الرئيسية / الملف السياسي / فلسطين المحتلة / اجترار التبعية وتأبيد الفساد

اجترار التبعية وتأبيد الفساد

الممثلية الهولندية تراقب عن كثب مؤتمر “أمان”

اجترار التبعية وتأبيد الفساد

أمال وهدان

28 نيسان 2012

كل شيء من حولنا في مربع [1] الدولة “المستقلة” يوحي بأننا نمسك بناصية الأمور مثل أي شريك في نادي اللاعبين الكبار، وأن الاحتلال الصهيوني العسكري والمستوطنات والسجون والإلحاق الأمني والاقتصادي والسياسي والشرذمة الجغرافية هي كوابيس من الماضي، وأن اقتصادنا يحقق نمواً لافتاً حتى في ظل أزمة الاقتصاد العالمي التي يعاني منها شركائنا، والوضع التعليمي والصحي في تطور ونسب البطالة والفقر في انحسار، وحتى آفة الفساد التي سرت في عروق ثورتنا وم ت ف لعقود وأرقت حياتنا، أصبحنا قادرين على وضع الحلول لها بمساعدة حكومات الكبار في ضبط إيقاعها فمولوا لنا فرعاً “للنزاهة والمساءلة” يشبههم، وبذات الإيقاع عينوا قيمين عليه أصدقاء لهم من “كبار القوم” عنا. وكي تكتمل الصورة نظموا له مؤتمرات سنوية يحضرها ممثلين عنهم ك”مانحين” و”داعمين” و”راعين”، وأصدروا من خلاله التقارير السنوية والفصلية كي يحللوا أموال الدعم له ولهم، وهذا ما يفسر حضور ممثلية هولندا لدى السلطة الفلسطينية بشخص رئيستها على منصة المؤتمر الرئيسية. وللعلمً هولندا هذه هي التي تبرعت للسلطة ببناء السجون، وربما هذا مفهوم التنمية والصداقة بين الشعوب بمفهوم الاستعمار الهولندي.

وبما أن صفوة الشعب من بيننا قد أدمنت المؤتمرات وورشات العمل حتى الثمالة وأدمنت كتابة مقترحات (بروبوزلز) لإقامتها سواء في الدولة “المستقلة” أو حين يتم استدعائهم ضيوفاً على حكومات شركائنا في نادي الكبار، فكل شيء سار وفق آلية منظمة للغاية: تسجيل الضيوف الكبار والصغار، تزويدهم بحقيبة منشورات فاخرة طبعت على نفقة الاتحاد الأوروبي والنرويج وهولندا ولوكسمبورغ. وعندما ازدحم الحضور في القاعة الرئيسية لفندق “البست إيسترن!” منذ الدقائق الأولى، كانت الغرفة المجاورة مجهزة لاستيعاب البقية وبتلفزة بث مباشر.

وبدأت أعمال المؤتمر الثامن ل”أمان” بكلمات ترحيب رئيس مجلس الإدارة ورئيسة ممثلية هولندا “الداعمة”. ثم لخص مفوض الهيئة ومديرة وحدة البحث والتطوير فيها التقرير السنوي للعام 2011، وتناول السيد شاهين الفساد السياسي والسيد جرار الفساد الاقتصادي والسيد ملحم الشفافية والمحاسبة في الأجهزة الأمنية ومديرة الشؤون القانونية في وزارة المالية تحدثت عن هدر المال العام!

وكان من المفترض أن يتاح للحاضرين خمسة وأربعون دقيقة ل “استجواب” فريق “أمان” وضيوفهم بعد ثلاث ساعات من السرد المتواصل للتقرير إلا أن هذا البند تحديداً لم يوفى حقه كما يجب بل تم بتره لصالح البند الأهم: وجبة الغذاء التي أعلن عنها السيد الشعيبي معلناً انتهاء أعمال مؤتمره. وهذا ليس خروجاً على المألوف في المؤتمرات وورشات العمل خاصة لدى “منظمات المجتمع المدني” الراقية والممولة جيداً، حيث يتم إبلاء عناية فائقة لنوعية وكمية الأطعمة المقدمة على رأي المثل الشعبي: “طعمي الفم تستحي العين”، وهذا ما تعود عليه نسبة لا بأس بها من رواد المؤتمرات ولذا تنفق المؤسسات الممولة أجنبياً على وجبة الطعام أكثر تماشياً مع العادة التي رسختها تقاليد الأنجزة ومن يقف من ورائه [2] . ولكن وللحقيقة فإن عدداً غير قليل من الحضور غادر قاعة المؤتمر قبل بند الاستجواب لحجز مقعد في قاعة الطعام قبل اكتظاظها.

