إبراهيم علوش
أثير كثيرٌ من اللغط في وسائل الإعلام حول مواقف موسكو من موضوع (تواجد إيران وحزب الله) في جنوب غرب سورية، على مقربة من خطوط التماس مع العدو الصهيوني في محافظتي درعا والقنيطرة، بناءً على تصريحات مختلفة لمسؤولين روس، كان آخرها تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الاثنين الماضي حول ضرورة تواجد القوات الحكومية السورية «فقط» على الحدود الجنوبية لسورية، وما نقلته وسائل إعلام مختلفة عما سمته (سعي روسي حثيث لضبط الرد) على الغارات الصهيونية على مواقع مختلفة في سورية، ناهيك بكون روسيا طرفاً ضامناً لمنطقة «خفض التوتر» في جنوب غرب سورية، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والأردن، خارج نطاق مسار «أستانا»، منذ 7 تموز 2017، وما نقل عن حرص روسيا على عدم اشتعال المواجهات مع الكيان الصهيوني في جنوب غرب سورية، ولاسيما خلال زيارة نتنياهو لموسكو في يوم النصر على النازيين (9 أيار)، وما نُقل بعدها عن (تراجع) موسكو عن بيع منظومة الدفاع الجوي «إس 300» لدمشق بعد تصريح لافروف عن تفكير موسكو ببيعها لسورية عقب العدوان الثلاثي (الأمريكي-الفرنسي- البريطاني) عليها في شهر نيسان الفائت.
وإذا كان جزء غير يسير مما كُتب وقيل بشأن هذا الموضوع في الإعلام الأصفر قد جاء في سياق الدس والتشكيك ودق الأسافين والسعي لزعزعة أركان التحالف مع روسيا، فإنه فعل ذلك متجاوزاً كل ما قدمته روسيا من دعم لسورية في مواجهة الحرب الكونية عليها، من ممارسة حق النقض مراراً في مجلس الأمن الدولي لمنع الدول الغربية من أن تكرر في سورية ما جرى في ليبيا ويوغوسلافيا السابقة من قبلُ، إلى توريد منظومات الدفاع الجوي الصاروخية «ستريلتس» و36 منظومة «بانتسر-إس 1» الصاروخية المضادة للطائرات، وغير ذلك من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى سورية، مروراً بدخول روسيا على خط الحرب منذ 30 أيلول 2015، تجاوباً مع طلب الدولة السورية للمساعدة في مواجهة تحالف الشر الغربي-الرجعي العربي والتركي وأدواته المحلية، ما ساعد في تأمين تغطية جوية نوعية لحملات الجيش العربي السوري وحلفائه في مواجهة الإرهاب، ناهيك بالدور الاستشاري للحلفاء الروس، الذي كلفهم 92 شهيداً حسب أرقام وزارة الدفاع الروسية (حتى تاريخ كتابة هذه السطور)، كان آخرهم أربعة قضوا إلى جانب الجيش العربي السوري والقوات الحليفة في مواجهة بطولية مع التكفيريين في محافظة دير الزور في 23 أيار الجاري.
ليس من الحكمة هنا أن نخوض في مقارنات عقيمة، كما يفعل البعض، بين ما قدمته روسيا من جهة، وما قدمته إيران أو حزب الله أو الفصائل الفلسطينية أو غيرها في حرب الدفاع عن سورية .
كما أنه ليس من الحكمة مقارنة ما قدمه الحلفاء مع ما قدمته سورية، شعباً ودولةً وجيشاً، لأن مثل تلك المقارنات لا طائل منها، فضلاً عن كونها تنطلق من فرضيات غير سليمة حول ضرورة تساوي ما تقدمه كل الأطراف في المجهود الحربي .
بينما الصحيح هو أن العطاء يفترض أن يتناسب مع درجة القرب والبعد من القضية التي تقتضي التضحية، حيث يقدم الأقرب منها تضحيةً أكبر مما يقدمه الأبعد عنها، جغرافياً وسياسياً، كما أن ما يُقدم في المجهود الحربي لا يُقاس دوماً بعدد الشهداء وتكاليف المشقة والموارد المالية وغير المالية .
فرُبَ فيتو روسي وصيني في مجلس الأمن، ورُبَ سلاحٍ نوعيٍ أو معلومات أمنية أو استشارة عسكرية توفر آلاف الشهداء في ساحات القتال، ولنا أن نتخيل لو اتخذ الروس والصينيون موقفاً مائعاً، كما حدث في العراق ويوغوسلافيا وليبيا، كم كان ذلك سيضيف من الخسائر البشرية والمادية في سورية، وكم كان سيرفع من تكلفة الانتصار…
فكلٌ له موقعه ودوره الذي يسهم عبره في المجهود الحربي في سورية، ولا يجوز أن نقلل من دور أي حليف ومساهمته، أو أن ننسى أن الأساس في حرب الدفاع عن سورية ، من الطبيعي أن يظل سورية ذاتها.
بعد تثبت هذه النقطة، وفقط بعد تثبيتها بوضوح وإصرار، نقطة التأكيد على أهمية التحالف مع روسيا والصين والدول المستقلة حول العالم في مواجهة التغول الإمبريالي، يمكن أن نضيف أن من ينطلق من التزام وطني أو قومي أو عقائدي أو أممي في حرب الدفاع عن سورية ليس، ولا يمكن أن يكون، كمن ينطلق من رؤيته لمصالحه المحددة كدولة لها تقاطعات وافتراقات مشروطة، زمانياً ومكانياً، مع مصالح الدولة السورية، والمنطق هو أن نشتغل على توسعة نقاط اللقاء وتضييق نقاط الافتراق مع مثل تلك الدول، لا العكس.
لأن الأساس في أي استراتيجية سياسية هو عزل العدو عن حلفائه، لا عزل أنفسنا بتصعيد أي خلافات مع حلفائنا، كما أن الحليف ليس نحن، ونحن لسنا الحليف، وهذا لا يجوز أن ننساه، وروسيا حليفنا وهي مخلصة في ذلك، ولكن هذا لا ينفي أنها أيضاً تنطلق من منطلق مصالحها، التي تتقاطع مع مصالحنا إلى حدٍ كبيرٍ، لكنها لا تتقاطع معها دوماً وأبداً، وهي لم تعاهدنا يوماً أن تقدم لنا حباً غير مشروط كما في الروايات الكلاسيكية وروائع الأفلام.
إن جوهر استراتيجية روسيا ولبها هو مواجهة النفوذ الأمريكي واحتواؤه وإحباط الاستراتيجية الأمريكية لتطويق روسيا وتفكيكها بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق، ومثل هذا الجوهر فيه مساحة تقاطع كبيرة مع سورية خصوصاً، والأمن القومي العربي عموماً، ولكن بعد ذلك قد تكون هناك حسابات روسية لا تتقاطع مع حساباتنا تماماً أو دوماً، مثلاً، روسيا قد تعد أن إقامة علاقات متينة مع عضو في حلف «ناتو» كتركيا، والتعاقد على بيعها منظومة «إس 400»، قد يبعد تركيا عن «ناتو»، وصولاً لإغلاق البحر الأسود على الحلف المناهض لروسيا، وتأمين عدم تحول تركيا إلى منصة لتصدير النفط والغاز المنافس لروسيا إلى أوروبا، أو على الأقل هذا هو الطموح الروسي الاستراتيجي، وقد سبق ذلك بيع منظومة «إس 300» لليونان، وهي عضو في حلف «ناتو» أيضاً منذ عام 1952.
من المنطلق ذاته، قد تعد روسيا أن تحسين العلاقات مع السعودية سوف يسهم في تعزيز وجودها في منطقة كانت تعد حكراً على الغرب إلى وقتٍ قريبٍ، فضلاً عن أهمية التنسيق مع السعودية والدول الخليجية في موضوع سعر النفط والغاز، ومن هنا تعاقدت لبيع منظومة «إس 400» للسعودية، وإذا كانت السعودية بحاجة لتشجيع على هذا الصعيد، فإن روسيا دخلت بالتوازي في حالة تفاوض على بيع تلك المنظومة لقطر ولإيران، والحصيلة هي خسارة صافية لا لمنظومة الباتريوت الأمريكية فحسب، بل للنفوذ الأمريكي في المنطقة .
وهي حسابات روسية قد تؤتي أكلها كلياً أو جزئياً، وقد نتفق معها جزئياً أو نخالفها، وقد تعجبنا أو لا تعجبنا، ولسنا مضطرين لتأييدها حيث لا توافقنا، لكنها حسابات دولة عظمى ذات مشروع محدد هو عزل الولايات المتحدة وصد خطرها على روسيا المحوطة بالصواريخ البالستية الأمريكية والمهددة بمشاريع الثورات الملونة كما في أوكرانيا وجورجيا، وبسلاح الإرهاب التكفيري كما في القوقاز، وهذا هو بيت القصيد.
وحتى في مسألة علاقاتها مع الكيان الصهيوني فإن روسيا تنطلق من حسابات براغماتية تتضمن مصالح اقتصادية إضافة إلى البعد السياسي من حيث إن روسيا تعتقد أن اللوبي اليهودي مدخل لها على النفوذ في الغرب، ناهيك عن أنها ليست لديها الحساسية نفسها التي نمتلكها إزاء موضوع التطبيع مع (إسرائيل) مع ملاحظة أنه سبق أن واجهنا احتكاكات حتى مع الاتحاد السوفييتي السابق بشأن الاعتراف بالكيان الصهيوني، فروسيا بالمحصلة تفكر بملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وهي تفكر بذلك كدولة عظمى.
وإذا كانت روسيا تسعى لتحقيق مصالحات وصفقات تعيد مناطق سيطرة العصابات المسلحة في درعا سلماً للدولة السورية من دون احتكاكات مع أي طرف خارجي فهذا لا يضير الدولة السورية، وفي المصلحة، فلتعد كل من درعا والقنيطرة إلى الدولة السورية عبر بوابة المصالحة، فمن قال إننا مغرمون بالقتال من أجل القتال؟ ولكن النقطة هي: بطريقة أو بأخرى ستعود كل المناطق إلى حضن الدولة السورية.