بقلم/ علي بن مسعود المعشني
انطلقنا أنا ومرافقي يوسف من مدينة رداع قرابة الساعة الخامسة عصرًا، قاصدين صنعاء التاريخ والحاضر والمستقبل، ونتيجة التضاريس وسوء أحوال الطريق وتعدد نقاط التفتيش فقد وصلنا مشارف صنعاء قرابة الساعة الثامنة والنصف ليلًا، وكنت قبل الوصول وكلما رأيت تجمعًا عمرانيًّا أو أضواء كثيرة، أسأل مرافقي يوسف: هل وصلنا صنعاء؟ فيرد علي بأنها أنس، وكانت أول مدينة ندخلها بعد انطلاقنا من رداع، ومدينة أنس ترسخ اسمها وانطبع بذاكرتي من الطفولة في بواكير تشكل ذائقتي الطربية أنا وأبناء جيلي؛ حيث كنا نطرب لرائعة المطرب علي الأنسي “حطر غصن القناء”، أما في رداع فقد سألت عن الفنان علي الرداعي والذي انطلق من أقطار الخليج، وهو بلاشك أقل شهرة في اليمن من مقام علي الأنسي، بل وحتى الندرة في رداع ممن يعرفونه كمطرب، عدا أحد كبار السن؛ حيث قال لي بأنه من منطقة برداع تسمى صباح، وهو مقيم حاليًا بها، لكنه شبه معتزل للطرب.
بعد تجاوزنا مدينة أنس، وصلنا مدينة ذمار، وهي مدينة كبيرة ينتصفها الطريق، فيتيح لك رؤية أسواقها ووسطها ومعمارها، بعكس أغلب المدن التي مررت بها، والتي لم نرَ منها سوى أطراف أو أجزاء نتيجة تصميم الطريق الرئيسي؛ فذمار مدينة تعج بالحياة، وأعجبني بها معمارها وحيوية أسواقها وساكنيها، ويتندر اليمنيون ويكررون طرفة تحدي أهل ذمار للرئيس الأسبق عبدالله السلال حين طالبوه بأن يساويهم بباقي المناطق في المشروعات التنموية الكبرى، حيث طالب الذماريون -وكما تقول الطرفة- بميناء أسوة بالحديدة، وحين استنكر السلال طلبهم كون ذمار مدينة جبلية لا منفذ بحري لها، قالوا له ومن باب التحدي: عليك الميناء وعلينا البحر.
خَرَجنا من ذمار لندخل مدينة المعبر سريعًا؛ فهي بلدة صغيرة نسبيًا، وعلى مشارف صنعاء، وبعد الخروج منها لم أصدق ما سمعت من مرافقي حين قال بأننا سندخل صنعاء بعد المعبر مباشرة، حينها خالجني شعور غريب بلقاء صنعاء أخيرًا، معشوقة التاريخ والحاضر والمستقبل، المدينة التي تتقادم ولا تشيخ أبدًا؛ فصنعاء على ما يبدو أنها من علَّم اليمنيين أن لا يموتوا، بل يتواروا عن أنظار الأحياء، وتتناسخ أرواحهم ليستمروا في إنتاج الحياة المرصعة بأكاليل الفل والكرامة والشرف.
صنعاء من علَّم اليمنيين -دون شك- تحدي الزوال وممارسة الخلود بكل شموخ وعزة وكبرياء. وأثناء خيال غرامي وتغزلي بصنعاء أفاقني يوسف بالقول: هذا شارع تعز وهو من أكبر شوارع صنعاء وأول المرحبين بزوار صنعاء وضيوفها عبر الطريق البري القادم من جنوبها.
عدَّلت جلستي مُنتشيًا بدخول صنعاء بشعور الفاتحين العاشقين لصنعاء، فقدر صنعاء أن كانت وبقيت عصية على الغزاة ومقبرة لهم، وحنونة على المحبين لها والعاشقين لجملها وصيتها. الغريب أن يصادفني بصنعاء وبشارع تعز بالتحديد فندق عُمان السياحي وكأنه يرحِّب بي، لكنني كُنت عاقدَ العزم على السكن بشارع الرباط المتفرع من شارع الستين، والذي التقطه سمعي من أحد الشباب العُمانيين ممن قدموا اليمن؛ حيث قال لي بأنه يسكن في أي فندق بشارع الرباط، فالتقطت منه هذا الشارع دون أن أسأل عنه، فكل صنعاء راقية وجميلة في عيني، بأحيائها الراقية الحديثة أو الشعبية أو العتيقة؛ فلكل منها بصمته وذاكرته، وفي المجمل طالما وجدت الإنسان اليمني وفي أي موقع، تشعر بالجمال والأخلاق والإنسان، وتجد الكثير من القيم المفقودة من حياتنا اليوم.
كُنت أقول، وأردِّد دائمًا للأصدقاء والزملاء، وبكل صدق وإيمان بما أقول: من فاتته قيم القبيلة العربية وعصبيتها السمحة والإنسانية فليزر اليمن، ومن فاته رؤية الأندلس بمعمارها وناسها ولباسها وموسيقاها وطعامها وثقافتها فليزر المغرب، ومن اشتاق لزيارة تاريخ العرب ورؤية أخلاقهم في الجاهلية وصدر الإسلام فليزر بلاد شنقيط (موريتانيا).
نزلتُ بفندق متواضع بشارع الرباط، وبقيت طوال ليلي متلهفًا لبزوغ الفجر كي أرى ملامح صنعاء وجمالها، وأستمع لعتابها وشكواها وأنينها، وقصص كثيرة تخفيها صنعاء ولا تبوح بها إلا لمن استشعرت منهم حُبهم الصادق لها؛ فصنعاء كأهل اليمن لا يحبون الشفقة بل يحبون المواساة، ولا يحبون المساعدة بل يحبون العون؛ لأنهم منبع العون والعطاء بلا مِنة ولا أذى. واليمنيون -وكما تتناسخ أرواحهم ويتوارون عن الحياة كي لا يموتوا- هم أيضًا لا يشتكون ولا يُبدون آلامهم لأحد إلا لله وحده.. لهذا أكرر وأقول: في اليمن رأيت الله.
———————————-
قبل اللقاء: من كتابات الأديب اليمني الأستاذ محمد القعود: “تُحاول أن تبدو أنيقًا بوجعك.. وبجرحك.. وبجوعك.. وببوحك.. وبصمتك.. وبشرودك.. وبجموحك.. وبانهماراتك وشظاياك.. لعلك تستحوذ على شيء من مهابة الصمت.. وفخامة الحضور في أرصفة الألم.. وأبهة الأطلالة من شرفات يقينك.. ومواجهة المتاهات التي تهب من كل فج أليم. ولعلك تضيف إلى رصيد شجنك بحة تُحلي بها مرارة أنينك وعلقم انتظارك.. ووجبتك اليومية من الأسئلة ذات الملوحة العالية والمذاق الحارحد الاحتراق”.