الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ثلاثة رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(42)

ثلاثة رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(42)

ادريس هاني

كيف نفهم كل هذا الإصرار على الاحتفاظ ببرودة الضمير إزاء كل أشكال الإبادة والمحو الثقافي والعرقي إذا لم نفهم ما تتيحه قصة صراع الأنواع في الطبيعة والمجتمع لفهم الوقائع؟ كيف نغضي عن تلك العقيدة الإمبريالية النابعة من التطبيع والاحتلال واستنبات الأنواع الدخيلة على الجغرافيا السياسية إذا لم نستوعب ما يحدث في الجغرافيا الحيوية..أما كيف انتقل ذلك إلى هنا فهذا السؤال بررته الداروينية: ما يجري على الفرد الواحد يجري على سائر الأنواع..سنجد النزعة الداروينية في النظام الدولي، في العلاقات الاقتصادية، وخلف كل أشكال الصراع الحديث..وكما قدمت مثالا بجيمس مور أرى من المناسب جدّا أن أشير إلى محاولة متينة ومقنعة تعزز ذات المنظور، لصديقنا د. منير العكش، بالتعبير المتداول هو أمريكي من أصول سورية أستاذ الإنسانيات ومدير الدراسات العربية في جامعة سفك ببوسطن..من أهم من تناول موضوع الإبادة الثقافية والجنسية في أمريكا ومن أهم من أثار قضية السكان الأصليين وربط بين وضعية الجنس الأحمر وبين الفلسطينيين.يعزز د. منير ذات العلاقة بين الداروينية وحرب الإبادة الممنهجة..يؤكد على الفكرة التي يخشاها كل من تتبع تاريخ الإبادة البريطانيا للجنس الأحمر من أنّ ذات المصير الذي تعرض له هؤلاء قد يكون هو ذاته مصير الأمم والشعوب على الأرض..ينطلق د. منير من افتتاحية يقول أنه قرأها منذ سنوات ولم تلفت نظره إلا قبل سنتين من تحريره لتلك الفقرة، وهو ما يتعلق بتعقيم 14 مليون أمريكي من ضعاف العقول من أجل تحسين النسل، وهو برنامج سيعمل بتمويل وإشراف أرملة متعهد السكك الحديدية السيدة هاريمان ومؤسستي روكيفلر وكارنيجي..التفاتة الباحث هنا جاءت في سياق البحث عن الدولة التي وُعد بها السكان الأصليون في الميسيسيبي حيث عثر بالصدفة على وثيقة من 107 صفحة كتبها هنري كيسنجر بتحفيز من إدارة فورد سنة 1974، تتحدث الوثيقة عن خطّة لتعقيم وقطع دابر نسل 13 دولة من العالم الثالث منها مصر في مهلة لا تزيد عن ربع قرن..هناك تفاصيل دقيقة وموثقة تطرق لها الباحث والذي أحسن في إطلاق عبارة المذبحة الخفية لنسل ملايين من الفقراء والمستضعفين في أمريكا وخارجها..المهم في محاولة د. منير أنها تؤكد على دور الداروينية في تكريس الغزو الإمبريالي والإبادة، يستشهد بنص داروين في سلالة الإنسان بأنه “سيأتي زمن على الأعراق المتحضرة تبيد فيه الأعراق الهمجية وترث منها الأرض حتما”..الفقراء وأغلبهم من الهنود الحمر هم ضحية هذا البرنامج..تعتبر مارغريت سانغر مبتكرة فكرة تحديد النسل في كتابها محور الحضارة الفقراء بأنهم قمامة بشرية..وبالتالي وجب منع جمعيات الإحسان والمساعدات لكي لا ينجب هؤلاء الفقراء نسلا مثلهم يشكل خطرا على المجتمع..يؤكد د. منير بناء على ذلك على أنّ الداروينية قدمت مبررات علمية وأخلاقية لمن سماهم صناديد ثروة الأمم لحربهم على الفقراء..أراه أيضا صائبا حين قال بأنّ الداروينية الاجتماعية سابقة لداروين وعصره غير أنّ التعسف الفاجر لاستخدام مذهب داروين هو الذي وضع المسوغات العلمية لأفكارها..وبتعبير بلاغي جميل يؤكد د.منير على أنّ الداروينية فتحت باب جهنم على الشعوب الضعيفة حين وضعت للرجل الأبيض إنجيلا طبيعيا لعبادة الذّات..ثمة أفكار عنصرية كثيرة لم يخفها الساسة في أمريكا وبريطانيا عن أنهم الأولى بميراث الأرض، وبأنّ العالم كان خرابا حتى حلّ فيه الأنكلوساكسونيون..إنّ الوطنية الأمريكية بتعبير د. منير لا حدود لها، فهناك قناعة لدى الولايات المتحدة الأمريكية بأنها جمهورية كونية..تبدو محاولة د. منير العكش في رصد مظاهر الإبادة مهمة ورائدة ومناهضة للنزعة الداروينية السياسية..

لقد استندت إلى مثالين: جيمس مور من داخل تاريخ العلم ومن منير العكش من داخل الإنسانيات لأعزز وجهة نظري حول الداروينية السياسية وعلاقتها بكل ما يجري على المسرح الدولي من أشكال التحكم والسيطرة والغزو والاحتلال..ذلك لأنّه في نهاية المطاف حتى المقاومة تتطلّب وعيّا بجدواها في عالم شهد انهيار أمم واندحار أعراق..لقد أبيد من سموا بالهنود الحمر حين انفرد بهم الغزاة في قارة معزولة..ولأنّهم كانوا خارج النسق الحديث للقوة لم يستطيعوا ضمن هذه الشروط المرعبة أن يطوروا أساليب مقاومة متجددة..لقد كانوا فرسانا نبيلين صادقين يكرهون الكذب ويمجّون الخيانة..حتى أنهم أطلقوا إسم التفاحة على الخونة: يحملون لون الجنس الأحمر في الخارج لكنهم بيض في الداخل..وثمة شعب أفريقي اقتيد لكي يكون شغّيلة في نظام الإقطاع الجديد، استطاع أن يبتكر أشكالا من المقاومة الناعمة..استطاع أن يخترق البنية الأنغلوساكسونية عبر الفن والأدب والقوانين، ولكن لشدّة انغلاق تلك البنية لا زال يشعر بالتصنيف..

لقد رسم هنتننغتون مسارا للحلّ حين تحدث عن الحدود الطبيعية للولايات المتحدة الأمريكية والعمل على حماية الهوية الأنغلوساكسونية لأمريكا..ومع أنّ أمريكا لا زالت لا ترى لنفسها حدودا طبيعية في ظلّ سياسة الهيمنة الإمبريالية فإنّ الخوف من الهجرة بما فيها تلك القادمة من الجنوب لا زال قائما، وربما تحت هذا الهاجس سعى ترامب منذ بداية عهده لبناء سور الميكسيك للحد من الهجرة..وطبعا كمقاول سيرغم الميكسيك أن تدفع تكاليفه..إنّ الداروينية السياسية هي التي توفر القواعد القانونية والأخلاقية لتسويغ مبدأ القوة في المجال الدولي..إنّ الموقف الإمبريالي الذي كان دائما موقفا لا أخلاقيا غدا موقفا طبيعيا وبالتّالي غدا موقفا علميا..واستطاعت الإمبريالية عبر الميديا وسياسات الإرغام المتواصلة أن تجعل من الاستسلام لقدر الإمبريالية موقفا علميا وعقلانيا وطبيعيا..إنّ سياسة كي الوعي التي استعملها قادة الاحتلال تؤكد على هذه النزعة الداروينية التي تفرض التطبيع بالقهر..وهذا الاستسلام سيسمى تطبيعا والتطبيع سيأخذ أبعادا أخلاقية وسياسية وقانونية تصور المقاوم كهمجي، وسفّاك وإرهابي بينما يتم النظر إلى الإمبريالية كمحرر وراعي للقانون والعدالة والسلام..لكنه في العمق هو تطبيع مع الوضع الجديد، الاستسلام أمام الأنواع الغالبة..كل شيء ينطلق من النزعة الإمبريالية الداروينية لكنه يعبّر عن نفسه بلغة الشرعية والقانون الدولي..إذا كانت الإمبريالية تنظر إلى العالم كمسرح لصراع الأنواع ويخضع إلى القانون الطبيعي، فإنّ الحاجة إلى القانون الدولي تظلّ شكلا من الخداع، لأنّ القانون الطبيعي القائم على التفوق والحق في الاحتلال لا يقوم على التوافق..وسوف نجد في أساليب المفاوضات ذات الطبيعة الإرغامية تصريف لذات المبدأ، فالمفاوضات تقع تحت تأثير التذكير المستمر أنّ المفاوض هو أقوى وله الحق في الابتزاز بهذه الحقيقة وبأن المفاوضات تقع حين تصبح المقاومة واقعا مؤثرا وإلاّ فإن النتيجة هي فرض الاستسلام..نتساءل في كل هذا الوضع المرعب والمدين في كل مؤسساته وسياساته للنزعة الداروينية أين تتموضع العدالة الدولية بل أين تتموضع القيم في النظام الدولي؟ إنّ النضال الدولي اليوم حول العدالة الدولية يجد نفسه مرغما على نسف الأسس غير العادلة التي يقوم عليها هذا النظام..وعادة ما يتمسّك المناهضون للإمبريالية بمنظومة القيم..هل يا ترى بإمكان النظام العالمي أن يتخلّى عن قواعد العيش المتفوّق من أجل تنمية الشعوب الضعيفة لكي يكون لها حظّ في جزء من الرفاهية؟ إنّ داروين يتحدث عن هجرة الأنواع من الشمال إلى الجنوب باعتبار كمال الشمال وتفوقه..هل قرأ يا ترى ابن خلدون وهو يصف الكثير من تلك الأقاليم بأنها أقاليم غير معتدلة؟ أليست الهجرة من الإقليم غير المعتدل هو التفسير العلمي لهجرة الأنواع؟

إنّ المقاومة اليوم في المسرح الدولي ليس في تدوير القواعد القانونية في معركة تعيد إنتاج الفوضى، بل هي بالأحرى مقاومة تهدف إلى إرساء نظام دولي يعيد وصل نفسه بمنظومة القيم الإنسانية الكبرى..فبين الثورة السياسية لعصر الأنوار وبين ظلامية النزعة الداروينية حكاية ردّة في تصّور الإنسان والمستقبل..كان توماس مور يستهين بمصير الذهب في جزيرته الحالمة بينما حلم الداروينية المتكامل مع الرغبة الميركونتيلية والقلق المالتوسي يجعل جزيرة داروين الحالمة هي في أن يبيد الأقوى الضعيف لتزدهر الحضارة…..يتبع

ادريس هاني:3/9/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *