ادريس هاني
لا زالت فكرة نهاية أمريكا تهيمن على المزاج الأمريكي، إنهم يعيشون عبئ الحاضر وقلق المستقبل..ضريبة التفوق وفائض القوة القابل للنفاذ..ستكون نهاية أمريكا ليس بسبب قوى أخرى غير تناقضاتها العارمة..ستكون ضحية هذا الذهان اللامنتهي للتفوق..هل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تقبل بقدر الانكماش إلى دولة عادية بدل الأمبراطورية؟..سيقرأ الأمريكيون الذين يكرهون التّاريخ أنّ أمبراطوريات كبرى تفككت في التّاريخ واستمرت لكن ماذا عن تفكك أمريكا؟..أما أوباما فقد نصح جمهوره بقراءة كتاب: “عالم ما بعد أمريكا” لفريد زكريا..كأننا أمام كيان يقاوم حتمية التفكك..لسنا اليوم أمام نهاية التاريخ على عتبة الأمركة الشاملة للعالم كما قال ذو الأصول اليابانية(فرنسيس فوكوياما)بل سنكون أمام نهاية أمريكا على عتبة عالم متعدد البدائل كما قال ذو الأصول الهندية(فريد زكريا).. لسنا أمام أمريكا بعد نهاية العالم بل أمام عالم بعد نهاية أمريكا..هل نحن أمام موعد للهروب إلى الأمام؟ لنستمع إلى فريد زكريا يصف مآلات الأمور..لنستمع ما كان أوباما يقرأ وهو يحاول أن ينقذ الوضع بواسطة القوة الناعمة..أمريكا لم تعد قادرة على تنفيذ مشاريعها ولا حتى الحفاظ على نفسها من دون قوة ناعمة..يقرأ أوباما كتاب فريد زكريا لسبب بسيط هو أنّ الكتاب جاء ليكشف عن التحدّي الذي تواجهه حكومة أوباما والعالم الجديد الذي سيكون هذا الأخير مجبرا على التعامل مع منعطفاته الوعرة..إنه بمثابة تقرير لحكومة أوباما..العالم الذي سيواجهه أوباما حسب فريد زكريا هو عالم مسكون بالمشاكل والفوضى وقليل من الأجوبة السهلة..فانتخاب أوباما في نظر الكاتب نفسه قد أصاب المجموعة الإرهابية بالذهول لأنه منحدر من أب مسلم، فهو يرمز إلى الأمل ويهدد أيديولوجيا القاعدة القائمة على الحقد..ينطلق فريد من الأزمة المالية التي تزامنت مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض..انهيار كامل اختفى معه البنك الاستثماري وخسر الاقتصاد العالمي 40 تريليون من قيمة الأسهم..يؤكد الكاتب ابتداء بأن لكل عصر ذهبي نهاية..وبأنه كلما كان العصر أكثر توهّجا كانت النهاية أكثر اشتعالا..ثم يتساءل بعد سرد مظاهر الانهيار الاقتصادي الذي جعله مؤشّرا على سقوط الإمبراطورية بأن سبب هذا الانهيار هو مفارقة..إن سببه هو نفسه النجاح..في نظر الكاتب تبدو العلاقات الدولية مثل حيوان صعب الترويض..لكنه أيضا يصوّر الاقتصاد العالمي كسيارة سباق فارهة تسوقها 127 دولة..كمن يسوق سيارة سباق لأول مرة..هناك تحولات اقتصادية في العالم جعلت أمريكا نوعا ما خارج نطاق التحكم..صحيح أنها استطاعت أن تصل إلى مجالات كانت تحت النفوذ السوفياتي لكن ذلك كلفها إنفاقا كبيرا على القواعد وفي حالات كثيرة تم الاستغناء عن الولايات المتحدة الأمريكية أو الاستقلال عنها في القرار حتى من قبل حلفائها..يضرب فريد مثالا عن علاقة الهند بإيران ويعتبر أن نظرة الهند إلى إيران مختلفة تماما عن نظرة الأمريكيين، فالهند تعتبر إيران شريكا تجاريا ولا تراها تهديدا وهي ترفض عزلها..
نهاية القوة الأمريكية ليس أمرا له علاقة بالتّمنّي أو الحقد أو القراءات المستعجلة بل هو حتمية لدورات القوة في التّاريخ، وهنا سنجد فريد زكريا يتمثّل هذه الرؤية بناء على فكرة قيام وسقوط القوى والتحول الذي تعرفه الأمم في التاريخ..وهو لهذا السبب يتحدث عن ثلاثة تحولات في مسار القوة العالمية، أحسبه يتحدث عن التحولات في مسار القوة الغربية في العصر الحديث..التحول الأول يمكن أن نعبّر عنه بميلاد الحداثة في مجال الثورة الزراعية والصناعية وبروز الغرب كقوة مهيمنة على العالم وذلك منذ القرن 15 إلى القرن التاسع عشر حيث سيشهد العالم تحولا آخر مع بروز أمريكا كأعظم قوة منذ الأمبراطورية الرومانية..بينما يشير فريد زكريا إلى أننا نعيش اليوم مرحلة تحول ثالثة أطلق عليها : نهوض البقية..وهو هنا يعني عالم متعدد الأقطاب..انتقال القوة إلى دول أخرى بل إلى منظمات وأفراد..لا شك أن القوة العسكرية والسياسية لا زالت في يد أمريكا في نظر الكاتب لكن باقي أشكال القوة الاقتصادية والمالية وغيرها توزعت عبر العالم..إن عالم ما بعد أمريكا ليس بالضرورة ضدّ أمريكا بل هو نمط آخر من الإدارة تشارك فيه قوى كثيرة..استهجن الكاتب مظاهر الإشاعات التي ازدهرت في أمريكا لا سيما النفخ إعلاميا في قوة القاعدة التي لم تستطع أن تنفّذ أي ضربة جديدة في حجم 11 سبتمبر، كما تحدث عن المبالغات التي المتعلقة بأسلمة أوربا، واستهجن بعض ما كتب برنار لويس، معتبرا المتعصبين في العالم الإسلامي أقلية وهم مستهجنون من قبل المجتمع الإسلامي..يؤكد الكاتب أيضا على مفارقة الهدوء الذي يميز العالم على الرغم من الحروب..يرجع ذلك إلى تفوق الاقتصاد على السياسة..تزامن بين النمو الاقتصادي والاضطراب السياسي..المشكلة اليوم في نظر الكاتب تكمن في التدبير الحكومي وطغيان جماعات الضغط والمصالح الخاصة والصحافة الفضائحية على عمل الحكومة..اهتمامات غير مثمرة..يضرب مثالا ببريطانيا كيف استطاعت أن تحافظ على حضورها السياسي العالمي حتى وهي تتراجع كقوة اقتصادية رائدة..بالنسبة لأمريكا في نظر الكاتب تملك أن تكيف نفسها مع التحولات الجديدة، غير أن التحدي هنا تتحمله واشنطن وليس أمريكا أي السياسة التي يجب اتباعها..فهل يا ترى تستطيع أمريكا التكيف مع العالم الجديد..هل تستطيع حسب تساؤل الكاتب ان تقبل بعالم متعدد الآراء..ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع أمريكا تحقيق ازدهار في عالم لا تسيطر عليه؟
على أمريكا إذن أن تتكيف مع العالم القادم..عالم لن تبقى مسيطرة عليه..لكن الكاتب يرسم جزء من خارطة الطريق..فنهضة البقية تتطلب زمنا طويلا وبطيئا وهو ما يضمن حسب الكاتب لأمريكا النهوض بدور جوهري..قد يكون مناسبا أن تلعب أمريكا في العالم الجديد دور بيسمارك كسمسار في أوربا، وذلك من خلال نسج علاقات متينة مع كل الأقطاب لا سيما تلك التي ينظر بعضها إلى بعض بعين التنافس والقلق..على أمريكا أن تدرك أولوياتها، فالكاتب يؤكد على أن القوة الفائقة لأمريكا ومحاولة امتلاك كلّ شيء جعلتها تعتقد بأنها معفية من الحاجة إلى امتلاك أولويات..
سجل الكاتب أخطاء الإدارة الأمريكية في إدارة ملف الإرهاب والانتشار النووي وكان أكثر ميلا لاتباع مثال بيسمارك القاضي بنسج علاقات مع جميع القوى خلافا للنموذج البريطاني..واعتبر أن أفضل طريقة هي استثمار الفوارق الموجودة وعدم وضعها في سلة واحدة لكي لا نعيد سيناريو نشوء الحرب الباردة..كان أحرى أن تستثمر أمريكا العداوة بين ستالين وماو..كما تعين استعمال الخصومة بين الشيعة والسنة في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط والخليج..
سنجد هنا إعادة إخراج الرؤية ذاتها التي تقتضيها القوة الناعمة، لكن الجديد هنا هو كيف تتقبل أمريكا العيش بتفوق لكن في عالم لا تستطيع السيطرة عليه..حاول أوباما أن يحقق هذا الأمل لأنه كان معنيّا بتحدّي تأمين المرحلة الانتقالية بأضرار أقلّ، وهو إذ أعرب عن كثير من المواقف التي لفتت انتباه العالم بنعومتها لم يكن يفعل أكثر من تنفيذ خريطة الطريق تلك…يتبع
ادريس هاني: