ادريس هاني
لخّصنا موقف جيمس مور كمؤرخ علم يزاول مهنته وفق معطيات التحليل العلمي وتأويل الموقف..وهو ما يجعلنا نقف على الصلة بين الجغرافيا الحيوية والجغرافيا السياسية..نبحث هنا علاقة النظرية بالأبعاد السياسية، بينما لسنا في وارد نقد النظرية من الناحية المعيارية..فقضية العلاقة السلالية بين الإنسان والقرد هي تفصيل صغير في نظري مقارنة بتداعيات الروح الداروينية التي هيمنت على العقل والأحاسيس والسلوك الغربي..إذا كان الغرب العلمي انقسم إلى مريد ورافض للنظرية المذكورة، فإنّ الغرب السياسي بات داروينيا بامتياز..ولن نفهم الغرب وفكرة الكيانات المصطنعة وإعادة توزيع النفوذ وتغيير الخرائط وتحطيم الحدود إذا نحن لم نستوعب الفلسفة الداروينية..هنا أحاول رصد شواهد لتعزيز فكرة قديمة راودتني وكتبت عنها قبل سنوات، أنظر مقالة في 1992 أثناء حديثي عن “مشكلة الحداثة وبؤس الإنتقاء :أزمة في أزمة” وهو مقال أعيد نشره في كتابي: العرب والغرب(توزيع دار الطليعة 1998)، كانت عبارتي كالتالي: “هذه المحطات التاريخية التي تكشف عن سيرورة الفكر الغربي ومراحل تكونه ومكوناته وحقول حركته وانتعاشه تسفر عن وجهه الأيديولوجي الذي هو وجه السيطرة..وعند الحديث عن أيديولوجيا السيطرة في أوربا لا نفصلها عن الاختيار المعرفي لها كما لا ننسبها إلى مطلق المعرفة الأوربية. ثمة جانب مهم من ثقافة أوربا استغل كأبشع ما يكون الاستغلال وأصبح أيديولوجيا للسيطرة الغربية وبنيتها الثقافية، إن الأمر يتعلق بإحدى أهم وأخطر النظريات التي اهتزت لها صروح الفكر الغربي، ألا وهي نظرية النشوء والارتقاء..فهذه الأخيرة سواء في شكلها الدارويني أو ما قبل الدارويني تبقى لها مساحتها في فهم الكثير من الظواهر الطبيعية والاجتماعية..إن البقاء للأقوى كما نؤكده قاعدة الانتخاب الطبيعي ضمن هذا المضمار قانون ثابت..بل وإنه في مجاله الإنساني- النفسي والاجتماعي – قانون يحرز نفس الثبوث مادام أن الانسان في حد ذاته (حسب داروين) مجرد قرد متطور ونتيجة من نتائج الانتخاب الطبيعي..وسوف نتأكد بأن نظرية النشوء والارتقاء الاجتماعي تحمل نفس المصاديق تلك التي تعرفها النظرية في حقل البيولوجيا(…) كانت نظرية النشوء والارتقاء وراء جملة من الظواهر في المجنمع الأوربي (…) إن تفكيك العقل الأوربي يحيلنا إلى فهم الظاهرة الإمبريالية في السياسة الغربية(…)”..الخ
لقد شرحت العلاقة بين البنية العقلية والسياسة الإمبريالية للغرب..إذا سلّمنا حقّا بوجود تلك البنية التي حرّر حولها ريجيس دوبريه كتابه: العقل السياسي الأوربي قبل أن يتقمّصها محمد عابد الجابري لينسج بها روايته عن العقل السياسي العربي..حينئذ وضعت حلاّ ثوريّا لإيقاف نزيف هذه النزعة التي بلغت ذروة الانغلاق..كيف نحرر الغرب من نزعته الإمبريالية..في تلك السنّة قلت بما يشبه العلاج: إنها المقاومة..اليوم أكتب عن المقاومة كعلاج من آثار أمراض الهزيمة المحلية لكن حينئذ تحدثت عنها كعلاج للعقل الغربي نفسه من مرض الإمبريالية وذهان التفوق.. قلت يومئذ:”ومقاومة مستميتة لكل محاولة إمبريالية لتركيع الإنتماءات الأخرى..لأن المقاومة والصمود يوقفان السوبرمان الغربي في مواصلة إلغائه للآخر..وحتى وإن كانت القوى غير متكافئة فإنّ مجرد الصمود يكفي ويؤنّب الضمير كما أنّب صمود السنطور ضمير ساتورنا، وهذا ما حصل مع ما انتزعه العالم الثالث المقاوم من اعترافات ومرافعات داخل العقل الأوربي تساند التعدد وحوار الحضارات”..
إنّ كتابي”العرب والغرب” الذي هو جماع ما كتبته عن نقد المركزية في الفكر الغربي ومشكلات النزعة التصنيفية في مجال التمركز وقضايا السيطرة على جغرافيا وزمان التنمية، هو وثيقة احتجاج على الإمبريالية في مضامير شتّى من المعرفة حتى السياسات..وهذا ما لم يكن يروق لمن يقرأ الغرب قراءة مجردة عن تلك النزعة الداروينية السياسية التي توظّف كل منجز علمي أو معرفي في إحكام السيطرة وصناعة الهامش والجوع لأنّ ما نراه اليوم من أشكال محاولات الهجرة من الجنوب إلى الشمال وهو على خلاف المنظور الدارويني هي محاولات مكلفة وتكاد تكون مستحيلة..فالمهاجر من الجنوب قدره أن يموت في قوارب الموت وإذا وصل فهذا ضرب من الانتخاب الطبيعي كرحلة الحيوانات المنوية التي غالبا لا يصل منها إلى تخصيب البويضة سوى حيوان واحد..لقد اعتبر رضوان السيد وهو من كتب تقديما لكتابي “العرب والغرب” يومها بأن كتابي تغلب عليه أحيانا فكرة الهوية على فكرة التقدم قائلا: “وقد قدم المؤلف إسهاما لافتا في هذا المجال، لكن تأثيرات تغير الإشكالية من التقدم إلى الهوية(أي الانكفاء على الذات بأساليب مختلفة) تحتاج إلى مزيد من الدراسة والنقاش”..ولا شكّ أنّ الإشكالية التي كانت تؤرقني أنذاك هي قضية النزعة الداروينية الإمبريالية في علاقة الشمال بالجنوب، وهي أبعد ما تكون عن نزعة الهوية بل هي ثورة على سياسات التصنيف..ثورة من أجل العالمية والمبادئ الأولى للتنوير القائمة على المساوات في الإنسانية والحق في العدالة والكونية..كنا ندرك أن العالم إن استمر على هذه النزعة سيوشك أن ينفجر..هل كان رضوان السيد مستشعرا يا ترى ما كنت أستشعره يومئذ؟ من ذلك الوقت غيّروا أراءهم ومواقفهم مائة وثمانين درجة، لكنني أستطيع أن أفتح ما كتبته منذ ثلاثة عقود بضمير مطمئّن وموقف مستقيم..كان أوّل منشور كتبته في مجلة حائطية: “تحدّي أمريكا”..مقالا طفوليّا، لكنه يحتوي على كلمة حقّ في زمن البلهارسيا السياسية..اليوم وفي الوقت الذي أصبحت أنحت فيه مفهوم “البين-حداثة” أصبح رضوان السيد مأخوذا بسؤال الهوية في مستوياتها الكانتونية وبرسم الحركة التكفيرية الوكيل الشرعي عن الإمبرالية، حيث اختلطت الأوراق وحتى الحديث عن الهوية لم يعد ضد-إمبريالي بل أصبح جزء من المقاربة الطائفية التي يصل رأسها للإمبريالية الغربية بينما تصل أقدامها إلى المجال الرجعي حيث ينشط عبيد الميديا من الدرجة السفلى لملأ المشهد بالتّفاهة وهو الوظيفة ذاتها التي تستعملها الإمبريالية وفق النسق الإداري النازل لمخططاتها: استعمال الأغبياء في الفوضى الخلاّقة..لقد اعتبر رضوان مناهضتي للإمبريالية وسياسات التصنيف مجرد انزياح باتجاه إشكالية الهوية والانغلاق بينما يفجر خطابا داخل حدود بلا حدود عن أننا نعيش مرحلة تفكك هوية “الإسلام السنّي”..الممضوغة التي حاولت الرجعية أن تعيد إنطاقها على نطاق واسع ولو اقتضى الحال أن تقوّل آباء الحداثة ما لم يقولوه ..تمرير مضمون الطائفية الهمجية بتقمّص هجين ومتأخّر جدّا للغة آلان تورين..ولنا وقفة مع هذا الزّعيق الطّائفي ذي الأبعاد الإمبريالية التدويخية..
إنّ النزعة الداروينية السياسية ستستمر معنا في التحليل بوصفها عقيدة الإمبريالية: البقاء للأقوى وغزو الشمال للجنوب……يتبع
ادريس هاني: