الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / أوراق إيران في الحرب الجديدة

أوراق إيران في الحرب الجديدة

ادريس هاني

بعض من الفكر الجغرافي قد يسهّل رؤية الأشياء كما تدور اليوم في منطقة الشرق الأوسط والخليج الفارسي، ذلك لأنّ التّاريخ مهمّ حينما نقترب من تاريخ المكان نفسه أو المكان الذي تصنع فيه الحوادث التّاريخية..نحن اليوم لا زلنا نواجه استحقاق التحول في الجغرافيا السياسية التي أحدثتها الثورة الإيرانية، الاستحقاق الذي لا زالت أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما في المنطقة يرفضون الاعتراف به باعتباره ليس استثناء في تاريخ الثورات، ونقصد بذلك حينما اهتدت الولايات المتحدة الأمريكية منذ كارتر ثم وبفضل الاستشارات مع المستشرق برنار لويس الذي دخل بعد ذلك الخدمة كمستشار في البيت الأبيض وكذا في البانتاغون إلى تحريف وتعويض هذا الاستحقاق الجغرافي بفرض حصار تطييف الجغرافيا..في “الجغرافيا والثورة” التي ساهم ديفيد ليفينستون وتشارلز و.ج.ويزرز في تحريره نقف على هذه الحقيقة، أنّ هناك دائما مكانا لهذه الثورات، وبأنّ هذه الأخيرة من شأنها أن تحدث تحوّلا في المكان بتعبير آخر: هناك جغرافيا للثورة السياسية بقدر ما هناك جغرافيا من أجل الثورة السياسية..هذه الحقيقة العلمية ستلتف عليها لعبة الأمم لتختزلها في استحقاق طائفي منذ استعمل كارتر لأوّل مرة غداة انتصار هذه الثورة تعبيرات الحاجز الطائفي..لقد نزلت الثورة من السماء إلى الأرض: أقصد نزولها كمفهوم فلكي إلى الجغرافيا البشرية والطبيعية وهنا بدأت قصّتها التّاريخية..
كتب ديفيد كريست أفضل ما يمكن ان يكتبه باحث وخبير أمريكي يتعاطى الوثائق من مظانها حول طبيعة عقود من الصراع بين أمريكا وإيران، غير أنّه في نهاية المطاف تحدث عن جملة قد لا تكون لها تلك الأهمية القصوى لدى القارئ العابر، لكنها تلخّص في نظري الأزمة كلّها، يتعلق الأمر بتجاهل أمريكا لإيران ومكانتها الطبيعية، وبأنّ مشكلة إيران ثابتة في السياسة الخارجية الأمريكية…وبالنسبة لديفيد كريست فإن ايران بلد هام جدا على الصعيد الاستراتيجي بحيث لا يمكن تجاهله، وبأن أمريكا ساهمت في إدامة العداء واستخفت بالمظالم والمخاوف الأمنية الإيرانية، ويضرب مثالا فقط على ذلك :” إن منح ميدالية لقائد سفينة قتل (يقول ديفيد:عن غير قصد) 290 مدنيا ومن ثم التساؤل لماذا تكبت إيران في نفسها الاستياء والغيظ ما هو إلا المثال الأكثر وضوحا عن البلادة الأمريكية”…
لقد أجاب ديفيد إذن عن سؤال جورج بوش غداة غزو العراق: لماذا يكرهوننا..طيلة عقود من هذا الصراع تمّت محاولات كثيرة من الحروب القذرة إلى الحصار الذي قاومه الإيرانيون بمناورات اقتصادية وتجارية مذهلة..لكن ما الذي يحدث اليوم حين قرّر ترامب محاصرة إيران وهو ضرب من إعلان الحرب؟
يبدو أنّ الصراع بدأ يخرج من منطق الحرب الباردة، وذلك لأسباب تتعلّق بمسلسل الهزائم التي مني بها المشروع الأمريكي في المنطقة بمساندة إسرائيلية واضحة، وهي حرب وجود، لأنّ هذه الحرب إن وقعت فستكون آخر الحروب مع إسرائيل، وأمريكا نفسها تعطي إسرائيل هذه الفرصة لأنّها تدرك أن إسرائيل تواجه استحقاق جغرافيا الثورة، وليس أمامها سوى الحرب. تماهى ترامب مع حالة الإحباط الإسرائيلي وهو بصدد المغامرة بالرأسمال الجيوستراتيجي الذي حافظت عليه الولايات المتحدة الأمريكية وتعاملت معه بتقشّف بالغ لأنها تدرك خطورة المجازفة بالحرب على إيران. الأمريكيون في الإدارات السابقة كانوا يدركون أنّ خنق إيران اقتصاديا يعني إعلان الحرب، لكن ترامب اليوم هو في حالة مغامرة بالحرب..