ادريس هاني
كان مقتضى الحرب الذّكية كما سنرى أكثر هو التّحكّم بالجماعات المتطرفة..نحن في العالم العربي والإسلامي سنفاجأ بالصورة المرعبة التي صوّرت بها الميديا الغربية الجماعات المتطرفة التي كانت تشكّل أقليات منزوعة من كل أسباب القوّة..لقد جمّعت المخابرات الأمريكية بتحالف مع المخابرات البريطانية وتعاون مع بعض الدول العربية هذا العدد الهائل من المقاتلين ثم ما كاد الجهاد الأفغاني ينهي مهمّته حتى بدأت تتولد تشكيلات أكثر عنفا إلى حدّ بدأ تنفيذ أعمال إرهابية في حق قادة الجهاد الأفغاني نفسه: اغتيال شاه مسعود، اغتيال ربّاني الخ..عزل الأفغان العرب ليشكلوا تحت عين الاستخبارات الدولية والإقليمية القاعدة اتي أصبح لها برنامج مختلف..تحدث عدد من الخبراء عن دور الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في ميلاد هذه الجماعات، وبعد سنوات ستعترف كلينتون بأنّهم ساهموا في صناعة تنظيم داعش..وفي حمأة هذه المعلومات بدأت تطفوا على السطح حكايات تبسيطية روّجت قصد الاستهلاك من قبيل أن أبا بكر البغدادي هو شخص يهودي ضابط في الموساد..لكن يبقى السؤال الأساسي: كيف ولماذا ساهمت القوة الناعمة والذكية في استعمال تناقضات المشهد العربي والإسلامي وغلبة الانفعال على طريقته في استيعاب الحدث؟
أمّا لماذا تمّ توظيف وقبل ذلك المساعدة على بروز هذه التنظيمات الإرهابية فهي كثيرة..واحدة منها تخدم مقاصد القوة الناعمة، أي تشويه صورة الإسلام والعرب في عين الرأي العام الدولي مقابل جاذبية الثقافة الأمريكية..جزء من سياسة الإسلاموفوبيا..ملايير الدولارات صرفت على تسليح هذه الجماعات لم تصرف على معاهد وجامعات العلوم والثقافة في ديار الإسلام..كانت المؤسسات الإسلامية التي تعنى بالخدمة الروحية والتعليمية لأغلبية المسلمين تعاني التقشف بينما مؤسسا التربية على التطرف كانت تعاني التخمة وتبني لها مراكز في عواصم أوربا وفي أمريكا..صورة مقابل صورة هو هدف القوة الناعمة..
لقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في تسهيل الطريق لبروز القاعدة..وأما عملية التحكم في هذه الجماعات فهي يقوم على آليات استخبارية خاصّة يصعب على الرأي العام الوقوف عليها..التحكم عن بعد وإزاحة كل العقبات من طريق تشكل هذه الجماعة مع الإيحاء الإعلامي والنفخ في خطورتها..عملية الاختراق كافية لمعرفة ما يفكر فيه قادتها..ما أسهل اختراق التنظيمات الإسلامية..لا أريد إعادة وضع السرديات التي تحدثت عن تفاصيل ذلك الاختراق..لكن وجب التذكير بأنّ عملية التحكم عن بعد ليست مضمونة مع اتساع رقعة التنظيم وتنامي فعالياته..فقدان السيطرة أمر متوقع دائما..أرى من خلال جملة القرائن أنّ أمريكا فقدت السيطرة على القاعدة أعني السيطرة الكاملة بينما احتفظت ببعض مستويات التحكم والاختراق..لم يحدث هذا قبل 11 سيتمبر بل بعده حينما أدركت هذه الجماعات بأنّ أمريكا اجتازت بهم طريقا معقّدا لشرعنة الحرب على أفغانستان والعراق..وحينما حاولت القاعدة بتعاون مع بعض الدول الإقليمية أن تعزز ساحة القتال في سوريا بتنظيم النصرة، كانت أمريكا أوّل من كشف عن أنّ النصرة هو الإسم الثاني للقاعدة في بلاد الشام فبدأ سوء الفهم الكبير بين أمريكا ومحاورها التي حاولت خداع أمريكا نفسها بإقحام النصرة في اللعبة داخل سوريا..عزفت كلينتون عن حضور مؤتمر أصدقاء سوريا بحجة وعكة صحّية ثم سرعان ما أعلنت واشنطن رسميا النصرة منظمة إرهابية..حدث ذلك لأنّ المحاور الإقليمية الراعية للنصرة حاولت تطبيع العلاقة مع النصرة في ذلك المؤتمر..أفشلت واشنطن وجود تنظيم مبفبرك خارج تحكّمها، وحينما أصرّت المحاور الإقليمية على إسناد النّصرة فوجؤوا بداعش التي دخلت في حرب شرسة ضد النصرة..لم يكن أبو بكر البغدادي خريج سجن بوكا معروفا..ولكنه عراقي مؤمن بفكر القاعدة متحمّس لم تسمح له كارزما الزرقاوي بأن يظهر داخل التنظيم..أخذ فكرة نظرية عن استعمال السلاح من بعض الضبّاط العسكريين في نظام صدام حسين..هناك تبنّى فكرة عرقنة تنظيم القاعدة ورفع مستوى القسوة ورؤية كاملة حول إدارة التوحش..إمكانات هائلة وطريق معبّد لظهور هذا التنظيم وتغلّبه على منافسيه جعل الرأي العام مندهشا من أسباب هذه القوة ومصدرها..أسئلة كثيرة طرحت يومها ولم تجد لها جوابا لكنها نسيت بالكامل واندثرت مع الأيّام..كلينتون اعترفت بدور أمريكا في ظهور هذه التنظيمات..داعش الأسطورة ستواجه ردّ فعل قاسي من قبل الحشد الشعبي في العراق تؤطره قيادات تنظيمات المقاومة في العراق وتحت إشراف المرجعية..لعبت إيران عبر مبعوث قائد الثورة الحاج قاسم سليماني دورا محوريّا في هذه الحرب..في سوريا واصل الجيش العربي السوري مدعوما بقوات شعبية والمقاومة اللبنانية لسحق داعش وسائر التنظيمات المتطرفة..تم اكتشاف هشاشة هذا التنظيم الذي كان يرعى على الإمدادات..لقد استطاع محور المقاومة أن يحاصر هذا التنظيم وهو ما اعتبر ضربة للسياسة الأمريكية..كلّما تقدمت المقاومة ناحية المواقع المتقدمة لداعش لوّحت واشنطن بالتدخل تحت ذريعة ما..
كان أبو بكر البغدادي شخصا غير معروف حالت دون بروزه كاريزما الزرقاوي، ولهذا السبب راهنت عليه أمريكا حين أطلقت سراحه من دون شروط وتتبعته لمعرفتها المسبقة بحماسه وحبّه للزعامة وغبائه..كان شخصا بسيطا و”محكورا” بتعبير مغاربي..كان ذلك هو وضعه داخل الزنزانة..خرج وسنكتشف أن الأمن العراقي حتى قبيل غزو الموصل لم يكن يحتفظ له بملف خاص..سأفاجأ شخصيا حين كنا نتعاون على دراسة هذا الموضوع مع بعض الباحثين في العراق..بالنسبة لي أدركت أنّ السبب هو كونه نكرة إذ لم يوضع في جناح العناصر المتطرفة الخطيرة..خرج في صمت وعملت أمريكا على أن تكتشف بحكم خبرتها الطويلة في صناعة القادة الأعماق الأكثر توحّشا في شخصية هذا السجين الغامض..لقد كان غياب ملف خاص عن أبي بكر البغدادي في الدوائر الأمنية شيئا مقصودا..لم يكن البغدادي لا ضابطا في الموساد ولا يهوديا بل هو عراقي قحّ تدرج في الدراسات الإسلامية وكل ما قدمه من بحوث ودراسات هو بين أيدينا..كما أنّ أقاربه ووالدته التي كانت رهن الإقامة الجبرية تؤكّد على جذوره العراقية..وإذن هي ذاتها حكاية صناعة القيادة البديلة من الهوامش المجهولة ومن الشخصيات الغامضة..وهكذا نستطيع فهم هذا العنف المفرط والغبيّ واللاّمسؤول والذي لا يمكن أن يصدر إلا من شخصية جبانة وضعيفة جدّا وغير سويّة، رأى فيها الأمريكان الشخصية النموذجية لتنفيذ ملحمة التوحش في المنطقة، عنف عادة ما يعرض بجمالية الصورة الهوليودية وتقنياتها العالية الجودة..إنّ هؤلاء القادة الذين تعاونوا مع واشنطن يوضع في أعناقهم جهاز يعمل بنظام جي بي إس – قلت: في أعناقهم، مجازا – لتصفيتهم في الوقت المناسب..القضية التي تمت مع ابن لادن ومع الزرقاوي ومع البغدادي الذي لا نستبعد أنه قضى هو أيضا بذات الطريقة..إنّ التحكم بهذه التنظيمات يتمّ بالإيحاء والاختراق وقراءة أفكار القادة وتيسير الطريق لكي يبلغوا ما يفكرون فيه وهو ذاته ما تفكر به الدوائر التي تتحكم بهم..غباء واستحمار التنظيمات التكفيرية التي تنتهي بالانتحار..هذا لا يعني عدم وجود متعاملين بالمباشر من النخب السياسية مع هذه القوى..إن عملية التحكم تستعمل فيها أساليب متنوعة مباشرة وغير مباشرة مع اتخاذ جميع أشكال الحذر إزاء خطر خروج هذه التنظيمات عن السيطرة..التقى السيناتور جان ماكين – وهو محارب جريح نجا بأعجوبة من حرب فيتنام – مع سائر قوى التطرف عشية ما كان يسمى الربيع العربي بما فيها صورة متداولة مع المدعو البغدادي..لا يعني التحكم أن نتفق على مخطط ما بل عن تعاون مع الإقناع بأن الطرفين لهما ذات المصالح المشتركة..
كانت الحرب عن طريق الجماعات المسلّحة هدفا من أهداف القوة الناعمة التي جعلت من مخطط الفوضى الخلاّقة أفضل وسيلة لتحقيق الأهداف الأمريكي من دون حرب مباشرة..وهي عملية التوظيف الكبرى التي كشفت عن الأنياب الخفية للقوة الناعمة..ذاتها القوّة الناعمة التي مكّنت لقيام إدارة التوحش ونشأة أكثر التنظيمات شراسة في المنطقة…يتبع
ادريس هاني: