فيصل جلول
تبدو معركة الحديدة وكأنها حقا أمّ المعارك في الحرب التي يشنّها التحالف السعودي ــــــــ الأطلسي على اليمن، وذلك لأسباب كثيرة من بينها، أن ميناء المدينة هو مصدر الدخل الأساسي لأنصار الله ولما تبقى من أجهزة الدولة في أقصى الشمال اليمني، ولأنها تتيح لأنصار الله الأشراف على 300 كلم من الساحل اليمني وبالتالي التحكم بسلامة الملاحة في البحر الأحمر، وفي مضيق باب المندب، وفي مواجهة القواعد العسكرية الأميركية والفرنسية والتركية على الشاطئ المقابل من البحر. أضف إلى ذلك أن ميناء الحديدة يتحكم بوصول 70% من حاجات اليمنيين للغذاء والدواء وسائر مستلزمات الحياة اليومية الأخرى علماً أن اليمن يستورد 90% من حاجاته الضرورية من الخارج.
وتتمتع المدينة بأهمية استراتيجية حاسمة بالنسبة للطرفين. سقوطها يمكن أن يحرم أنصار الله من خطوط إمداداتهم ويدفعم إلى أقصى الشمال بعيداً عن البحر الأحمر، فيضطرون للقتال في المدن التي تقع تحت سيطرتهم وتمدهم بالمقاتلين والدعم، مثل ذمار والمحويت وحجة، وتبعد صواريخهم عن الملاحة الدولية وبخاصة بوارج الإمداد السعودية والإمارتية التي تنقل الجنود السودانيين ومعدات القتال.
ويمكن لسقوط الحديدة أن يزيد الضغوط الداخلية على أنصار الله، فيضعف نفوذهم في إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتهم. ولعل الخطر الأكبر يكمن في الحصار الغذائي الذي ستفرضه قوات التحالف السعودي على أقصى الشمال اليمني إذا ما تمكنت من السيطرة على المدينة. ويرجح في هذا الصدد أن يستخدم التجويع كسلاح في الحرب لإخضاع المقاتلين أو المؤسسات التي تعمل معهم. ومن غير المستبعد أن يؤدي الحصار الغذائي إلى هجرة قسرية واسعة وخطيرة، ناهيك عن أن سقوط المدينة سيكون التطور الأول من نوعه منذ سقوط المحافظات الجنوبية. فقد جرت محاولات للتقدم نحو صنعاء من جهة الجوف ومأرب ونهم وتعز دون جدوى، ولربما خلف سقوط الحديدة نتائج سلبية على جبهة تعز المستقرة تقريباً منذ انطلاق العدوان في العام 2015 .
بالمقابل يؤدي صمود الحديدة إلى فشل الهجوم الكبير الذي انطلق أول من أمس براً وبحراً وجواً وبالتالي توجيه ضربة كبيرة للطرف الآخر المصمم على حل الأزمة اليمنية بالوسائل العسكرية. وقد يتيح البحث عن حل سياسي للأزمة عبر تنازلات وتنازلات مضادة.
يبقى السيناريو الأسوأ في إطالة أمد هذه المعركة عبر حرب الاستنزاف وتحول القتال في الحديدة إلى ما يشبه القتال في تعز، الأمر الذي سيفضي بالضرورة إلى حرب مواقع وإلى تهجير عشرات الآلاف من السكان وزيادة خطر انتشار الأوبئة والمجاعة بين المدنيين. وفي هذه الحال سيكون من الصعب على المؤسسات الدولية أن تغطي بشاعات هذه الحرب القذرة إلى أمد طويل ولربما تحرم العدوان من التسامح مع وحشيته وارتكاباته الفظيعة بحق المدنيين.
ويبدو أن الدول الكبرى سواء المنخرطة في هذه الحرب بصورة غير مباشرة أو تلك البعيدة عنها، لا تبذل جهوداً تذكر لوقفها أو للتلويح بحلّ سياسي سلمي يؤدي إلى وضع حدّ لها. في هذا الوقت نرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدعو إلى ضبط النفس دون ممارسة ضغوط على السعودية والإمارات لوقف الهجوم على الحديدة. ولم يلغ ماكرون بعد المؤتمر الدولي الانساني لمساعدة اليمنيين في 27 حزيران/ يونيو الجاري، هذا المؤتمر الذي لم تدعى إليها السلطة اليمنية في صنعاء وارتأت باريس أن يكون برئاسة مشتركة مع المملكة العربية السعودية المسؤولة مبدئياً عن جرائم الحرب المذكورة.
والواضح أن الولايات المتحدة ليست متحمسة للمشاركة في هذه المعركة مباشرة، لكنها ليست متحمسة أيضاً لوقفها. وهي تكتفي بالحديث عن ضبط النفس على لسان وزير خارجيتها الذي حذر من التعرض للمدنيين في حين لا نسمع صوتاً روسياً عالياً ضد الهجوم ومن الصعب الرهان على كسر الصمت الصيني التقليدي في مثل هذه الحالات. أما بريطانيا المستعمرة السابقة لجنوب اليمن ولدول الخليج فإنها تتحدث عن معاناة المدنيين دون أن تضرب يدها على الطاولة وتأمر حلفاءها السعوديين والإماراتيين بالتخلي عن اجتياح المدينة.
تفيد المعطيات الواردة للتو أن التحالف السعودي مازال مصراً على قهر اليمنيين بالقوة العسكرية دون اكتراث بالكلفة البشرية التي يمكن أن تنجم عن هذا الهجوم. وإذا كانت معركة الحديدة غير مضمونة النتائج كما لاحظنا آنفاً وأن آثارها الانسانية ستكون شنيعة للغاية، فإنها تفصح عن مأزق سعودي إماراتي يزداد اتساعاً مع طول أمد الحرب التي شنّت لتكون قصيرة وخاطفة وتتيح وضع اليد الخليجية على اليمن، ليتبين من بعد أنها طويلة وصعبة ومكلفة ولا يمكن التحكم بنتائجها حتى في حالة استخدام سلاح المجاعة.
لقد صار التحالف السعودي الإماراتي أسير الحرب اليمنية لا يمكنه الخروج منها إلاّ منتصراً والنصر ليس مضموناً إن طال أو قصر أمد الحرب كما لاحظنا خلال السنوات الماضية ما يعني أن البلدين يحتاجان إلى مخرج دولي تفرضه واشنطن على الجميع.
كائناً ما كان مصير معركة الحديدة فإن تداعياتها ستطال مستقبل اليمن بالعمق، ذلك أن انتصار التحالف سيؤدي بالضرورة إلى رسم حدود إقليم “ازال” بواسطة المدافع على الأرض ووضع أنصار الله أمام الأمر الواقع: إمّا القبول بهذا الإقليم ومعه نظام الأقاليم الستة الذي أقرته القوى السياسية بإشراف سعودي قبل الحرب أو الخضوع لحصار طويل بلا حرب ولا رواتب ومجاعة مقننة إلى أجل غير مسمّى.
ولا مبالغة في هذا التقدير. فالأطراف اليمنية التي تقاتل مع التحالف السعودي متناقضة الأهداف والرهانات ويغلب الانتقام على دوافعها القتالية و بالتالي ولا يجمعها سوى العداء للحوثية. بالمقابل يمكن لانتصار الجيش اليمني واللجان الشعبية في هذه المعركة أن ينطوي على أمل جديد بإعادة توحيد اليمن بصيغة دولة اتحادية من إقليمين وبالتالي إنقاذ هذا البلد من التفتيت والضياع… نعم في الحديدة تدور أمّ المعارك اليمنية وفيها يرتسم مصير اليمن السياسي اليمني لعقود مقبلة.