لا يقدّم ترامب أي ضمانات بخصوص مدى نجاح إقدامه على ما لم تستطيع أي إدارة الإقدام عليه..العناد الذي سيوقع أمريكا في هزيمة تفوق تلك التي منيت بها في فيتنام..لأنّ الإيراني أذكى بكثير من أن يسمح لنفسه بأن يتآكل بالحصار الاقتصادي ليقدم نفسه كهدف سهل للأمريكي والإسرائيلي..إنهم يجهلون حقائق الأنثربولوجيا السياسية للمنطقة، وكيف تتحرّك الجغرافيا من تحت الأقدام..إن فرض الحصار الاقتصادي على إيران على الرغم من أنه تهديد للأمن الاقتصادي والتجاري الدوليين، هو إعلان حرب يجعل إيران في حلّ من أمرها ويحررها من كل التزاماتها مع الأطراف الأوربية نفسها إن لم تنجح هذه الأخيرة في التعبير عن إرادتها ومقاومة العقوبات الأمريكية.
هذه الحرب إن وقعت سيكون ضحيتها الأوّل هم حلفاء أمريكا في الخليج الفارسي..لأنّهم منذ البداية ربطوا مصيرهم بمصير إسرائيل في المنطقة ولم يستندوا إلى حقائق الجغرافيا ومآلاتها..هم لا زالوا يتجاهلون أنّ أمام إيران خيارا مستحيلا بالمعايير الأيديولوجية للعبارة..أن تقبل هذه الأخيرة بالمفاوضات مع أمريكا ويسحبوا حربهم ضدّ إسرائيل، فالمطلب الأمريكي لم يكن هو إزالة إيران من الوجود بل هو الضغط عليها لتكون المحور الاستراتيجي لأمريكا في المنطقة..لو سايرت إيران خصومها الإقليميين في لعبة الثأر لأمكنها في جلسة واحدة أن تتولّى هذا القطيع السياسي في منطقة الخليج الفارسي وإعادته إلى بيت الطاعة الإيراني..وعلى كلّ حال فإنّ الحرب مع إيران ستنعكس مباشرة على دول الجوار..فأوراق إيران كثيرة، وحسب الأمريكي الذي واجه مقاومة تلغيم المياه فإن إيران حينئذ كانت قد وضعتهم أمام فيتنام جديدة لكن الإيرانيين أتقنوا تلغيم المياه..اليوم ينضاف إلى مضيق هرمز باب المندب وشطّ العرب كساحات مائية للحرب التي تتفوق فيها إيران..فالحرب على اليمن جاءت في سياق الهيمنة على باب المندب، وهو يفسر انخراط امريكا وإسرائيل في هذه الحرب..تمتلك إيران إمكانيات هائلة للتعبئة، فقد خاضت حربا كبرى بواسطة تعبئة الشباب في ظلّ حصار قاتل، فكيف وهي اليوم تمتلك سرّ الصناعة الحربية الثقيلة..فالحصار من شأنه أن يشدّ عصب المقاومة الإيرانية وتقوية الجبهة الداخلية وإطلاق العنان للإنتاجية الإيرانية نحو مزيد من الابتكار وتعزيز الاكتفاء الذّاتي مع مزيد من المناورات الاقتصادية نظرا لهشاشة التجارة الدولية..نستطيع القول بأنّ هذا القرار هو تعبير عن خيبة أمل بسبب الهزيمة التي واجهه المشروع الأمريكي-الاسرائيلي في المنطقة:في سوريا والعراق واليمن وفلسطين..التلويح بالحرب شكل من التشويش لتمرير صفقة القرن التي تعتبر إيران عائقا كبيرا تجاهها..تدرك أمريكا أنّ محاورها الإقليميين في حالة ضعف وهم لا يملكون سوى استنزاف مقدراتهم النفطية لتمويل مغامرات ترامب قبل أن يلتهمهم مثل الحلوى..ترامب يخضع المنطقة لنوع من الضغط للحصول على ما تبقى من احتياطي البترودولار قبل أن يحمل حقائبه ويهرب باتجاه آسيا، فالأمريكيون أكثر من يدرك أنّنا في الفصل الأخير من لعبة أمم كلاسيكية آن لها أن تتغيّر..
إنّ الحصار مجرد تكرار لتجربة فاشلة زادت الإيرانيين عبر عقود مزبدا من العناد في مواجهة المشروع الأمريكي والصهيوني الذي يتجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ..
ادريس هاني:7/7/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *