقد هيبته وبناء دولته، وتضررت بشكل مفجع وحدته الوطنية، وتوغلت الأمراض المخيفة في مفاصله بجهود المحتل والطامعين وضعاف النفوس والإرادة. إن خدم الإحتلال حققوا لأسيادهم إمكانية الظهور بمظهر المتعفف عن البقاء في العراق، وليس المطرود منه واقعياً تحت ضربات أحرار الشعب العراقي ومقاومتهم الباسلة وبكل أشكالها ودرجاتها ومناطقها، وإن كانت هزيمة المحتل لم تصل الى الدرجة الناجزة بعد. إن الخونة حاولوا بكل الوسائل والأساليب غير الشريفة منح الإحتلال غطاء شعبي من خلال توزيع الأدوار بينهم وبينه، بما في ذلك إستخدام المعارضة اللفظية والشكلية للإحتلال من قبل بعض المطايا الطائفية، التي ركبها ويركبها الإحتلال وكل الطامعين، وفي الوقت نفسه جرى العمل على ممارسة السلطات للقسوة الفظة ضد الشعب كله مع التركيز الظاهر على أجزاء أساسية منه لتعميق الجفوة بين مكونات الشعب، خاصة بين الفئات الأقل وعياً وتجربة على طريق الفتنة المتواصلة مع الحفاظ قدر الإمكان على التحكم بدرجات توترها حسب الحاجة المطلوبة في اللحظة المستهدفة، وهذه الحالة إذا إستمرت فإنها تُصيب الشعب بمقتل محزن، وقد وصل الفساد والظلم والقمع الى درجة جعلت الشعب بأسره مخيراً بين نارين، ويتساءل أيهما أرحم نار الإحتلال أم نار أدواته المحلية؟.
ينفذ الإحتلال منذ عام 2003 سياسة ومخططات الإستعمار الجديد والعولمة الإغتصابية وسياسة السوق المخضبة بالجشع الإستغلالي والسرقة بالإعتماد على العناصر المحلية الفاسدة من كل حدب وصوب، ومن كل من له مصلحة أو على إستعداد للنهب والسلب والسرقة التي لا حدود لها، ومواصلة سياسة إذكاء المخاوف بين أبناء الشعب الواحدة، ومحاولات تدمير الروح الوطنية العراقية، التي تُمثل سقف حماية الجميع، ومصدر رفعتهم وتقدمهم ورفاهيتهم وفخرهم أو ما تبقى منها. كل تلك الجرائم تجري تحت سقف حكومة يقولون عنها أنها وطنية، وبرلمان يقولون عنه أنه منتخب، ودستور يقول عنه مجرم الحرب بريمر الحاكم المدني الأمريكي السابق للعراق المحتل في آخر تصريح له: أنه من أفضل دساتير منطقة الشرق الأوسط، ولا يخجل ذلك الوغد من الإدلاء بمثل هذا التصريح بعد أن عرف القاصي والداني ما حل بالعراقيين من إنهيار في جوانب الحياة كافة. وغني عن البيان ذكر أعداد القتلى وضحايا التهجير الطائفي والقتل على الهوية والمفخخات الديمقراطية والإرهابية بما فيها مفخخات الأخوة الإسلامية والعربية. لقد أصبح العراق مرتعاً للصوص وكل هواة الكسب السريع دون رادع من ضمير أو قانون، وأصبح بلداً يعج بالمقابر والأرامل والأيتام وأطفال الشوارع والأمية والتعصب وكل مرض ظهر على وجه الكوكب منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا، بلد تغطيه من أقصى شماله الى أقصى جنوبه ومن أقصى شرقه الى أقصى غربه الشركات والمشاريع الوهمية والرشى الإبتزازية والأغذية المسمومة، بلد يُقتل فيه العلماء والأطباء والمبدعون، وتتواصل فيه عمليات إخلائه من أفضل مبدعيه وعقوله في كل المجالات والإختصاصات وآخرها الفصل الكيفي لأساتذة الجامعات، وهي آخر ما تبقى للبلد من رافعات النهضة العلمية والإنتاجية وإعادة الأمل، وتجري كل هذه العمليات القذرة والرعناء تحت لافتات سئم الشعب منها، تجرى تلك الجرائم تحت وصاية وحماية قوات زعيمة “العالم الحر وحقوق الإنسان ومبادئ التسامح وسيادة القانون” ياللعار على كل الصامتين على تلك الإنتهاكات الإجرامية، التي تهدد كيان الوطن العراقي الذي قرروا إعادته علانية الى العصور الحجرية أو الى ما قبل الصناعة في أحسن الأحوال. بات العراق بلداً ترعى حكومته العناصر، التي تحولت الى أدوات قتل وإبتزاز وتهديد وترصد، وتغمض العيون وتصم الأذان عما يحل بأفضل العقول العراقية في الداخل والخارج، وليس حال أبناء هذا الوطن في الخارج بأحسن مما هم تحت الضيم المباشر في داخله.