وفي مراجعة سريعة لما طرحه التقرير السنوي ل “أمان” والذي يجدر بنا أن نقرأه بوعي وموضوعية ودون أدنى استهجان. فالتحدي الذي أشار له السيد الشعيبي فيما يتعلق بسلطة الحكم الذاتي في قطاع غزة وعدم تعاونهم مع سلطة الحكم الذاتي في رام الله بجباية المقاصة أو مع “أمان” في المعلومات فهو مفهوم وطبيعي لأنهم يعتبرون أنهم مستقلون بشؤون “دولتهم” عن “دولة” رام الله وغير مجبرين على تقديم كشف حساب لها. ( من الغرابة أن يدين السيد الشعيبي طرفاً ممن اقتتلا على شبه سلطة، ولا يدين الطرف الآخر، ونقصد بهذا تذكير القارىء أن الشعيبي يمثل مؤسسة تزعم أن هدفها الأمان والأمانة). والتحدي الآخر الذي أشار له التقرير هو ما يتعلق بوزارة الداخلية في رام الله والتي وصفها التقرير بالدائرة المغلقة لعدم تعونها معهم في المعلومات وذات الأمر ينطبق على أجهزة الرقابة في التشريعي والرقابة المالية والإدارية. كذلك نوه التقرير للتراجع الكبير في دور الجهاز القضائي وأداء محكمة العدل العليا التي أصدرت قرارات متناقضة في قضايا متشابهه. لكن لم ينتقد التقرير مثلاً الطريقة التي يتم بها تعيين القضاة ووفق أي اعتبارات ومعايير. وهذه تعتبر من صلاحيات الرئيس!

وربما أخطر ما تجاهله أهل التقرير أن رئيس الحكومة الذي كان في صدر الحور هو رئيس حكومة تسيير أعمال، أي أن اسمها ينبىء عن قصر مدتها، فإذا بها كالنظام الملكي المطلق، ولا أحد يعرف متى تتغير. هذا إضافة إلى أن وزرين فيها يجري محاكمتهما علانية بالفساد ووزير ثالث تم استدعائه مؤخراً لهيئة مكافحة الفساد، كما أن سياستها النيوليبرالية هي محط سخط اجتماعي وحتى من حزب السلطة وحلفائه. هل يعقل أن “أمان” لم ترى ذلك؟

وانتقد التقرير تخصيص 41% من النفقات الجارية من موازنة سلطة الحكم الذاتي للأجهزة الأمنية والتي لا السلطة ولا أجهزة الرقابة لديها أدنى معرفة بكيفية صرف هذه النفقات. وقد يكون الجنرال مولر وحده يعرف الإجابة عن هذا التساؤل الكبير! كما نوه التقرير إلى مافيا التهرب الضريبي والتي بلغت نسبتها 40% من الضرائب، بل إن آخر تقارير صندوق النقد الدولي تقول أن تطبيق الدفع الضريبي لم يزد عن 40%، هذا إضافة إلى تبديد المال العام وتخصيص رواتب لأشخاص ليسوا على رأس عملهم وتفشي الواسطة والمحسوبية والمحاباة والرشوة.

ومع ذلك وحتى نبقى في سياق التقرير السنوي ل “أمان” دعونا نوجه لهم الأسئلة التي لم يسنح لنا طرحها أمام المؤتمر والتي لم يكن مقدراً ولا مقرراً أن تسأل لهم:

أولاً: كيف تشكلت هذه الهيئة وهل هي مسجلة في وزارة الداخلية ومن عين مجلس أمنائها وهل هذه العضوية مدى الحياة ولماذا لم يمثل بها الفلاحون والعمال والمرأة والطلاب؟ فهي تبدو من اسمها كحارسة على المجتمع، ولكن مجتمع لا تتمثل فيها معظم طبقاته مما يوحي أنها معينة من طرف محدد ولحماية مصالح فئة محددة!

ثانياً: من يمولها وما هي رواتب المفوض وطاقمها الرئيسي؟ هل هناك بيانات رقمية عن تمويلها منذ بدايتها؟ وإذا لم تفعل هي هذا، فلماذا “تتمرجل” على فساد السلطة؟

ثالثاً: في الذمم المالية المنشورة على صفحة “أمان” الألكترونية تم الإشارة إلى استثمارات في الخارج للسيدة عشراوي رئيس مجلس الأمناء. والسؤال كم تبلغ هذه الاستثمارات وما هو مصدر رأس المال الأساسي لهذه الاستثمارات والسيدة هي في معظم عمرها أستاذة جامعية. لماذا لم يتم تفصيل ذلك؟ أما المناصب التي تشغلها وهي حوالي 20 منصباً منها منصبين أو ثلاثة في هيئات أمريكية!، مما يشير أن ليس لديها وقتاً ل”أمان” فلماذا لا تعطي مقعدها لمن لديهم كفاءة ووقتاً؟ أم هل سيهدد ذلك تمويل المؤسسة!؟ والغريب أن السيدة لم تذكر منصبها السابق في جامعة الدول العربية في عصر السيد عمرو موسى الذي خدم نظام حسني مبارك لعقد من الزمن!؟ ولماذا لم تذكر الذمة المالية للسيد الشعيبي مفوض الهيئة؟ حتى لو كان لا يملك شيئاً فليس من الخطيئة أن يذكر هذا! وهل هو مفوضاً مؤبداً لهذه الهئية؟ وإن حصل فهي إذن مشروعاً خاصاً. وإذا كانت مشروعاً خاصاً فهذا يعني أن له ذمة مالية!

رابعاً: هناك 25 مليار دولار دخلت كمساعدات لسلطة الحكم الذاتي، أي مال سياسي، هل هذا فساداً؟ وهل لديكم إطلاع على آلية صرفها؟ وإن لم تطلعوا فما هو عملكم بالضبط؟

خامساً: أعلن النائب العام قبل 7 سنوات عن وجود 57 ملف فساد. هل لديكم إطلاع عليها؟ وإن كانت لدى هيئة مكافحة الفساد، أو ليس من اختصاصكم معاينتها؟ ألستم الطرف المخول بالمتابعة؟ والسؤال لماذا لم يقدم أحداً من هؤلاء إلى القضاء؟

سادساً: كان من الواجب أن يتم تقليص الوظائف الزائدة لكنها، كما يقال، زادت. هل تناولتم هذا الأمر مع السيد فياض؟

سابعاً: ما هي العلاقة بينكم وبين هئية مكافحة الفساد؟ هل هي علاقة تعارض أم تعاون؟ وهل الفساد بحاجة إلى هيئتين لمعالجته؟

ثامناً: هل “أمان” جزء من منظمة دولية للشفافية؟ هل هي تخضع لرقاية من الأجنبي لأنه يمولها؟ وإلا ما الذي يفسر حضور ممثلة هولندا؟ والسؤال هنا هل تسمح هذه الدول لنا أو لغيرنا أن نحشر أنفنا في قضايا فسادها؟ وهل من المستحيل إنشاء لجنة محلية بدون دعم أجنبي؟

تاسعاً: ذكرت صحيفة القدس العربي في عددها الصادر يوم 25 نيسان الحالي على لسان مصدر دبلوماسي غربي يقيم في فلسطين المحتلة 1948 أن الدول المانحة حذرت أبو مازن من مغبة إقالة فياض من وزارة المالية وإلا تأثرت المساعدات الدولية. إذا ما صحت الأنباء، هل يعتبر هذا مؤشر فساد سياسي ومالي فاضح من أبو مازن وفياض؟ هل ناقشتموه مع السيد فياض؟

