ادريس هاني
كثر الحديث عن روح الأشياء حتى باتت موضة ارتقت إلى مصاف العناوين التي تدخل في فنّ الحجاج وتتوسّل بمغالطات الأيديولوجيا حين تفقد مشروعيتها المعرفية وتصبح جنوحا خالصا للتزييف..روح الأشياء تقليد في الفكر الغربي: روح القوانين كمثال يراد منها استخلاص المبادئ الأولى التي استند إليها ميلاد القوانين، فهو ناظر في المبادئ والمقاصد والغايات، وليس إنشاء لتكرار عرض الأشياء أو نقدها وفق رؤية أخرى تتوسّل بهذه الرّوحنة المقارباتية لإخفاء التّحيّزات الأيديولوجية الكامنة..قرأت روح الحداثة وروح الدين لطه عبد الرحمن وهو يصلح وجهة نظر في الحداثة ووجهة نظر في الدّين لا تبلغ الإمساك بروح اللاّهوت وفلسفته بالطموح الذي توحي به الروح وكذا في روح الحداثة التي تكمن هيدغيريا في نسيان الوجود إن رمنا نقد المحتوى أو قاصرة قصور العقل الأداتي إن رمنا نقد الآلية أو خيبة الأمل التناقضية بوصفها ميلاد الأنسنة وموت الإنسان في آن معا..لم نتّفق بعد عن القيمة العلمية لهذه الروحنة في مقاربة الأشياء..بين يدي كتاب لحمو النّقاري أسماه روح المنهج، كتاب بيداغوجي بلغة تنويعية يصلح مقررا أو مؤانسة بالدرس التقليدي المنهجي والمنطقي ذي طابع تعريفي ولكننا لسنا أمام المبادئ الأولى الملهمة لانتظام الصناعة المناهجية: هل يا ترى نقصد نحن هنا بروح الأشياء خلاصتها؟ هل كان مونتسكيو بصدد كتابة ملخّص عن القوانين؟ روح المنهج تقتضي الوقوف عند تمشكلات الخطاب المنهجي. هو كتاب تعريفي تقليدي للمنهج والإبستيمولوجيا والميتودولوجيا، تعريفا مدرسانيّا بلغة تتمثّل الكلف الطّاهي(=نسبة إلى طه عبد الرحمن)، لكنّ المقاربات التي تلامس روح الأشياء لا زالت لم تنبت في تربتنا..ذلك لأنّ الغالب على نزعتنا هو الخطاب الأيديولوجي في عنفه البدائي وخطاب التقليد في هوسه التّقمّصي..وتقليد كهذا لا يمنح صاحبه امتلاك النفاذ إلى روح الأشياء وزبدتها..
يعتبر النقد في مجالنا امتدادا للسياسة والحزبية بطريقة أخرى، فهو عنوان معركة استنفذت أغراضها في مجال الغلب السياسي واستمرت في ميدان المعرفة بأساليب حجاجية وتنكرية..بينما للعلم أصول وقواعد لا يكفي فيها الإداء..الكلّ يعلن الوفاء للمنهج وقواعد العلم ولكنها دعوى قلّما تمّ الإلتزام بها إلى نهاية المطاف..عناويننا كبيرة أكبر حتّى من المصادر الغربية الملهمة لها..أرى أنّ سوقنا حيث نعرض الكثير من بضائع التقليد قد أقنعت الزبائن بأصالتها..هذا ما تقوم به النخب وهي تقرّب السوق بتزوير الماركات التي لا تصمد أمام عوامل التعرية..هل النخب الفكرية هي نصيب قطاع المعرفة من بلاء المافيا؟ أليس لها دور آخر غير تحريف الوعي؟
من المهمّ أن نمنح الحقيقة مزيدا من الاهتمام والجهد والجدّية..فلتكن السياسة نابعة من روح التفكير والتأمل الفلسفي ولا يكون الفكر امتدادا للتّخندق السياسوي..معيار العلم يكمن في روح القوانين المنطقية وفي القدرة على ركوب المنهج والقدرة على التّرجّل ومبارحته ليس معانقة للوهم بل قبضا على الأنطولوجي..ولا زالت تماريننا تحبوا على طريق المبادئ الأولى لمناهج استخفت بوجودنا فركبناها ركوب الجمل في صحراء ممتدة بلا آفاق أنطولوجية..إنه الحنين إلى الوثنية وعبادة المنهج..إنّ روح الأشياء منقد من ضلال الوثنية المنهجية التي يسرت لنا بعضا من جوانب الفهم لكنها عطّلت الكثير من طرق الوصول إلى روح الأشياء..الأيديولوجيون، أي محترفي الزّيف والحجاج، عاجزون عن بلوغ روح الأشياء للأسباب المذكورة..لا يلتقي التقليد والحديث عن روح الأشياء..
عبادة المنهج حين تفقد شيئية الشيء تصبح شبحا..هياما خارج زبدة الأشياء وجوهرها..هروبا من منطقها المعلن إلى غواية أخرى آتية من بعيد..الروح هنا شبيهة بالأرواح الشريرة التي تحاول نشر الرعب والفزع في حرب نفسية تفقد المتلقّي أصالته وتجعله في حالة استسلام لتعاويد تنشلّ معها ملكة التفكّر..وهو تكتيك حجاجي مفرغ من روح الأشياء..
ادريس هاني: