الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ذروة الإمبريالية : (43)……..

ذروة الإمبريالية : (43)……..

ادريس هاني

للأنواع العليا بالمعنى الدارويني والإمبريالي الحق في أن تهاجر إلى المساحات الجديدة حيث توجد الأنواع غير الجديرة بالبقاء..عليها أن تقاوم من أجل حقها الطبيعي ذاك ضدّ الأنواع الأصيلة، فالأرض يرثها الأقوى..هل استطاع ترامب أن يوصل هذه الحقيقة وهو يتحدث بوثوقية داروينية: علينا أن نأخذ نفط العراق؟

أريد هنا أن أتوقّف عند حالة الهنود الحمر وإن كان الإسم لا زال غير دقيق للغاية..لكن ماذا يحمل هذا الجنس الأحمر من خصائص..ماذا تحمل دلالة اللّون؟ سؤال لا زال يثيرني منذ الطفولة وأنا أتابع ملاحم هذا النزاع بين الغزاة البيض والهنود الحمر..بعد معارك الإبادة ضدّ السكان الأصليين كانت هناك معرك أخرى أسميها معارك الفطام بين المقيمين والجنود البريطانيين..بالمفهوم الدارويني فقد تأسس النوع الجديد المهاجر وبات قادرا على الاستقلال عن البلد الأم..ما أثارني هو أنّ هؤلاء في حربهم الأولى كانوا يسمون العدو: ذووا البشرة الحمراء(les peaux rouges)، بينما في حرب الفطام كانوا يسمون عدوهم بذوي البدلات الحمراء(les tuniques rouges)..وفي كل هذه المعركة كان الغالب عليها لون الدّم..يرمز اللون الأحمر إلى الشهامة والشجاعة..وهو يتميز بكونه يمتلك الموجة الأطول من بين كل الألوان وله تأثير على الجهاز العصبي..لون مهيّج يستعمل في إثارة الثيران..مهيج وجالب للنظر تستعمله المرأة للإثارة..كما يشعر بحس الانتماء..كان السكان الأصليون يعتبرون الخائن بمثابة تفاحة، أي أنه بمثابة قشرة خمراء تنطوي على باطن أبيض..في هذه الملحمة من الإبادة أظهر الهنود الحمر قدرة فائقة على المقاومة والصمود..أبيد ملايين منهم فقط لأنهم لم يستسلموا..أرغموا وفي أعماقهم وفاء لذاكرتهم الثقافية..حارب السكان الجدد آباءهم تحت عنوان البذلات الحمراء..ماذا كان في وسعهم أن يسموهم؟ الإنجليز؟ إنها مفارقة، فلقد اعتبروا أنفسهم السكان الأصليين ومارسوا شكلا من المقاومة لتحقيق الفطام والفصل بين الأصل والفرع المتشكل وفق هوية الأنواع المهاجرة التي استوطنت المكان الجديد..

لم ينته الإستهتار بثقافة المحلّي، فأسماء أبطال الهنود الحمر يتم تخليدها اليوم في أسماء الأسلحة الفتاكة التي تنجز بها الإمبريالية مهمّتها التاريخية في غزو الشعوب وإبادتها..فالفأس الذي استعمله الهنود الحمر في معاركهم الشرسة ضد الغزاة هو نفسه توماهوك الذي رميت به شعوب كثيرة في المنطقة..اعتبر الجيش الأمريكي بأنّ ذلك يدخل في إطار تكريم الأبطال من التراث..بيد أن التراث الهندي هو محلّ تهميش وإهمال..والأمر في نظري أبعد حتى مما يثير حفيظة الحركات الاحتجاجية الهندية من حيث اعتبارهم ذلك ضربا من التشويه لتراثهم بل هو أيضا توظيف لذاكرة هذا الشعب الذي يتمّ إخضاعه لعملية إبادة طويلة الأمد، عبر الحروب المالتوسية التي يتم فيها تجنيد المهمشين والفقراء ومنهم الهنود في معارك لا نهاية لها..بمعنى آخر لقد زودتهم الإدارة بفؤوس جديدة للقتال -توماهوك – لكن هذه المرة هي موجهة لعدو مفترض يقع وراء البحار..عبّر لاري تيكوهوك معاون وزير الداخلية لشؤون الأمريكيين في إدارة أوباما عن سأم الهنود من اختزالهم في محبي الحروب وتسمية الأسلحة بأسماء من الثقافة الهندية.. كتب سايمون واكسمان في الواشنطن بوست مقالة يشير فيها إلى أنّ أسماء كثيرة في الولايات المتحدة الأميركية اليوم مثل أباتشي وكومانشي وشينوك ولاكوتا وشيان وكيووا لا تطلق على قبائل هندية فقط، بل على مروحيات عسكرية أيضا..يتساءل الكاتب: لماذا نسمي معاركنا وأسلحتنا على أسماء أناس قهرناهم؟ واضح أنّ الأمر يتعلق بسخرية من شعب اعتبر مهزوما بينما الحقيقة ليست كذلك، على الأقل يعبر الكاتب عن خيبة الأمل تلك بعبارة دقيقة: “لم تكن قبائل هذه الأرض التي هُزمت خصوما بل ضحايا، خدعوا وجرى التفوق عليهم بقوة السلاح بشكل يستحيل عليهم مواجهته”..ويزيد الكاتب توضيحا لهذه الحقيقة المرّة: “وما تسمية أسلحتنا القوية وحملات انتصاراتنا بمن قهرناهم سوى تخفيف لعبئ ذنبنا، وهو خلط للانتهاك بالقتال العادل”.. يتساءل الكاتب من خلال عبارة تشومسكي التي لخّصت المفارقة في أحسن تعبير:”قد يكون لنا رد فعل مختلف إن أُطلق على الطائرات المقاتلة لسلاح الجو الألماني (لوفتواف) أسماء (يهودي) و(غجري)”.

ويبقى الأهم هنا في إشارة الكاتب هوما كان قد أثير حول إسم «جيرونيمو» Geornimo ، الإسم الحركي لأسامة بلادن الذي استعملته الاستخبارات الأمريكية في عملية استهداف هذا الأخير على الحدود الباكستانية، وهو ما كان ليون بانيتا مدير الاستخبارات الأمريكية قد صرح به أمام وسائل الإعلام سنة 2011..

إننا أمام إبادة مادية ورمزية..وإشارات دلالية لاحتقار الشعوب المستهدفة بأن مصيرهم سيكون هو المحو والانقراض..مصير الهنود الحمر الذين قضى أكثرهم شجاعة ومقاومة وتحوّلوا إلى ماركات على أسلحتنا الفتاكة..حكاية الحرب على الأنواع الضعيفىة خارج الحدود..ليبقى السؤال كيف نتصور إمبريالية داخل حدود طبيعية؟..كل شيء بات بلا حدود، حتى الرجعية باتت بلا حدود..والدول والأمم والكيانات الضعيفة هي اليوم تحت طائلة وجبة أخرى من الإخضاع..والإخضاع هو في الحقيقة مجرد البداية، لأنّ النزعة الملتوسية تقضي بحلّ معضلة الديمغرافيا بالإبادة..وفي مختبرات الإمبريالية وخططها وسائل بديلة عن تلك الإبادة الخشنة حين يقع الاستسلام: مرحلة الإبادة الناعمة…..يتبع

ادريس هاني:

ملاحظة: تغيير عنوان السلسلة

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *