ادريس هاني
يبدو أنّ النظام الدّولي ينتج فقط الإهانة..الإهانة هي العنوان الأنسب لوصف نظام دولي تهيمن عليه قواعد اللّعب الإمبريالية..وهو عنوان ستجده عند مناهضي ونقاذ الوضعية التي يسير عليها النظام العالمي….كتب برتراند بادي :(le temps des humiliés ..Pathologie des relations internationales)..زمن المهانين: علم أمراض العلاقات الدولية…يبقى أن نشير إلى أنّ مهدي المنجرة ربما سبق برتراند بادي حيث كتب كتاب: الإهانة..وكذا كتاب: الذلقراطية..وعلى العموم هؤلاء هم نخبة كتّاب الإهانة في الفكر المعاصر..
وقبل الوقوف على هذه الشواهد من داخل مختبرات التفكير والبحث والاستقصاء المهني أريد أن ألفت النّظر بأنّنا نعيش نظاما دوليّا يمتح ثقافته من النظام العبودي في الولايات المتحدة الأمريكية..فالسادة أنفسهم الذين تسلّطوا على العالم الجديد هم اليوم حوّلوا العالم إلى فيودالية بعناوين تنتمي إلى الاقتصاد السياسي الحديث..لقد قطعوا اليد الخفية (عند آدم سميث)لقانون السوق الطبيعي وأبدلوها بيد خفية لسلالة روتشيلد..الإقطاعيون اليوم يمتلكون معظم ثروة العالم ويتحكمون في مصيره، بينما القانون الدولي تفصيل صغير في بنية فيودالية مغلقة..الإهانة هي تحصيل حاصل حين خرج النموذج من حدوده الأولى ليصبح نموذجا عالميا: الإهانة، الخضوع، أو الإبادة..سعت إسرائيل لتمثّل هذا الدور في المنطقة، وفي نوبة من نوبات محاولات تطبيق القوة الناعمة أخرجت فكرة الشرق الأوسط الجديد..حاول بيريز من خلال هذا العمل أو ما يشبه التقرير أن يجعل الشرق الأوسط شبه قطيع في مزرعة يقودها العقل المتفوق لإسرائيل بينما اليد العاملة عربية وكذا رأس المال النفطي العربي..واضح أنّ مقاومة مشروع الشرق الأوسط الجديد يعني التعرض للإبادة: فإما الإهانة وإما الإبادة..إنّ حربا ميكروبية على الطريق لتلقيح الجغرافيا الطبيعية والسياسية في المنطقة، ستلعب فيها الحرب على المياه القادمة دورا خطيرا وكذلك الاقتصاد السياسي للدّواء..إنّ النظام السياسي والاقتصادي والثقافي الدولي امتداد لوضعية عبيد الحقل: ليس لهم إلاّ الأمراض والجوع والتهميش، ولعبيد المنزل بعض من الامتيازات كحزام أمني بين السادة وعبيد الحقل..الفكرة الأساسية لبرتراند بادي هو أنّ الإهانة باتت مسألة مركزية في العلاقات الدولية وهي اليوم تعتبر ممارسة استراتيجية..لقد أصبحت الإهانة في نظر خبير العلاقات الدولية “ممارسة إستراتيجية بسبب جعلها محورا للعلاقات الدولية وكذا ارتباطها الوثيق بالعنف”.. يربط برتراند بادي بين استراتيجيا الإهانة والمرض في العلاقات الدولية، ليعلق الحلّ على مطلب مستحيل:“لتحقيق السلام في العالم من الضروري تحقيق الأمن الغذائي و الأمني و الصحي و الفردي و الثقافي و السياسي و الاقتصادي”..
هل يا ترى هذه أهداف الرأسمالية المتوحّشة أم برنامج الغزاة الذين يحملون معهم حلما مالتوسيا للعالم؟ تزعجني الطوباوية الثقيلة..كما تزعجني عملية التبرير لمآلات النظام الدولي كما لو أنّ ظاهرة الإهانة هي بنت انهيار الاتحاد السوفياتي فقط..
أتساءل: أي معنى للحديث عن أي شيء خارج التعاقد القيمي؟ البحث عن شيء بلا قيم هو إمعان في الإهانة..الحنين إلى الداروينية الاجتماعية هي التي انتهت إلى هذا الشكل من الداروينية العولمية التي حوّلت العالم إلى غابة من الرأسمالية المتوحّشة..البحث عن نهاية القيم هو بحث عن نهاية الإنسان..جغرافيا بلا قيم لا تتسع للذئب والحمل..إنها جغرافيا الإهانة..وجغرافيا الإهانة تستدعي المقاومة..فكل ما في هذا المركز لا يحسن غير إنتاج الإهانة..العالم الثالث ونحن منه هو جغرافيا سياسية للمنبوذين برسم قواعد لعبة الأمم الاقتصا ـ سياسية..الإهانة تبدأ من تدبير الإنتاج وتوزيع الثروة..تبدأ من الثقافة ومنظومة القيم التي تعاني من الإهانة..لأنّ القيم الثالثية لم تعد ذات صلة بقيم الاقتصاد السياسي..فهي لا تنتج الثروة ولا تحدد الموقع الاجتماعي ولا تمنحك التمكين الضروري..وإذن هناك عجز عن استعمال هذه القيم في منظومة لاهوت المعارضة لنظام الإهانة الدّولي..إنّ الحديث الذي نسمعه اليوم مثلا عن تسوية القضية الفلسطينية يذكّرنا بحتمية المقاومة باعتبار أن فلسطين هي اليوم جغرافيا الإهانة بامتياز..ليس ذلك من حيث سياسة الإهانة الممنهجة التي يقوم بها الاحتلال ضدّ الأهالي، بل لأنّ الهامش المتاح للحديث عن التسوية يرادف في المعجم السياسي التصفية الناعمة للقضية الفلسطينية..إنّ المقاومة فعل مستدام لا يوقفه سوى توقف الإهانة..تتجلّى الإهانة في مستويات عدّة في عالمنا الكبير والصغير..الإهانة تبدأ حين نصبح مطالبين بالخضوع لإعادة رسم وتوزيع الخرائط..في تعزيز سياسة الديون ومنع تصنيع البلدان وربطها بالتبعية الدائمة حتى إشعار آخر..تتجلى في استبداد النظام الدولي واستبداد الحكومات واستبداد المجتمع نفسه..تتجلّى في الإعلام الذي يتعاطى مع المعلومة كبرميل بارود وخلق الهلع والتفاهة في المجتمع..إنّنا نعيش عالم الإهانة الشّاملة..ولكن لا يوجد هناك حتى الآن توازن، لأنّنا لا نعيش حتى الآن عهد المقاومة الشاملة..فهل يا ترى سنبحث في نهاية المطاف عن سياسة بلا أخلاق كما كتب أنفري عن حكمة بلا أخلاق؟ ربّما قد يحتمل العالم أخلاقا بلا سياسية ولكن أنّى له أن يحتمل سياسة بلا أخلاق..اقرؤوا معالم الإهانة في الكتاب الأسود للإمبريالية..هي استراتيجيا وليست قضية مزاج لرئيس دولة عظمى..يتبع
ادريس هاني: