ادريس هاني
لقد ناورت الإمبريالية بما فيه الكفاية لإضفاء مسحة قانونية على نزعتها القوّوية، فهي تعتبر أي ممانعة إزاء سياسات الهيمنة غير المشروعة هي شكل من الكراهية للقيم الديمقراطية، ولها من وسائل الدعاية ما تستطيع أن تختزل الأمور على هذا النّحو..لقد بات واضحا أنّ الرأسمال هو أقوى من الدّولة، وهذا التماهي بينهما هو ما يكرّس المفهوم البديل عن الدّولة التي تخيّلها فلاسفة العقد الاجتماعي.. وسنجد أنّ هذا الوعي بمسارب القوّة سابق على الدولة الحديثة نفسها..إنّ فهم القوة هو فهم قديم..لسنا إذن سوى عبيد ورثنا وضعيتنا في نظام دولي مناهض لفكرة الدّولة نفسها..ففي هذا النظام الذي يصعب الحفاظ فيه على القوة وجب قيام قوانين تعزز هذا الحقّ، هكذا علّق جون جاك روسو..حيثما استبدّ رأس المال خلق له بيئة فيودالية تتجاوز حدود الدولة..وحتما إنّ احتواء النظام النقدي للسياسات من شأنه أن يتهدد الأمبراطورية نفسها..الحديث اليوم ليس عن تحكم الاقتصاد بالسياسة، فهذا أمر لازم نشأة النظم ونطورها، الاقتصاديون كانوا دائما متقدمين في مجال المغامرة والانفتاح كما يؤكّد دي توكوفيل، لكنني هنا أتحدث عما هو أبعد من هيمنة الاقتصاد على السياسة بل هيمنة النظام المالي على النظام الاقتصادي..إنّ النظام النقدي لعب أخطر الأدوار في تقويض مفهوم السيادة، وعليه باتت الدولة ترتكن إلى سلطة رأس المال وليس العكس، فبفضل الشبكة المالية الدولية أصبح النقد يجد طريقه عبر التسلل والمضاربة لتحطيم أي اقتصاد ناشئ..في قلب هذه اللعبة الجديدة للسيطرة بات مطلب التنمية الثالثية أكثر تعقيد إلى حدّ يمكننا القول بأنّ الصلة التي باتت تربط بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبين العالم الثالث تكاد تختصر في سياسة إعادة الجدولة، الوسيلة التقليدية لفرض قوانين القنّية على اقتصادات العالم الثالث..منذ بات الدولار معيارا لتقييم العملات إلى جانب كونه عملة بفضل بروتن وودز- وهو يشبه التفرد بإنشاء مبادئ الأمم المتحدة – والعالم ينتظر لحظة السكتة القلبية لنظام نقدي غير عادل..فاقتصادات العالم الثالث لم تكن تمثل في يوم من الأيّام سوى موردا للموارد الطبيعية وسوق لتصريف منتجات المراكز الصناعية بينما تتولّى مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي مهمة مراقبة الاقتصادات الثالثية وحشرها في نمط اقتصاد التبعية..
إنّ التنبّؤ بانهيار النظام النقدي لم يعد من المسكوت عنه..هناك ما يؤكّد أنّ العالم يتعرّض لإجراءات استباقية غير معلنة لسحب الذهب – المعيار السابق لتقييم العملات – وإعلان نهاية الأوراق المالية..هل نحن في حاجة كما ذهب بول مايسون في “انهيار الاقتصاد العالمي” إلى تجديد استعاراتنا في شرح النظريات التي تعلقنا بها طويلا؟ فما حصل من أزمة في قطاع المال تجاوز قطاع المال ولم نعد نتحدث عن انهيار بورصة وول ستريت بأيلول بل أصبحنا أمام وضع وصفه برنانكي محذرا من توقف القلب المالي فيما عبرت وسائل الإعلام عن تسونامي، بينما رأى بول مايسون أنّ هذه العبارة هي نفسها لم تمثل الاستعارة المناسبة لوصف ما حدث في الأزمة المالية التي عرفتها أمريكا مؤخّرا، وهو متحمّس لوصفها في مقالة له بكراكاتو مالي..استعارة من انفجار بركان كراكاتو – 1883- الذي فاق انفجاره القنبلة الذرية بـ 13 ألف درجة وبقي آثاره على الأرض لعقود..خطورة هذا الانهيار تكمن في تجاوز الحدود واستمرار آثاره على الصعيد العالمي..
وكما أنّ عنوان التفوق الأمريكي كان في نظامه النقدي الذي عززه نظام بروتن وودز فإنه بات هو نقطة ضعفه أيضا..نحن أمام وضعية نقدية بالغة المفارقة، وظل العالم على كفّ عفريت اقتصاد ذي طبيعة افتراضية تلعب فيه الاستعارات الكثير من تكريس الوهم..يتعلّم الإنسان من درس تاريخ النقد المراحل الصعبة والمبررة التي انتقل فيها نظام الدفع من تبادل السلع بالمقايضة إلى التبادل المالي، لكن دائما كان المبرر واحد إلى أن وصلنا العملة الرقمية لتسريع عملية التبادل..إننا نتحدث عن جريان مهول من العملة في الدقيقة الواحدة داخل المراكز المصرفية الكبرى يقدر بتريليونات الدولارات في الثانية..ما ليس مقنعا هو كيف يرهن النظام النقدي لمعيار الدولار؟ طبعا حصل ذلك وفق قوة الإرغام التي فرضتها مخرجات الحرب العالمية الثانية..درس آخر يتعلمه الإنسان من الأوراق التجارية: الشيك والكامبيالة ، باعتبارها وسائل دفع مرهونة بقوانين تمنح الكثير من الثقة في العمل بها، لكن يبقى ” الكاش” أكثر ضمانا بين النّاس كلما خرجنا من دائرة المعاملات الكبرى، لكن أتساءل: هل “الكاش” مضمون من وجهة نظر اقتصادية؟ هذا السؤال يقودنا إلى القول بأنّ لا شيء مضمون حتى الأوراق المالية..كتب جويل كرتزمن في موت النقد أثناء حديثه عن عملية توليد النقد ودور المصرف المركزي الأمريكي يخلص إلى القول بأن هذه الفئات من أوراق الاحتياط الفيديرالية التي نسميها النقود الصادرة بفئات الدولار هي في الحقيقة شكل من أشكال الدّيون..هي بتعبير جويل مجرد “التزام بالدفع..لكنها نوع غريب من الديون..التي ليس لها تاريخ سداد”..المسألة الأساسية هنا هو أن المصرف المركزي عاجز عن السيطرة عن كمية الدولار التي خرجت حتى عن نطاق المصارف الأوربية واليابان وباتت في متناول العالم..عملية ضبط كمية النقود وقياس سرعة دوران النقود في العالم باتت مستحيلة..يستشهد جويل بحديث دافيد رانسون بأنّ قيمة العملة يتحدد بالثقة وأسعار الفائدة، أي سعر النقود..وهذا في نظر الكاتب عالم غريب حيث سبّبه قرار نيكسون حيث باتت أسعار الفائدة هي التي تحدد قيمة الدولار وليس العكس..غير أن ذلك هو الأمر الطبيعي والممكن حين يفوق الاقتصاد المالي الاقتصاد الحقيقي..لقد هيمن الاقتصاد المالي وخلق هذا الحدث الكثير من الاهتزازات التي أخسرت المصارف الدولية مئات من المليارات الدولارات منذ قرر نيكسون أن يلغي الغطاء الذهبي للدولار..نحن إذن تجاوزنا حدود بروتن وودز نفسه بقرار نيكسون، لقد بات الدولار مجرد وعد بالدّفع..
إنّ تمزيق المعاهدات وتغيير قواعد الاشتباك في السياسة والاقتصاد والحرب هما جزء من الفوضى الخلاّقة التي تمارسها الإمبريالية لضبط الميزان غير المتكافئ في النظام الدولي..كم تنكرت الولايات المتحدة الأمريكية لقرارات الأمم المتحدة التي أشرفت هي نفسها على ميلادها وإطلاق الميثاق الأممي؟ ألم تنسحي يوما من اليونيسكو؟ كما تمّ الإلتفاف على بروتن وودز نفسه على الرغم من أنّها هي من أشرف على قراراته، كما تمّ الإلتفاف حتى على سايكس بيكو الذي أتى كجزء من مخرجات توافق القوى الإمبريالية..إنّ عملية تحسين شروط وبيئة عمل الإمبريالية تقتضي إحداث تغييرات تمسّ النظام الدّولي وتنتهك حتى ما سبق وفرضته حين يستنفذ أغراضه ولم يعد كافيّا لإحكام الهيمنة..ودائما وفي كل منعطف دولي تصبح الإهانة سياسة لإنعاش الذاكرة، أي على العالم أن يدرك بأنّه يمثّل حقلا فيوداليّا وبأنّ الدّول هم مجرد عبيد في حقل تديره الإمبريالية قوانينها الخاصّة….يتبع
ادريس هاني: