ادريس هاني
ودائما كما يختار المخرج أبطاله فإنّ السياسات في الولايات المتحدة الأمريكية هي من يأتي بالرؤساء وليس العكس..كلكم يتذكّر الصورة التي التقطها مايكل مولنر الصحفي من نيويورك تايمز بواسطة آلة تصوير بعيدة المدى للرئيس أوباما وهو يحمل بين يديه كتاب “عالم ما بعد نهاية أمريكا” للمحرر الهندي الأصل في النيوزويك فريد رفيق زكريا..لقد كان هذا الهاجس حاضرا داخل الولايات المتحدة الأمريكية حيث كثر النذير بنهاية الأمبراطورية..حتى الآن لا زالت آثار القوة الصلبة تحول دون إدراك معنى تفكك الدولة العظمى..ولدفع هذا التهويل لا بدّ من أن أشير إلى أنّه ليس هناك أي داعي للغرابةـ فقد تتفكّك الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي ستبقى فيه دولة مثل الصومال وجيبوتي على الخريطة..منطق تفكّك الإمبراطوريات مختلف تماما، وهو لا يعني الانمحاء من الخريطة وإنما الانكماش إلى حدود الدولة الطبيعية..وهو أمر سنتحدّث عنه بعد حين..كان لا بدّ أن يظهر المخرج مدى القدرة على الإقناع بأن أمريكا التي جعلها العهد البوشي تغرق في مستنقع كراهية الشعوب هي أمريكا نفسها التي تملك كل إمكانية التغيير وتمنح كل الأمل للعالم..هو “أمل من أبي” عنوان كتاب لأويباما نفسه يروي فصولا من سيرته لرئيس شخّص دور القوة الناعمة..هو نفسه الرئيس المنحدر من السّود الذين كانوا ولا زالوا هم من حقق انتصارات على الآبرتهايد الأمريكي بفضل القوة الناعمة نفسها بفضل البلوز والجاز..بفضل الفن والرياضة والقضاء..يدرك المخرج الأمريكي أنّ أفضل طريقة لمخاطبة الشّرق لا سيما الشرق المسلم أن تصدم حاملي الصورة النمطية عن أمريكا بعمل مسرحي جديد من نوعه..فلا بدّ من تذكّر حادثة الرهائن في إيران غداة الثورة..لقد تعاطف الإيرانيون الثّوار مع الرهائن السود وأطلقوا سراحهم..فهل يا ترى ستليّن إيران من موقفها حيال بيت أبيض يقوده رئيس أسود؟ كانت واشنطن تدرك تماما أي دور قدمته إيران في سبيل إحباط القوة الصلبة..لقد قامت إيران فضلا عن تدابير إقشال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرح في سياق محاولات بيريز ممثل القوة الناعمة في إسرائيل ثم سيتحول تحت ضغط برنار لويس فكريا وبوش وفريقه الذي نشطت فيه كوندوليزا رايس ليصبح مشروع الشرق الأوسط الجديد مشروعا للقوة الصلبة، أقول، فضلا عن تلك التدابير التي قامت بها إيران على المستوى العسكري والسياسي هناك شيء مهمّ قامت به إيران على مستوى مواجهة حالة كيّ الوعي التي استعملتها القوة الصلبة..ففي لحظات تراجعت فيه إمكانيات كبرى الدول في رفد شعوب المنطقة بزخم روحي للتحدّي، كانت إيران وحدها التي واصلت شعار:(مرگ بر آمريكا)..لقد أدركت واشنطن دور إيران في تحويل غزو العراق إلى مستنقع حين ساعدت من يشاركونها القناعات ذاتها داخل العراق في إعلان الحرب على الاحتلال..باتت أمريكا تطلب يومئذ شيئا واحدا هو كيف تحمي ظهرها يوم إعلان انسحاب الجنود الأمريكيين رسميا من العراق..إنها إيران المتعاطفة مع المستضعفين السود الأمريكان، فكان لا بدّ من أن تسبق أوباما براباغاندا من نوع آخر: أوباما الأسود..أوباما ابن حسين..حسين وما يحمله من دلالة في الإسلام الشيعي..وتتعزز الحكاية مع الرسالة التي تفيض مديحا كقصيدة شعر وجهها أوباما للشعب الإيراني بمناسبة عيد النوروز..سيخطب أوباما في تركيا والقاهرة..من قلب هذا الشّرق وسيعترف أوباما المثقّف بدور الحضارة الفارسية وأهمية الإسلام..وتبددت الكراهية بطقّة حنك زفتها الرئاسة الأمريكية برسم القوة النّاعمة وعضّ الطيبون على الطعم بالنواجد..ولكي تنجز القوة الناعمة مهمتها وتخرج أمريكا المنهكة بتكاليف القوة الصلبة من وضعيتها الكارثية كان لا بدّ من الرهان على رجل مثقّف يقرأ بخلاف بوش وترامب اللّذان لا يقرآن..