أين مشروع مارشال العراقي الذي وعد به المحتل عشية عدوانه؟ مع الأخذ بالفارق الكبير بين إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وبين إعادة بناء العراق. دمرت النازية في المانيا والفاشية في إيطاليا أوروبا، وكان في ذهن الحلفاء حينذاك إعادة بناء أوروبا إضافة الى التحرير قبل ذلك. ولكن عندنا المحتل هو الذي دمر العراق خلال حرب إحتلاله، وقبل ذلك من خلال الحصار، وجاء الى العراق بوعد إعادته الى ما قبل المجتمع الصناعي. هذا فضلاً عن هذا الفرق الهائل بين دور الغرب عامة في منطقتنا وفي أوروبا، فإذا كان الوعد في أوروبا البناء الحقيقي فعندنا في منطقتنا كان الدور هو دعم كل الحكومات الرجعية والديكتاتورية لتسهيل مهمة الإنقضاض عليها عند الحاجة لذلك، وقد شجع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة روح العداء بين شعوب المنطقة، وهو يفعل ذات الشيء في الوقت الراهن، وقد واصلت واشنطن وغيرها سياسة تدمير العراق ما بعد الإحتلال حتى يومنا هذا. إن المحتل يلعب اليوم دور الشرطي والقاضي في الوقت نفسه، ومع فارق أساسي عما حصل في أوروبا، وهو إنه عندنا المحتل يدمر ولا يبني شيئاً.
نعم، على الرغم من كل تلك الظروف القاهرة فقد صمد العصب الحي للشعب العراقي في أقسى مواجهة وقعت في ظل النظام الدولي الجديد منذ تفكيك الإتحاد السوفيتي ودول مجلس التعاضد الإقتصادي. ولكنه صمود شديد التكلفة، تلك التكلفة التي أجبرت الشعب بأسره على دفعها. ولكنها تكلفة أعادت الإعتبار خلال معارك التحرير الى الوحدة الوطنية لحد ما، والى النضال من أجل الحقوق وفضح أعداء حرية العراق وإستقلاله وإستقراره وتقدمه، ولكن علينا في الوقت نفسه أن لا نهون من إفرازات الضغوط اللئيمة ومختلفة المصادر والأغراض، التي وقعت على كل أبناء الشعب الأحرار، وإن كانت بنسب متفاوتة من حيث الحجم، ولكنها واحدة من حيث النوع والهدف.
إن الإحتلال في ورطة وهو يحاول إخراج مسرحية تضمن له بقاء عملائه في موقع السلطة وإدارة شؤون البلاد، وضمان هيمنته على مقدراتها، وتجنب المزيد من الخسائر من خلال لعبة طرح مشروع الإنسحاب وإثارة الغبار السميك حوله، مرة حول العدد وأخرى حول الحصانة لجنوده. فحول العدد يتحدثون تارة عن إبقاء أعداد تبدأ من 12 ألف عسكري، وأخرى تصل الى 160 مدرباً عسكرياً فقط. وأخيراً جاء إعلان الرئيس الأمريكي عن إنسحاب قواته بالكامل في الموعد المقرر نهاية العام الحالي. لا ننكر أن حيرة المحتل ترتبط بعوامل عديدة منها ما هو أمريكي داخلي، ومنها وما هو دولي، وربما لإتاحة المجال أمام خطط لاحقة في المنطقة أشد هولاً، هذا الى جانب كل الإحتمالات الأخرى الممكنة تسعى واشنطن الى إشاعة حالة من الغموض الدائم حول خططها اللاحقة الى حين أن تُعلن المشاريع عن نفسها تحت ضغط ضرورات التطبيق الفعلي لها. مع الإعتراف بما سبق ذكره وبكل الفرضيات الإخرى يظل الدور العظيم والدور الأساسي لمقاومة شعبنا العراقي بكل أشكالها ودرجاتها في تحقيق درجة معينة من إسقاط الإحتلال وكشف مشاريعه غير المعلنة، خاصة وإنه لم يعد يملك السيطرة الكاملة على العالم بأسره في ظل بروز متاعبه القديمة والجديدة، إن الإسقاط الكامل للإحتلال لن يكون كامل الوضوح والنصر إلا بعد إسقاطه وطرد قواته وعملائه وأدواته المحلية وقراراته الجائرة، إن خدم الإحتلال لا يعرفون تماماً خططه اللاحقة، وهذا ما يُفسر حالة الهلع والتخبط الذي ينتاب لصوص بغداد اليوم.
إن إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن قرار سحب كل القوات الأمريكية من العراق في نهاية هذا العام 2011 بعد مرور نحو تسعة إعوام على الغزو الأمريكي للعراق يعني أن هذا القرار في حاله تنفيذه سيكون خطوة مهمّة على طريق الإستقلال بأحد معانيه الأولية لو كان حقيقياً طبعاً، ولكن مجرد الكلام عن الإنسحاب والعمل على تغطيته يثير أسئلة حول الغزو نفسه، وحول الغزو منذ بدايته، وعن الخطوة الأخيرة منه وتكتيكاته وإستراتيجياته، هل إمريكا فعلت كل ما فعلت لوجه الديمقراطية؟ وهل تركوا العراق كما كان عليه الحال أم أكثر سوءً وتمزقاً في نسيجه الإجتماعي الداخلي الى درجة أغرت كل من هب ودب على الطمع به؟ نقول: ربما هذا الطمع الإقليمي هو ما تسعى إليه واشنطن، وتتمنى أن يحصل على طريق مخططاتها الجهنمية إتجاه المنطقة بأكملها، قويها قبل ضعيفها، وطامعها قبل أو بعد المطموع به، خطوة ربما على طريق توريط الآخرين بتهديد العراق أرضاً وشعباً، وفي هذه الحالة يُصبح باب التدخل العدواني أسهل على الأقل من حيث الحصول على عدم إعتراض من بعض الدول المؤثرة في مجلس الأمن الدولي، هذا الى جانب إنفتاح أبواب التموين من المصادر الإقليمية أيضاً، ويعتقد هواة الحرب فيما وراء الأطلسي بأن الإعتراض على التموين الواسع من دول المنطقة لن يكون واسعاً بسبب الخوف من التهديد المباشر.
إيران على الرغم من كراهيتها الظاهرة للوجود الأمريكي في العراق، الذي مهدت له حسب إعلان قادتها أنفسهم، فإنها تقلق من إنسحابه لأن الإنسحاب يُشكل إخلالاً في ثنائية الحضور الأمريكي – الإيراني في العراق، حيث تستطيع من خلال تلك الثنائية أن تساهم في تدعيم أركان الدولة البوليسية المخابراتية القمعية في العراق المحتل الذي إمتد نفوذها إليه، وإن قسماً من عار هذه الجريمة تكون واشنطن شريكة فيه بجدارة، وخير دليل على الأفخاخ التي تنصب للشعب العراقي الاعتقالات الأخيرة، التي أخذت طابع إجراءات احترازية ضد قادة الجيش العراقي السابق وأعضاء حزب البعث، وتعمدت السلطة والإحتلال إقتصار تلك الإجراءات على أبناء طائفة واحدة، أو على الأقل أن أعداداً غفيرة من سكان المنطقة هكذا بدؤوا يعتقدون. وإن تشديد الإتهامات بالإرهاب والبعثية، وتوجهها ضد كل من يقول لا للإحتلال ولا للقمع بما حول تلك الإتهامات الى سيف مسلط ضد الأبرياء من أبناء مناطق بعينها ومسخرة رعناء وجبانة وطنياً، وقد يكون ذلك دافعاً رئيسياً وراء إعلان مجلس محافظة صلاح الدين المحافظة إقليماً بموجب دستور الإحتلال الملغوم أصلاً، وربما تتحرك كتائب أو جيوش الإرهاب الحكومي لاحقاً تجاه صلاح الدين لضرب ما قد تصفه بالتمرد وما الى ذلك، وذلك كله من أجل إعداد المسرح العراقي لأكثر من إحتمال وفق تطورات الواقع نفسه، حيث يؤدي الى تخوف المواطنين من المستقبل، وإضعاف العراقيين من أجل دفعهم للإستعانة بالآخرين المتربصين بهم في الداخل والخارج، وربما تحويل الموقف الى ذريعة للبقاء الأمريكي على طريقة الخيارات المفتوحة أو لإلقاء المسؤولية على طرف آخر في العراق أو المنطقة لتبرير حروب أو إعتداءات أخرى جديدة أشد خطورة على المنطقة بأسرها. إن اللعب بالنار بات خطيراً جداً على مستقبل الشعب ووحدة أراضيه.
إن الحديث عن الإنسحاب الكامل على الهيئة التي عرضناها قد يكون الدافع إليه فتح شهية الطامعين بالعراق شعباً وأرضاً، وكذلك لتشجيع الضواري المحلية لنهش لحم بعضها، وقبل ذلك سحق ما تبقى من عظام الشعب وفقرائه الخاوية، وما التلويح بالخطر الإيراني بعد أن إستقدمت القوات الأمريكية المحتلة جيوش الملالي الإيرانية للهيمنة على شعب منهك مدمر لم يرحمه أحد بعد أن فتحت أبواب العراق للقاصي والداني إلا أحد الهواجس للتبرير والتخويف والتمهيد للخطط غير المعلنة، إن الحديث الأمريكي على هذا الصعيد يتطلب المزيد من الحذر للأطراف المحلية إذ قد يكون كمياً لكل الأطراف المحلية وفي الجوار التي دفعها خوفها وجشعها الى إنزال المزيد من الأضرار الماحقة بالشعب العراقي، تلك الأعمال التي لن تخدم القائمين بها، وإنما سوف تكون وقوداً لتدميرهم هم أنفسهم، وإن غداً لناظره لقريب.
الشرهون عبر الأطلسي في ظل أزماتهم المتلاحقة هم في العادة يحاولون إعماء الحقيقة، فعندنا قرروا غزو العراق قالوا عن الجيش العراقي بأنه رابع جيش في العالم، ولديه أشد أسلحة الدمار فتكاً، وعندما حل إستحقاق الإنسحاب الشكلي أو إجبروا على هذه المناورة الرعناء بفضل عناد الشعب العراقي وقواه الوطنية التي لا تعرف المساومة مع الغزاة، بدؤوا الحديث عن العراق وكأنه خلو من أية كفاءة عسكرية، ويحتاج الى كم هائل من المدربين “الأسياد”.
ستكون حصلية الوجود الأمريكي الباقي في العراق عشرات آلاف العسكريين في حالة إعلان الإنسحاب الكامل، الذي سينفذ على طريقة (قلب الهيئة أو تبديل القميص)، وبغض النظر عن موجات الكذب الحالية، ومن خلال لملمة أوراق الصورة الممزقة المنثورة حول هذا الموضوع هنا وهناك، هذا طبعاً إذا لم يُطرحوا صيغة أخرى، خاصة إذا علموا أو وجدوا أن لقمة كذبتهم أكبر من فم نشاطاتهم اللاحقة على الأرض، وستبقى الحصيلة في نهاية العام وفي كل الأحوال على النحو التالي: 16 ألف عسكري لإدارة وحماية السفارة الأمريكية في بغداد والقنصليات في أربيل والبصرة وغيرهما، ورأس جسر عسكري قوي في كل المطارات المدنية والعسكرية الأساسية في بغداد، الموصل، البصرة وأربيل وغيرها، هذا غير القواعد العسكرية في مدينة بلد وعين الأسد والحبانية وبرامج تدريب الشرطة العراقية. إن الإنسحاب يعني في الواقع وعملياً توفير شروط لمعيشة المدينة رفيعة المستوى لعساكر المحتل، الذين يفترض أنهم إنسحبوا، وذلك عبر برامج تدريب الشرطة وحماية المناطق الإستراتيجية والأجواء، فضلاً عما ذُكر سالفاً، هنالك إمكانية لبقاء أكثر من خمسة الاف عسكري بصفات مدنية أخرى، وبضعة آلاف من العاملين في الشركات الأمنية المعروفين بارتكاب فظائع في طول العراق وعرضه وغير ذلك من أشكال البقاء بما فيهم المتعاقدون الذين يسيطرون على أهم الوظائف الحكومية، طبعاً هذا الى جانب الفيالق المحلية متعددة الولاءات والخالية من الولاء للعراق وشعبه، وكذلك يتركون لنا إفرازاتهم من اللوثات الطائفية والعرقية والأنانية الشخصية وروح التكسب.
لقد دفع الإحتلال ثمناً صعباً في معارك المقاومة الوطنية، ولكن بالمقابل علينا الإعتراف بجملة حقائق لتسديد خطى النضال الوطني من أجل الكنس الكامل للإحتلال وإفرازاته الشائنة، ومن أجل الحرية وكنس اللصوص بكل اللافتات التي يقفون خلفها، علينا الإعتراف بأن القوى الوطنية لم تنجح في كشف الجرائم التي ترتكب بهدف تشويه سمعة النضال التحرري الوطني، ولم تنجح في منع وقوع تلك الجرائم قدر الإمكان. وإن قوى التحرير عجزت عن تحقيق الحد المناسب من الوحدة والتنسيق والتضامن فيما بينها.
هذه الملاحظات تأتي قبل أسابيع من الرحيل المفترض للمحتل، واليوم نعود مجدداً لنقول إن حبل الكذب قصير ومادته لا تصمد أمام ضوء الوطنية العراقية، التي برهنت على أرض الواقع بأنها طريق النجاة الوحيد الذي هو بيد القوى الوطنية العراقية، التي حافظت على شرفها الوطني، وتحملت كل صنوف القتل والقمع والعذاب والحرمان والتشويه والدسائس.
إن العدو المحتل يقدم الدعم لعملائه كما هم أيضاً يقدمون ما لديهم له، ويجري ذلك على النحو التالي: إظهار صنائع الإحتلال كأنهم لا يريدون منح الجنود الأمريكيين الحصانة، وهي حصانة تحمل من البشاعة ما يفوق الوصف، وإن تحققت علناً تكون على طريقة وهب الأمير لا يملك، إنهم إقترحوا على الامريكيين منح الحصانة عبر حلف شمال الأطلسي الناتو على طريقة “خوجه علي مله علي”. وكل هذه الضجة على الصعيد الداخلي بهذا الصدد من أجل وصف من يثق الإحتلال به حالياً ويدعمه بأنه رجل العراق والممانع القوي. ومن جانب آخر الموقف المعلن يُظهر الأمريكي وكأنه متعفف عن البقاء في العراق إلا بشرط منح الحصانة. إن امريكا هي القوة الإمبريالية الوحيدة في العالم اليوم التي تحتفظ منذ الحرب العالمية الثانية بـقواعد عسكرية على إمتداد الكرة الأرضية وبالملايين العسكريين، وهي لا تتعفف عن الهيمنة العسكرية والسياسية والإقتصادية ما إستطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهي توسع ذلك الحضور بآخر صيحات تكنولوجيا التدمير “الدروع الصاروخية الأمريكية المضادة للصواريخ – الطبعة الجديدة لبراك أوباما، الديمقراطي”.
إن الحكومة العملية حكومة اللصوص والجريمة المنظمة تقسو على العراقيين، حيث يُخطط لتلك الحكومة لتكون بالواجهه في الإصطدامات مع أبناء الشعب على مختلف الصعد مما يجعل المحتل وكأنه غائب عن الصورة، أو لا دخل له في كل تلك الجرائم، فهي التي تعين الموظفين، وهي التي تمنح الإمتيازات غير المشروعة والمشروعة إن وجدت، وهي التي تداهم بيوت الأبرياء وتشيد السجون والمعتقلات، وهي التي تمارس القتل والجريمة والإبتزاز وكل ما يشعل غضب المطالبات العادلة من حكومة الإحتلال، وهذا أمر موضوعي في التعامل مع الحكومات التي يعينها كل محتل بصورة مباشرة أو عبر الخدع التقليدية والمبتكرة. إن الحكومة خلال فرض المزيد من التعاسة والتمييز في حياة الشعب تحاول عن قصد إخفاء جرائم كل أسيادها وأولهم المحتل، وحين تلقى عليها تلك الجرائم مباشر، تستهدف من ذلك أن يتوجه الناس بمطاليبهم إليها لفرض بعض الهيبة الإجرامية لها، التي تنطوي موضوعياً على بعض الإعتراف بها في جانب، ومن جانب آخر تحقق الهدف المطلوب منها، وهو ضمان خدمة الإحتلال على صعيد تحسين صورته من خلال زرع وهم أن الإحتلال أقل جوراً من صنيعته الحكومة العراقية. إن الحكومة تتحرك تحت أوامر المحتل وبعض “تحالفاتها” الإقليمية، ومن عُقد النقص التي يسعون الى تغذيتها للتخفف من وطأتها الى جانب طبعاً أدوارهم المرسومة ظناً منهم أن هذا الوضع يمنحهم هيبة زائفة بأساليب رخيصة من خلال المزيد من الإنحناء أمام الغزاة، ورفع الرأس والأنف على أبناء الجلدة، هذا الى جانب السعي لرفع درجات أرقام حساباتهم وأطيانهم خارج الوطن، ولحد ما في داخله.
تمارس السلطات حالياً حملة اعتقالات واسعة لضباط سابقين ولأعضاء من حزب البعث من دون أوامر قضائية، وإنما بتعليمات أمنية. وإن تلك الاعتقالات أخذت طابعاً طائفياً لا تُخطؤه العين، وهذا يؤكد أن الحكومة تلعب بالنار على حساب وحدة الشعب ومستقبله، وربما هذا هو المطلوب منها بأن تتخذ إجراءات من هذا النوع على طريق إثارة الرعب والعبث باستقرار العراق وأمن شعبه، وربما يأتي كل ذلك بموجب المواد الفعلية لإتفاقية الإطار الاستراتيجي للتعاون السياسي والدبلوماسي والدفاعي والأمني والإقتصادي والعلمي والثقافي والتنموي بين المحتل وخدمه، تلك الإتفاقية غير متكافئة في كل الأحوال وعلى أقل وصف له.
نحن نواصل موقفنا المبدئي الذي يقوم على مبدأ تُحريم التصفيات الجسدية من أي طرف كان ضد أي طرف آخر، وهذا ينطبق حتى على الذين تواطؤوا مع المحتل دون إرتكاب جرائم دموية والإيغال في القتل والسرقة والتشريد وإنتهاك الحرمات وإذلال الآخر، وذلك حين يُحل يوم التحرير الكامل. وفي كل الأحوال نحن ندعوا في كل الظروف والأوقات الى معالجة قضائية بيد قضاة مهنيين، وتحت راية التسامح وخلق تقاليد جديدة غير متوحشة وتليق بشعب عريق علّم الدنيا طريقة وضع القوانين. إن تطهير النفوس من الغل والحقد ونزعات الإنتقام باتت حاجة وطنية وإنسانية ومن أقوى أسلحة إعادة الروح الى بلد يراد قتل روحه وكرامته من أكثر من طرف بعيد وقريب، وسوف نبقى مخلصين لمواجهة الفكر بالفكر والسياسة بالسياسة والدعاية بكشف الحقائق بمعنى عرض الأحداث كما وقعت والمعلومات كما هي، ولا يوجد طرف من حقه أن يلغي دور الشعب العراقي في إنتزاع أي مكتسب تحقق في أي فترة كانت، وإن المكاسب لا يُمكن أن تكون إحساناً من هذا الطرف أو الحزب إو الشخص أو ذاك، إن المنجزات هي ثمار وحدة قوى الشعب الحية ونضالها المجيد والهزائم والكوارث والتسلط الداخلي والخارجي هي من الثمرات المرة للتناحر الداخلي، والشواهد على ما نقول لا حصر لها.
إننا اليوم كما في الماضي ضد حكم الحزب الواحد أو الدين الواحد أو القومية الواحدة أو الطائفة الواحدة، خاصة في البلدان المتعددة بطبيعة تكوينها، أي التعددية من حيث تكوينها الإجتماعي والتاريخي، وضد دكتاتورية الأكثرية حتى في ظل إنتخابات عامة وشفافة ونزيهة. فما بالكم بموقفنا إتجاه إقصاء الآخر وتصفيته جسدياً أو إجتثاثه وحرمانه من حق الحياة مهنياً أو الإنتقاص من حقوقه المدنية والإنسانية، إنها الوحشية المتخلفة وغير البناءة والمتعطشة للإنتقام وإذلال الغير. إن الحكم في بلدنا اليوم هو عار على كل المشاركين فيه والمتعاطفين معه والمساهمين في صنعه، إنه العار التاريخي للإحتلال، إن أي مثقف حر يخجل من هذه الهمجية المنطلقة من عقالها، بهكذا نهج ووسائل لا يُمكن بناء نظام راسخ، ولا يُمكن موضوعياً النجاح حتى في بناء زريبة وليس وطناً. إن سجل المحتل في العراق يُشكل فضيحة صارخة ضد كل إدعاءاته، ولهذا فإن موقف واشنطن من الربيع العربي يُأخذ بمزيد من الحذر والشك، وفي أحسن الأحوال يُنظر إليه كمجرد إنحناءة أمام غضب الشعوب في ظل مصاعب الغرب عامة، التي تتمثل بالأزمة المالية والدرجات العالية من الركود والديون.
تأتي تلك الإجراءات الحكومية الرعناء في وقت ينتظر فيه الشعب العراقي أو يتمنى إجراءات جادة وحازمة لاستعادة أمنه واستقراره وتوفير فرص العمل وإعادة المهجرين وافراغ السجون والمعتقلات وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية وتفريغ الاحتقان الطائفي ومواجهة الافكار الطائفية المتطرفة والمنحرفة ومعالجة الوضع العراقي بالاصلاح والاحتواء وليس بالإجراءات التعسفية.
يوجد لديهم اليوم أكثر من سيناريو من أجل خلق حالة من عدم وضوح الحالة في النظر الى الأحدات، ولكن الحقيقة التي سوف تُعلن عن نفسها أن الإنسحاب سيكون شكلياً، والإنسحاب الحقيقي لن يكون إلا على أيدي أبناء الشعب الأوفياء، وعبر النضال الوطني بكل أشكاله، من أبسطها الى أعلاها، والوهم طريق الواهمين الى الهاوية.
لم يعط الإعلام العالمي والعربي والعراقي أهمية تذكر لتصريح الرئيس الأمريكي أوباما حول سحب القوات الأمريكية كافة من العراق بحلول نهاية العام الجاري، وذلك بسبب آلاف الأسئلة التي تحوم حول تلك التصريحات والشك في جديتها على الأرض الواقع.
نشر هذا المقال في مجلة كنعان الألكترونية
2 تشرين ثاني 2011