ادريس هاني
الحل في العراق لا يتحقق بعبارة “مو شغلي بالعالم”، مصير الدول ومصلحتها أيضا تتوقف على مدى قدرتها على التموضع في الخريطة الجيوبوليتكية..لكي يتم بناء الدولة العراقية لا بدّ من التفكير بحتمية الجغرافيا السياسية..عملية التجاهل والنسيان تلك هي عين الأزمة التي تجعل الحلّ يدور مدار الماء والكهرباء، هذه قضية لا علاقة لها بالموقف الجيوبوليتيكي الذي يجعل العراق في وضعية كفاح..إنّ من يعتقد أن الدولة هي معطى سهل في بيئة إقليمية مستهدفة إمبرياليا ويتمّ فيها تدبير الأزمة بالإستعارات اللغوية هو واهم وخارج التغطية بكل المقاييس..كل أشكال الفساد النابع من غياب الدولة الحقيقية يمكن تجاوزه حين يرقى الفعل التحرري إلى مستوى المطلب الثوري بدولة الحق والقانون..الدولة التي تتحكم في إدارة نفسها هي دولة السيادة التي تملك قرار بناء الدولة..وقرار بناء الدولة هو قرار ضدّ-إمبريالي لأنّ الإمبريالية لن تسلم للعراق دولة بالمجان..هنا كيف يتم تدبير تحالفاتنا، كيف يتم تقييم موازين القوى، هنا الرؤية المستقبلية تفوق كلّ الحسابات الصغيرة..أمريكا لن تمنح العراق دولة ولا كلّ محاورها سيسمحون بذلك..السياسة والموقف هنا يتجاوز فعل الثّأر والاحتقان النفسي والحسابات العشائرية التي تتكرر على مستوى الأحزاب والتيارات..تعرّض العراق لكل أشكال استعمال القوّة: القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة الإرغامية..إنه حقل تجارب للإمبريالية جربت فيه كل خططها وكل أسلحتها..لقد بذلت في العراق تضحيات كثيرة غير أنها غالبا ما تهدر مثل فريق كرة يقدم جهدا كبيرا ولا يحقق أهدافا..لقد حشر العراق في لعبة أمم تقتضي حربا دائمة بينه وإيران وذلك هو مبتدأ الحرب العراقية -الإيرانية وسياسة الاحتواء المزدوج..وكان الشعب العراقي دائما يدفع الثمن..ثم ظهرت أهداف تلك الحرب وتم العمل على حرب جديدة كان لا بد من إيجاد مبرر لها..حرب تحدث عنها برجنسكي حين قال بأن التفكير اليوم – حصل ذلك والحرب العراقية – الايرانية في بدايتها – ضرورة التفكير في حرب جديدة في حالة ما انتهت هذه الحرب..واستمر المسلسل الذي جعل من العراق حقل ألغام كعنوان للتذكير بأنه دولة فاشلة..حتى صدام الذي غامر بحرب لا معنى لها اعترف بأنه دفع لتلك الحرب من قبل الأمريكيين، كما اعترف بأن دولا إقليمية كانت تحول دون إنجاز الصلح، فكيف يصبح الحديث بلغة تعود إلى الحرب العراقية – الإيرانية؟..إنها وضعية “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، فالاستقالة والحياد هنا مستحيل..لا بدّ هنا من تحالف، والتحالف مع الإمبريالية وذيولها لن يمنح العراق دولة..إنذ عراقا قويّا لن يتحقق في بيئة ر تتوفّر فيها عوامل التوازن والقوّة..
إنّ المسألة هنا تتعلّق بسيادة العراق، فهو لا زال مكافحا، ولن تكون كلفة الكفاح أكثر من كل سنوات تعرض فيها هذا الشعب للإبادة والإرهاب والاحتلال..استطاع الفيتناميون أن يديروا كفاحهم من خلال إدارة ثورية فيها الحد الأدنى من عدالة التوزيع..على الرغم من أنّ العراق يوجد في مجال جيو-سياسي يمنحه الكثير من الفرص لمكافحة سياسة الإرغام..ويبقى أمام قادة العراق الوعي بلحظتهم التّاريخية وهو أنّ العدوّ يستهدفهم جميعا وبأنّ العدو التاريخي الذي قاد العراق للهشاشة هي الإمبريالية ومحاورها..هل تعتقدون أنّ إسرائيل ستسمح بدولة عراقية قوية، وهل تعتقدون أنّ محاورها الإقليمية سيقبلون بذلك؟ انظروا ماذا قال ترامب عن العراق وعن نفط العراق؟ أي إهانة تلك بينما لا زال الصراع صغيرا في العراق؟ أعتقد أنّ المجال اليوم لا يتسع لتحميل الخراب لجهة ما في العراق إلاّ من تورط في التآمر على العراق وتسهيل المأمورية للإرهابيين..إنّ كمية الآدرينالين بلغت مداها في رؤوس قادة العملية السياسية في العراق ولا بدّ أن التهدئة الداخلية ورسم خريطة طريق جادّة..إنّ التنازل منهج في الداخل يمنح فرصة لعدم التنازل في الخارج..الدولة وتحديدا في العراق لن تكون منحة بل هي انتزاع ثوري يتطلّب مزيدا من الكفاح والاستقامة الأيديولوجية..إنّ غاية كل حرب هو بلوغ نقطة سياسية تكون محل انطلاق لرؤية تشاركية وبناء الدولة المستقلّة..الرؤية المستقبلية هنا ضروريّة على الأقل تحول دون السقوط في الأزمات الدورية التي تواجه دولة غير كاملة..لقد استطاع العدو أن يستنفر المحيط من حول العراق..لقد نجحوا في إذكاء الكراهية ضدّ العراق ووضعوه أمام حالة من الابتزاز..في كل الدول العربية هناك فساد، وطبيعي أن يكون هناك فساد في عراق لا زال يبحث عن مخرجات توافقية لعهد الاحتلال..إنّ الطائفية التي تحكم السياسات الإقليمية ضدّ العراق هي أخطر من الطائفية داخل العراق..
فشت الحرب بالوكالة واندحر الإرهاب، وسنكون أمام أشكال من التجريب لخلق توترات تستهدف وحدة العراق الاجتماعية، سنشهد ثورات كتلك التي حولت دولا إلى حالة الهشاشة المفتوحة على المجهول..ستتحرك المؤامرة باتجاه كردستان..لتعبث الإمبريالية وحلفاءها الرجعيين بكل الأوراق في العراق..ولا يمكن تقديم حلول تكتيكية لأزمات استراتيجية..العراق لا يمكن أن يكون حليفا لمن صبّ فوق رؤوس شعبه أطنانا من المتفجرات..سياسة العشيرة الدولية تختلف عن سياسة العشيرة المحلّية..التحالف مع القريب على أرضية مشتركة للكفاح من أجل بناء الدولة..ليس أمام العراق إلاّ ان يكافح من أجل دولته، ولا بد للكفاح أن يأخذ بعين الاعتبار معادلة الصراع التي يفرضها الموقع الجيو-بوليتيكي….
ادريس هاني: