ادريس هاني
لا زال هذا اللغز يحيّرني..لغز الإنسان، هذه الماهية المحاطة بكل ما هو غرائبي..لا زال التعريف غير محسوم: كائن لغوي، عاقل، سياسي، منطقي..لا شيء هنا يتحقق معه التعريف الجامع المانع بلغة المناطقة..كائن غامض..أو كائن كما عرّفته بالحرك من حيث تعدديته النّوعية، قبل للتخارج النوعي..وهو كذلك لأنه كاد ينتهك حقيقته لولا الخشية من القول بانقلاب الماهيات..لازلت حائرا حول رائعة اللاّوعي لهذا العجوز ذي المزاج المستبد: فرويد.هذا الذي فتح قارة التحليل النفسي من داخل تأمّلاته ليس على مرضاه فحسب بل على نفسه وحياته المليئة بالجدّية حدّ التّشاؤم.. الجرأة على تحليل فرويد قديمة وتتكرر..فيها ما هو جاد وفيها ما هو محض شقاوة..من باختين إلى إريك فروم وصولا إلى إحيائية جاك لكان..لا أعطي أهمية في ذلك لمشيل أونفري، فهو عندي يشبه علي حرب في العرب: ينتقد ليًعْرَف لا ليَعْرِف..مع فارق في الذخيرة..سقوط صنم فرويد لا ينفي صلابة فكرة اللاّوعي..
حكاية الوعي الخالص لم ترقني كثيرا..إنها تذكي فكرة النزول بالانسان الى كائن بلا وعي..أعتقد أن الحيوان هو كائن واعي لأنه منشغل بالحاضر بقوة..إنها حالة من السعادة التي يجب أن يتعلمها الانسان إن كان يريد أن يكون سعيدا..دع اللاّوعي يقوم بعمله، بما أنّ الانشغال بالماضي أو بالمستقبل من دون برنامج عبر-تاريخي هو شقاء..لنتذكر كلاسيكية. فران دي وال: “بونبوس، السعادة في أن تكون قردا”..نعم الحيوان هو وعي خالص لأنّ لا باطن له..لذا فهو ليس خطّاء..رغباته طبيعية وغير قلقة..ليس كائنا حرّا كالإنسان..هذا الأخير حرّ خطّاء ولكنه أيضا مسؤول عن أخطائه..
استعادة القول في الوعي ليس ثورة بمقدار ما هو محاولة على طريق دحض فكرة اللاّوعي التي شكلت منعطفا في الدراسات النفسية منذ ميلاد التحليل النفسي الفرويدي..ولكنها لازالت صامدة أمام هشاشة الفؤوس التي حاولت الإطاحة بالصنم..أنتظر بفارغ الصبر شيئا مقنعا بهذا الصدد..ما أكثر مبالغات فرويد، لكن ما أكثر فتوحاته النفسية..نقاده ليسوا جادّين مثله ولا أوفياء لأفكارهم كما هو..هو عاش لفكرة اللاّوعي وهم لم يعيشوا لفكرة الوعي إلاّ بمقدار ما كتبوه نقدا له..هو حوّلها إلى ديانة، وجعل من التحليل النفسي طائفة وهم لم يحولوا أفكارهم إلى أبعد من كونها معاقرة عابرة..شتّان إذن..ثمّة مراهق جرّب الحبو على طريق تاريخ الأفكار هو أقلّ شقاوة من ميشيل أنفري لكنه زعم أنه سينطلق من كل ما أهمله فرويد، وذلك في محاولة للحديث عن ثورة الوعي وأهميته..أعني فيليب بريسلي..من صعقة كهربائية خرج هذا الأخير ببرنامج متكامل من التأمل حول دور الوعي الشامل والوحيد في العلاج..كم أمتعنتني هذه المحاولة في بساطتها غير أنه لم يقنعني..بل أضحكني، لأنني تعرضت لصعقة كهربائية في سنّ مبكّر لم تجعلني مضطرا إلى كرسي الصابر لمدة أربعة سنوات..ومع ذلك لا زلت أنتظر مستوى أكبر من الاقناع بالانقلاب على اللاّوعي..في كثير من تفاصيل ما سطره يراع فيليب بريسلي كنت ألمح أطياف اللاّوعي..تستطيع أن تحلل عقدة هذا النوع من الكتابات من خلال التحليل الفرويدي نفسه..أقل استنتاج: الرغبة الجامحة في قتل الأب..
الحديث هنا ذو شجون، لكن ثمة سوء فهم كبير..اللاّوعي هو مخزون الوعي نفسه..فرويد نفسه لم يهمل تعريف الوعي لأنه بديهي، وهو اهتم بما ليس بديهيا في مدارس النفس ما قبل الفرويدية..لست هنا بصدد تتبع آثار ما سبق فرويد عند فرويد وما أكثره، لكنه النّسق المختلف، سارق إسمنت وآجر متفوق في بناء العمارة..لكن اللاّوعي هو وعي مخزّن، موارى، حجبته إرادة التجاوز، قوة الشخصية، مناوراتها، وعيها بمهامها، تأجيل النظر في الحدث..حياة كائن مفعمة بالحجب..إذا انجلت تلك الحجب حتما كان بصره حديدا، لكنه إذا أحاطت به دائرة السوء لم يعد مبصرا..ذاك هو اللاّوعي بكل بساطة..أي المؤثّر من وراء حجاب..الغائب/الحاضر..إنهم يتحدثون عن الوعي كما لو أنهم كًشفت لهم الحجب..كائن في محيط ظلماني..ذات تنسى وتتناسى لتتجاوز عقدا واعتقادات مؤلمة..مقدار الوعي بالحدث ضئيل، ولكن لا يعني أنّ الذّات تجاوزته، بل لا شيء يمرّ خارج حسابات اللاّوعي..هو اللاّوعي إذن أكثر وعيا من اللاّوعي..أن تكون وعيّا فقط هذا يعني أن تكون كائنا بلا أرشيف نفسي..أن تكون قردا لا يحسن التساؤل ولا الإضمار لكنه يستطيع أن يلتقط صورا كثيرة عن حاضر متصرّم بلا معنى بمهارة تفوق الإنسان..أن تكون من دون “لاوعي” أي أن تكون من دون باطن، من دون مخيال يختزن الصور وتراكيبها الممكنة، من دون تاريخ ومن دون مستقبل..أي أن تكون من دون لغة، من دون قدرة على التخارج النوعي، كائن استهلك وعيه في المحيط الضّيق لكنه غير واعي بمصيره الأنطولوجي..أن تكون من دون “لاوعي” أي أن تكون بلا وعي أصلا..ذلك لأنّ الوعي يستمدّ غذاءه اليومي من مخزون اللاّوعي الذي يراقبه ويتدخّل في اللحظات المناسبة..هو الاحتياطي الذي يطفو إلى السطح عند اللّزوم..بتعبير أوضح: ما اللاّوعي؟ إنه وعي غير متجاوز..ملح..مؤجّل..مقهور..غير عملي..هو في نهاية المطاف وعي في وضعية أخرى..وعي مع وقف التنفيذ..