ادريس هاني
قلنا أنّ الفرضية لا تنشأ من فراغ بل هي وليدة قلق يحوم حول تساؤلات محدّدة ترافق العقل وتجعله أكثر يقظة وأكثر استعدادا لالتقاط الحقيقة أو حتى تعزيز إرادة الاعتقاد..بل إن شئت فإنّ الفرضية تمر بأطوار قبل أن تطفو إلى السطح..فبدؤها يجري في مسارب اللاّوعي وينشأ من مصهر الآراء العميقة قبل أن يتفجر..فرضيات يعيها الانسان وأخرى في طور النشوء لا يعيها بعد..جماع التنسيق الباطني للأفكار مع التفاعل الواعي واللاّواعي مع حقائق المحيط ..فلكل فرضية سياقها الجغرافي والتّاريخي..فأمّا تلك الأفكار السابقة لأوانها فقد تبعث من جديد إذا وجدت لها شروطا حاضنة في مرحلة أخرى..وفي نهاية المطاف فإنّ الفرضية لا تتنزّل عموديّا على نحو الحقيقة بل هي نتيجة تطورعميق وتفاعل أفقي مع المحيط ثم ارتقاء من الشروط الدنيا لتعيد النزول في صورة عمودية: بضاعتكم ردّت إليكم أو بتعبير آخر أريد أن يستمرّ معنا كمفهوم فلسفي، أي نظم العالم نظما عقليا، وفي مثل هذه الحالة تسبق النتيجة البرهنة فتنزل الفرضية من النظام العقلي للأشياء مما يوحي بأنها تتنزّل عموديّا..ومن هنا فالفرضية ثابتة لكن إثباتها قد يتأخّر..ولك عبرة في فرضية بوانكريه التي مرّ عليها تقريبا قرن قبل أن تبرهن..ولكن عبرة أيضا في فرضية ريمان المرتبطة بدالة “زيتا” التي لم تحلّ بعد منذ ظهرت سنة 1859..ومن الفرضيات ما لا يبرهن لكنه صامد بقوة الثبوت وإن خانه الإثبات..فالخبرة المتواصلة هي منجم حيوي للفرضيات..بتعبير آخر ما أكثر فرضياتنا التي بها نحيا..
لم تكن فرضية دارويين من عنده بل لقد حمل تساؤلات آخرين معه في رحلته الإستكشافية التي تهيّأت له فيها الظروف الكاملة والمزاج الكامل لعصره أيضا..إنها فكرة إمبريالية داخل عالم الأنواع تجري في السياق ذاته للحملة البريطانية على مناطق كثيرة من العالم قصد حلّ معضلة الاكتظاظ والمجاعة والفقر وتحسين الحياة، أي بتعبير أدقّ كما سنرى: البرهنة على معضلة أو “كارثة مالتوس”..سنكتشف أن توزيع الجغرافيا السياسية يجري هنا مجرى إعادة توزيع الحياة على الأرض..إنّ الفكرة الرئيسية التي حاول جيمس مور توضيحها بخصوص الداروينية هو أنّ الدوافع ظلت ذاتها بالنسبة للجغرافيا السياسية والجغرافيا البيولوجية، ثمّة لغة واحدة ومعجم مشترك ذي نزعة إمبريالية بين ما يجري في الأنواع الطبيعية وما يجري في الجغرافيا السياسية..ذات الفكرة تحضر عند “والاس” وتحضر عند “داروين” بتأثير من الأول لكن سنرى كيف اكتسبت طابعا تخريبيا لا هوادة فيه عند دارويين بينما منحت فرصة للحرية والمقاومة عند فالاس إلى حدّ ما..أتساءل : هل للأمر صلة بوضعية داروين ابن الطبقة الأرستقراطية ووضعية ألفريد والاس ابن الطبقة الفقيرة؟..أليس هو والاس نفسه الذي نهج منهجية الإنصات للهجين والأصيل؟ ذلك ما اعتبرناه تأثيرا من المحيط والعوامل الموضوعية لانبثاق الفرضية..لكن السؤال الذي لم يطرح حتى الآن: لماذا تنتقل الفرضية من واضعها الأساسي ألفريد والاس الكادح إلى داروين الأرستقراطي المحظوظ؟ ليس فقط لأنّ الوضع الاجتماعي هو الذي يفرض سلطة الفرضية بل أيضا سيئ أساسي يقع هنا: الروح الداروينية التي أضفيت على فكرة الانتخاب الطبيعي باللغة التداولية ذاتها التي يدبّر بها المعنى في الجغرافيا السياسية..ألا يعني هذا أنّنا أمام تغليب التأويل المفرط في إبادة النوع وتعزيز عنصرية تصنيف الأنواع على التأويل الأقل عنصرية؟ ألا يعني أنّ الفرضية اختطفت وأنّها كان بإمكانها أن تأخذ بعدا يندرج في خدمة العلم من دون توظيف إمبريالي كارثي..أقول ذلك دفعا لمن قد يرى في نظرتنا محاولة لتبرير الجمود في العلم وقمع دور المغامرة، بلى، لقد اتخذت فكرة الانتخاب الطبيعي بعدا تأويليا أثّر على مجرى وظيفتها..لكن لنعد إلى جيمس مور حيث ما قاله عن داروين لا غبار عليه، ولقد رأيته يحسن تأويل ما بين النصوص لا سيما العبارات التي فرضت قوتها التداولية في أصل الأنواع وهي ذات جذور سياسية: الاحتلال، انقراض قبائل الأنواع لصالح قبائل جديدة، العالم الجديد، كانت أوربا لصيقة بأمريكا مما جعل هجرة الأنواع ممكنة، الهجرة في منظور داروين التي تعني التحول ونشأة الأنواع الجديرة بالبقاء بعد مقاومة الأصيل وحسن التكيف..لكن سأترك جيمس مور يتحدّث كمتخصص في التاريخ الطبيعي ذرء كما قلنا لتهمة نظرية المؤامرة..يؤكد مور على أنه لا فرق هنا بين الجغرافيا الحيوية التي أسسها داروين ووالاس وبين الجغرافية السياسية، فهما معا معنيان بدراسة توزيع الكائنات الحية وتسجيل النتائج على الخرائط ويزيد على ذلك بالقول وكلاهما قدم خدمات لسادة الأمبراطورية عبر التعريف بالأراضي المجهولة وعن طريق -الكلام لمور دائما – الإمبريالية الخضراء..لقد اهتمت الجغرافية الحيوية بدراسة الأماكن التي تعيش فيها الأنواع وكيفية الوصول إليها..التوزيع المكاني والزماني للحياة..لنقل هجرة الأنواع وتكيفها..سيكون الوضع له دلالة أيضا في عالم الإنسان نفسه إذا سلمنا بمقولة داروين بأن ما يجري على الفرد يجري على سائر الأنواع وليس النوع الواحد، وأكثر من ذلك، أنّ ما يحدث من عمليات اللّقاح الصناعي هو ذاته ما تفعله الطبيعة على المدى البعيد، وأكثر من ذلك أيضا أنّ عملية احتلال نوع لمكان نوع آخر هي عملية طبيعية..
حمل دارويين كتاب “تشارل لييل” حول مبادئ تاريخ الجيولوجيا وصعد على متن السفينة العسكرية(HMS Beagle) بقيادة القُبطان روبرت فيتزروي (Robert FitzRoy)..الأمر هنا في نظري يذكّرنا بالأنثربولوجيا في بدايتها داخل مؤسسة الاستعمار، هنا الأمر أخطر لأنه سيسعى لتغيير ذهنية الغازي وتحقيق المثال الاجتماعي والسياسي لحرب الأنواع…يتبع
ادريس هاني:2/9،2018