ادريس هاني
تمرّ المنطقة بظرفية قلقة وحسّاسة، فالحرب مهما بلغ التلويح بها فهي باتت مستحيلة لأسباب لا تتعلق فقط بالتحوّلات التي استهدفت قواعد الاشتباك، بل في تراجع القدرة الاقتصادية للمركز ومحاوره على أن يخوضوا حربا طويلة الأمد..ليس هناك سوى حرب نفسية تعتمد الأساليب المسرحية لاختبار صلابة الموقف..المعسكر الغربي يعيد التموضع في حدود حلفاء يزدادون ضعفا يوما بعد يوم..لقد أصبحوا أمام حالة عارية من الاضطراب الذي جاوز آماد الوعي الضروري بوضعية الوجود في إقليم يخضع لنزعات الثأر..تفاصيل هذا الصراع تضعنا يوميا أمام حالات من العناد الذي يطال بديهيات الجيوبوليتيكا..الجهل بالتاريخ هنا لا يقف عند مجرد التنكر للوثيقة بل يذهب بعيدا إلى إرادة تغيير وجهة تاريخ المنطقة ولكن برؤية غير تاريخية: أي أنّ حالة الاستفزاز للذاكرة من شأنه أن يثير الوعي أكثر بعدالة القضية الفلسطينية التي تستعيد عنفوانها بعد أن حاولوا وضعها خلف سراب ربيع عربي كاذب. هناك محاولات لزرع الفتنة في المنطقة العربية وذلك من خلال التشويش على القضية الفلسطينية بافتعال قضايا ملتبسة يتحرك فيها عملاء لا يفتؤون يرفعون علامات فيكتوار بمناسبة وبغير مناسبة بينما الأهداف واضحة: خلط الأوراق..في هذه المرحلة بالذات في الوطن العربي يتعيّن تصعيد الوعي إلى أقصاء..الحذر من سماسرة السياسوية والاختراقات الجارية على قدم وساق..هناك تآمر كبير ضدّ القضية الفلسطينية لكي لا تكون القضية الأولى للإنسان العربي..وهناك من يسهّل لهم هذه المهمّة بغباء إن أحسنا الظّن أو بتواطؤ إن تحدّثنا لغة القرائن..كنا منذ سنوات نؤكد على أن من يصحح مسار الربيع العربي هو فلسطين باعتبارها معيارا للحقيقة النضالية الكبرى في دنيا العرب..لكن العرب افتقدوا جوهر مروءتهم..وحين نتحدث عن العرب ونحن عرب فإن مقتضى البلاغة والمجازات العربية تؤكد على أنّ الأمر يتعلق بتذكير أمّة بمروءتها، فلا يصار إلى الفهم السطحي لمؤدّى كلامنا كما لو أنه عداء للعرب..
فالعربي صاحب قيافة وحدس لا تختلط عليه المعاني ولا تلتبس لديه العبر..وإذا كنا يائسين من الموقف العربي على مستوى النظم فإن الشعوب العربية هي الأخرى واقعة في معظمها تحت الاستيلاب وثقافة الانتهازية وأخلاق العبيد نتيجة الفعل الدؤوب لإعلام متآمر على المروءة العربية..ثم إنّ الوعي العميق بمضادات المقاومة يجعلنا نقف على الاختراقات التي تحدث داخل المجال الحيوي للمقاومة نفسها..من هنا وجب أن تكون الحيطة كبيرة تجاه المبادرات التي تأتي من هنا أو هناك من بيئات الإلتباس..ازدواجية المعايير في قراءة الأحداث، والتلوّي في تحليلها والتنافس على المصالح والمآرب الشخصية في أسوأ استغلال لدماء الشهداء..إن المقاومة هي الأخرى تمر من مرحلة صعبة..تسرق منها رمزيتها ومصداقيتها ويتم التحرشّ بنقاء فعلها التحرري..ما ألاحظه هو أنّ منجزات المقاومة باتت مادة لدى البعض لممارسة التعويض التاريخي عن هزيمة خيارات ورموز وكليشهات..لكنهم لا ينحنون إجلالا أو ينصتوا مليّا للقول التاريخي لمقاومة تتواضع في مقام التخاطب فتخفي سرّها الروحي المختوم، بينما يستكثر عليها المشوشون كل أسباب وجودها ومقدمات انتصارها..إنني أؤكد مرة أخرى على أننا لن ننتصر كعرب ونحن نتآمر كأفراد قبل الأنظمة على بعضنا البعض بل افتقدنا حاسة التمييز والفراسة العربية..تبدأ المروءة من الفرد المناضل بوصفه يجسد موقفا متقدما وحالة طليعية في أمة مضامة..أكرر حتى أبح لا خطر أكثر من النّفاق..لا شيئ أثقل من السمسرة..لا أسوأ من خفّة العقل والتفكير والنظر..لا أتفه من أحمق يهرول في الوقت بدل الضائع على ركح نضال سقط فيه سهوا..لا أحقر من جبان يستنسر في مقامات الرجال..لا أخسّ من فاقد للوفاء على طريق كفاح جادّ..نراقبكم أيها المنافقين جيدا..نعرف كيف تتوزعون على الخريطة..ألاعيبكم..فتنتكم..حقارتكم..جبنكم..لن تفلتوا..لن تستمروا في هذه اللعبة..وليعلم كل ذي أصل ومروءة أنه لا نضال مع وصولية..لا كفاح مع تآمر..لاانتصار مع رداءة..لا مقاومة بلا أخلاق..لا تحدّي من دون وعي صلب..فتد رحمك الله عقلك في أرض المعاني، وارم بوعيك أقصى التّاريخ، وأعر مهجتك للحق، واعلم أنه لا يصحّ إلاّ الصحيح..والعاقبة للمتّقين.
ادريس هاني:20/5/2018