ناجي.. أيها الغائب الذي لم يغبْ
عدنان كنفاني
أيها المتماهي مع تراب الأرض، وفضاء الوطن، وبحر عكا..
غادرتنا.. ونحن في متاهات الشتات نقف عاجزين أمام غربةٍ ذابحة فرّقت بيننا في دروب الحياة، وها هي تفرّق بيننا حتى في وداعات الموت.
لماذا استبقت السفر.؟ وهل سيبقى من مَعلمٍ للمكان بعدَك.؟
هل تراني أبحث عن ابتسامتك النبيلة! وصدى البوح المتفلّت من طموح شبابك لم يُتح لها أن تصبح نسغاً في ذاكرة مشحونةٍ بصفاء الذكريات، تُسيّل أشجانها على صمت شرفةٍ كم سَكَنت في فضائها وشوشاتك، وصدى ضحكاتك.. وكم لَمَستَها أيادٍ سافرت في لحظة الحب إلى أعماق روحك النقيّة حيث يصبح الصمت طقسَ عبادة.
آه يا بنيّ الجريح بنصال الزمن الغائب عن مدراك الناس..
حدود واهية فصلتني عنكم، كنت أسمعك، كما أسمع صهيل خيول خلّفناها وراءنا يوم أخذنا الرحيل بعيداً.. أقرأ في وجهك الوسيم نبضات الحب، والأمل، وفواصل الأشعار، والحب.
تلك الطاولة الأليفة ما زالت تنتظر أوراقك كي تستعيد وهجها.
أراك بين الشباب، تحدثهم، تضحك معهم، وتعلن، بصبوة روحك، مدى عشقك للحياة.
أراك.. تخرج إلى العالم، تتجوّل في حواري (عكّانا)، يتذخّر الفضاء بابتساماتك وفرحك، ويكبر الأمل.
آهٍ يا بنيّ الغريب.
على إيقاع حروف جاءتني من البعيد، نَزَفتُ أوجاعي دفعة واحدة، تصوّرت أن الأرض حقيقة تنقص من أطرافها عندما يغادرنا عزيز، أو حبيب، حاولت يا ناجي أن آتيك، لكنهم منعوني عنك.
أيها القدر الظالم.. كيف تُعلِن غربتي عنكم، عن قومي وأهلي وبلدي، وأنا على ذلك الحد القريب منكم.؟
كأنني أسمعه.. أراه.. أتحسس نبضات الألم القاهر المسكون فيه، وأعرف أنه يشتدّ أمامكم، ينثر حولكم باقات من التعلّق بالغد الأفضل الآتي، يشكّل الحياة كما يهوى، ويزيّنها بذلك الترف الشوقي المخزون في روحه التي لم تكف عن شحنه بالعطاءات.
ثم.. يأتي موسم الصيف، فيقرر الرحيل، إلى هناك، إلى المدى الأرحب، يحمل تعبه، ويسافر..
يعانق نسيمات الصيف الحارّة، المتسللة من شقوق نافذة الغرفة المتعبة بأوجاعه، يسدل ستائر بيضاء على شجنِ عينيه، ليفتح أيقونات روحه، يتحسس الموجودات التي يعرفها مقيمة معه في واحة صمت ما وشَت ولو بهمسة تسعى عبثاً لملامسة الحنين.
سرير، وكرسيٌّ، وطاولة..
كم عايشت تساقط أرقام وأرقام أوغلت تراقصا مقيتاً يسطّر في كل هفوة أنها سويّة قدره، منها.. من تراكمها المتعب، وتعاليها المؤلم شيئاً يضمّ إليه ذاته، ويبقيه على شفا الحياة.
أيها القدر الغريب.
لقد أتعبته الرحلة، فآثر أن ينفضَّ عنّا، ويسافر ذات ظلام دون تلويحة وداع، يسبقنا جميعاً إلى لحم “عكا” يتوحّد مع ترابها، فتحتضنه برفق حبيب، يطلَّ على مدينة أرست مراكبها في صدره، فكانت له الزاد كلما أوجعته الغربة، سبقنا وأقام فيها..
طار، ثم خلع عن كتفيه دهشة الانتظار المملّ الذي أعيشه، وألقى عن كاهله تعب اللجوء.
سكن في “عكا”.. “عكّاي” “عكانا”، يحمل معه بشائر النقاء، وطيوف الذكريات التي بدأت تكتب ألف بائها في سفر حياته، نابضة أبداً صوراً تترامى على شاشة عمر أبيض، يلوّنها بالعطر والجمال، فيعيشها فرحاً.
أراه الآن يعانق السابقين، يرسم تلك الابتسامة التي ما فارقت، رغم طوفان القهر، تفاصيل وجهه الطفل، ويظلّلها بترفٍ من نوع لا يستطيع أحد أن يدرك كنهه، ويعجنها بالشوق ليعلنَ عشقه لعكا.
أيها القدر المدهش.
كانت رحلتنا قاسية حدّ الفزع، مؤلمةً حدّ الصراخ، لكننا تعايشنا معها، واستطعنا، رغم المتغيرات غير المعقولة التي لوّنت مسيرة الحياة أن نبقى على حدّ الصمود.
وأنت يا صديقي الموجوع (أبو ناجي)، أعرفك واقفاً.. شامخاً كأشجار السنديان، لم تفتّ من عضدك الرزايا، بل كنت في كل موقف، كما المطر عطاءً.
يقولون أن الولد قطعة من الكبد، فهل بقيت أكباد فينا.!! أعرف سطوة الحزن، ولوعة الفقد، لكننا لا بد أن نتعلّم منك شموخ الصمود والصبر والتحمّل.
علِّمنا يا أبا ناجي، أيها الحاضر المقيم في فسحة عكا الأسيرة، كيف نواكب الألم بقدرة فائقة على التحمّل، كي نصمد جميعاً في وجه فوران الطوفان.
علّمنا يا أبا ناجي كيف نتشكّلُ كما تشكّلتَ أنت وواصلت الصمود وأنت تقيم ميزان الحياة.
علِّمنا كيف تحتوي فسحة القهر بابتسامة لم تفارق مساحة وجهك النبيل.
علّمنا يا أبا ناجي كيف نحب ناجي بلا دموع.
ضع وردةً شابّة على قبره، باسمي، وقل له أن ينتظر حضورنا..
وداعاً ناجي في ذكراك التي ما زالت رطيبة كما صدى فرحك في فضاء البيت والحيّ وعكا.
وداعاً بنيّ، عليك غيثُ رحمات، ولأهلك وذويك ومحبيك قوّة الصبر، والرضا، وأصدق الدعاء.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
23 أيار 2013
دمشق