فالقوة الناعمة تتطلّب لياقة ثقافية لأنها تقوم على استثمار الثقافة والتاريخ والإبداع والصورة النمطية المقنعة في عملية الجذب..لم يكن العالم العربي والإسلامي يدرك معنى أن تتخلّى الولايات المتحدة الأمريكية عن سياسة التدخل واستعمال القوة العسكرية..لقد فهموا منه أنّ أمريكا ستتخلّى عن التدخل..بينما حرص أوباما على التأكيد مرارا بأنه انتهى زمن التدخّل..فهو إذن وكما يدل عنوان الكتاب الذي التقط في يده يمهد لما بعد أمريكا كقطب فريد..مجرد ممهد في مرحلة انتقالية..ولكي لا يكون هذا الانتقال كارثيا..وكما قلت سابقا فإن تفكك الإمبراطورية أمر لا يدعو للغرابة..تستطيع الدول أن تعيش بأغلبية تحت خطّ الفقر لكن في أمريكا هذا يعني التفكك، وبالتالي لا بدّ من استمرار العوامل الإمبريالية القمينة بحماية الأمبراطورية من الإفلاس..لقد مسّت وأثقلت القوة الصلبة الجسد الاقتصادي والمالي الأمريكي، وهذا لا يطاق، لا سيما وأن القوة الصلبة لم تستطع أن تفرض الخراج على الدول التي أطاحت بها أمريكا، الحسرة التي سيبوح بها ترامب جهارا حين قال بأنّ علينا وضع اليد على نفط العراق وعلى الدول التي تدخل في الحماية الأمريكية أن تدفع فاتورة هذا الدور..كانت أمريكا قد اهتدت إلى إعادة إخراج مشروع الشرق الأوسط الجديد بأسلوب القوة الناعمة..وبدأت حكاية التغيير هذه المرة بطرق ناعمة..ثورات شعبية تعتمد عناصر القوة الناعمة وقوة المجتمع المدني وتقنيات التواصل الاجتماعي التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على أهم شبكاتها..قال أوباما سنكون إلى صفّ الشعوب العربية إذا هي طالبت بالحرية..بعد فترة وجيزة بدأ الربيع العربي..بدأ فصله الأوّل في إيران فتمّ إحباطه..استعملت خلايا وبقايا أيديولوجيا حوار الحضارات في هذا الخداع، رفضوا قرار الشعب في الانتخابات، سيطرت إيران على الموقف وانتهى الربيع الإيراني ليستيقظ في فصله الثاني في المنطقة العربية الهشّة..كانت حرب أوباما غير المباشرة على العالم الإسلامي تعتمد القوة الذكية..وحينما فشلت محاولة الهيمنة بثورات يستغلّ فيها الإحباط والتهميش الذي ساهمت فيه الإمبريالية نفسها في الشروط الاقتصادية العالمية ووضعية دول الجنوب والعالم الثالث في الاقتصاد والثروة العالمية والأنماط المفروضة أمبرياليا على الإنتاج والتوزيع، حاولت واشنطن أن تحيط الثورات الملوّنة بمنسوب من القوة الصلبة للإرهاب حيث عسكرت الثورات وساهمت في تشكّل منظمات العنف والتطرف والتكفير باعتبار أنّ الحروب الطائفية في العالم الإسلامي هي جزء من تطبيق القوة الناعمة ضد الخصوم..لا تنسوا دور برنار لويس العارف بالمعضلة الطائفية في العالم الإسلامي..مرة أخرى عضّ البلهى في العالم العربي على الطعم وانساقوا خلف حروب طائفية طاحنة نسجت عناوينها في مختبرات القوة النّاعمة..وسوف تعترف كلينتون في مذكراتها عن دور أمريكا في صناعة جماعة التطرف وداعش..لقد اضطر المخرج في نهاية فشل القوة الناعمة واستعجال مردودية التدخل أن يحدث تعديلا في هذه السياسة..لقد حاولوا أن يجعلوا من نموذج الربيع العربي صيفا عربيا حاميّا..أخرجوه من نموذج جين شارب إلى نموذج كوكلوكس كلان (Ku Klux Klan) إسلامي..مرّة أخرى يطلّ برنار لويس من جديد..في بنية هذا المشرق تكمن عوامل شتّى قابلة للتوظيف..ستحاول القوة الذكية تسخير نقائض الملل والنحل في ديار الإسلام كعوامل تخريب ذاتي..سيتحوّل كلّ شيء إلى عامل انتحار وتدمير ذاتي: النّفط، ذاكرة الهزيمة، الموروث الوهّابي..حرب طاحنة بالوكالة لكن وفق خطّة ستمهّد لمجيء ترامب القبيج، بعد دوري الشّرير والطّيب….يتبع