عاشراً: الولايات المتحدة ساهمت في خلق القاعدة في أفغانستان منذ 1978 لمحاربة الاتحاد السوفياتي في حينه، واستمرت في الاستفادة منها حتى يومنا هذا وشكلت جبهة عالمية لمكافحة القاعدة والإرهاب وعقدت المئات من المؤتمرات لهذه الغاية، وهذا يعتبر نفاقاً وتلفيقاً وتزويراً وإجراماً. والولايات المتحدة خلقت الفساد في مناطق الحكم الذاتي بعد أن أغرقته بمليارات الدولارات وتطلب من السلطة إختراع هيئات لمكافحته. ألا يعتبر هذا نفاقاً وخداعاً للجماهير؟

أحد عشر: سلطة الحكم الذاتي و”أمان” تتلقيان دعماً من الأجنبي، أي مال سياسي. ألا يعتبر ذلك فساداً؟

إثنى عشر: أليس من النفاق السياسي والأخلاقي أن تقتبس “أمان” عن رجل بقامة سليم الحص، رئيس وزراء لبنان الأسبق، مقولته:” يبقى المسئول قوياً إلى أن يطلب شيئاً لنفسه”؟

وبالعودة مجدداً إلى التقرير فقد أتى على ذكر العديد من مظاهر الفساد المتفشية في كل مؤسسات الحكم الذاتي بالعموميات [3] ، ولكنه لم يذكر أسباب الفساد ولا المسئولين عنه. لم يشر مثلاً أن وظيفة المال السياسي الأساسية هو خلق أجواء من الفساد تكون كفيلة بتحطيم وتدمير أي كيان سياسي من الداخل كما حصل لنا بالضبط. بمعنى أن الفساد هو نتيجة حتمية في نظام سياسي تم هندسته ونحته للقيام بوظيفة سياسية محددة ولخدمة أجندة غربية فلسطينياً وعربياً. فتعويم القضية الفلسطينية يعني افتقادها كبوصلة جامعة للأمة العربية من مشرق الوطن العربي حتى مغربه.

قد يكون الاستخلاص الأهم في كل ما ذكر هو أن كيان سلطة الحكم الذاتي التي تم أنشاؤها بقرار أجنبي وبتمويل أجنبي وبإشراف من البنك والصندوق الدوليين وبتواطىء وتبعية سياسية من قبل القيادة المتنفذة في منطمة التحرير الفلسطينية ولأهداف سياسية محددة أهمها ضرب الكينونة الوطنية للقضية الفلسطينية، وتقسيم ما تبقى منها جغرافياً وبعثرتها ديمغرافياً، ووأد حق العودة للاجئين وإشاعة أجواء اليأس والتشاؤم في صفوف الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والشتات، كان يجب أن يتم إغراقها بمليارات الدولارات وتحويل مناضليها إلى موظفين مرتزقة لحرفهم عن مهمة مقاومة الاحتلال وتحويل أحزاب منظمة التحرير إلى واجهات فارغة من أي مضمون سياسي وثوري ووطني. وما يشهده الوطن العربي اليوم من تشظي وتقسيم على أساس طائفي ومذهبي يشير أن حلقة أوسلو هي جزء أصيل ومبكر من مؤامرة التقسيم التي تفتك بالوطن العربي وتقف اليوم على بوابة دمشق عاجزة عن المضي بمشروعها الدموي.

amalwahdan@arabgazette.com

[1] على غرار المنطقة الخضراء المحصنة أمنياً في بغداد بعد تدمير واحتلال العراق من قبل التحالف الغربي!

[2] هذا يذكرني بوليمة أقامها أمير قطر لفريق كرة القدم إثر فوزه بإحدى المباريات حيث أفرد لكل لاعب خروفاً محشياً!

[3] لقد عانى الشعب الفلسطيني لعقود من فساد منظمة التحرير وخاصة أهالي المعتقلين والشهداء ووصلت ذروة الفساد عندما تخلت عن الميثاق الوطني ووقعت على اتفاق أوسلو.

عن prizm

شاهد أيضاً

إسرائيل وجيشها يقاتلان على “جبهة أخرى”: الهواتف الذكية بين أيدي الجنود في قطاع غزة!

21 شباط 2024 سليم سلامة تشكل شبكات التواصل الاجتماعي، منذ زمن، جبهة إضافية أخرى من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *