ادريس هاني
هناك تاريخ صامت من الإبادة يصعب معه استقصاء ما عاناه السكان الأصليون، أولئك الذين عجز الغزاة الأوربيون عن استعبادهم، لكنهم استطاعوا إخضاعهم لمصير أكثر قسوة عبر القتل والحرق والذبح والأعمال الشاقة والقوانين التي تشجّع على الإبادة..تفاصيل مؤلمة تطلب في مظانّها لأنّها فاقت الخيال الدارويني في حرب الأنواع، نتيجتها المسكوت عنها ما يفوق 100مليون ضحية من الهنود الحمر، القتل والاستعباد والاغتصاب هو ثمن قيام عالم تمثال الحرّية..وبما أنّ السكان الأصليين لم يخضعوا للاستعباد بالحجم المطلوب، وهذا ما يؤكّد أنّهم كانوا أحرارا ولا أكثر تحررا منهم، إذ كان يفترض أن يوضع تمثال لزعيم قبيلة أباتشي أو غيرها بدل تمثال الحرية، فإنّ البديل كان هو البحث عن جنس آخر ولو اقتضى الأمر استيراده من قارة أخرى..كانت أفريقيا هي الهدف، حين بدأت عمليات اصطياد العبيد..أمم تعيش على سبيل الطبيعة، وفق نظام يمنحها الكثير من الانسجام مع الطبيعة تماما كالهنود الحمر..لقد تعرض الإنسان الأفريقي خلال خمسين عاما فقط لإبادة لا تقلّ عن إبادة الهنود الحمر: أكثر من 100 مليون قتيل..وخضعوا للمستوى نفسه من العنف والإبادة ونقل الكثير من الأطفال والنساء عبر السفن لكي يكونوا عبيدا في النظام الإقطاعي لسادة العالم الجديد..لقد حصل العديد من التمردات داخل المزارع خاضها عبيد قادهم الرواج الثلاثي إلى الأرض الجديدة بقهر النّار..فالسلاح الحديث غيّر الخريطة البيولوجيا والسياسية معا..كائنات وأمم انقرضت وأخرى حلّت محلّها..صمد الأفارقة وهم مقيدين بأغلظ القيود وانتهكت كرامتهم ولكنهم صمدوا وأبتكروا أشكالا من المقاومة الناعمة بالشعر والفن وإثبات الكفاءة..أصبحت حرب الألوان مظهرا من مظاهر حرب الأنواع..ناضل أحفاذ العبيد الذين فرضت عليهم العبودية ليعيدوا الاعتبار للّون الأسود، بلغ هاجس معركة اللون حدّا جعل أمثال لويس فركان يتخيّل لون الإله أسودا..كانت حربا مريرة..الجنس الأبيض متخم الذّمّة في هذه المعركة..هناك مطاردة تاريخية من الحمر والسّود اضطرت إلى تصدير الأزمة إلى الخارج عبر حروب أضافت إلى اللونين اللون الأصفر والداكن وحتى الأبيض أحيانا من آسيا والشّرق الأوسط والبلقان..لقد كانت أفريقيا مهدا للنهب، وهذا النّهب شمل الثروات الطبيعية من المعدن النفيس والإنسان معا..إن نظام الآبارتهايد هو بقية ملطّفة لما كان يجري يومئذ في أكثر من بلاد أفريقية..لقد ابتكر السود الأمريكيون لاهوتا جديدا، لنسميه لاهوتا أسود..منحوا ربّهم لونا أسود تأكيدا على الإنتماء..وبالنسبة للمتنصرين منهم استقلوا بكنائس خاصّة لأنّ التطرف الديني الذي قاده الكو كلوكس كلان والعنصريون لم يسمح باندماج العبيد حتى في الدّين..وابتكروا تأويلهم الخاص للحياة..
من داخل المجتمع الخاضع لأقسى نظام عبودي عرفه التّاريخ اندلعت انتفاضات وظهر زعماء ولا زالوا يكافحون مظاهر العنصرية الموروثة عن زمن العبودية على الرغم من أنّ بروز الرأسمالية الصناعية فرض تحرير هؤلاء السود من النظام الفيودالي ليندمجوا في المصانع والعبودية الجديدة للنظام الرأسمالي..حكاية أخرى يتعين وضعها موضع التّأمّل..إنّ ما حدث يومها ليس تحريرا بل أراه استبدالا في نظام العبودية: من عبودية الإقطاع إلى عبودية المصنع..القوانين الجديدة للرأسمال لم تحرر العبيد بل أدمجت الجميع في عبودية شاملة للرأسمال..هل يا ترى تحرر العبيد في العالم؟ كلا، بل خضعوا لنظام عبودي جديد، وما نضالات الشغيلة إلاّ المثال عن محاولات مستميتة للتحرر من بقايا عصر العبودية الفيودالية..
في هذه المعارك التحررية للأفارقة السّود كانت هناك ظواهر معيقة التفت إليها أمثال مالكوم إكس والكثير من قادة التحرر الأفريقي داخل الولايات المتحدة الأمريكية..خطب مالكوم إكس قبل اغتياله بعام واحد عن نوعين من العبيد: عبيد الحقل وعبيد البيت، ثم أعلن نفسه أنه من عبيد الحقل..إنّ عبيد البيت يتماهون مع سادتهم، يعتبرون ما يحصل للسيد هو حاصل لهم..إذا مرض السيد قالوا مرضنا، إن فرح فرحوا وهلم جرّا..كانوا يلبسون لباسا جديدا ويقيمون في بيت السيد في الطابق السفلي أو السطوح بينما شكّل عبيد الحقل القاعدة الجماهيرية الأكبر..لا توجد بينهم والسادة أي صلة تعاطف..وضع مالكوم إكس صورة تناقضية بين الظاهرتين: فعبيد البيت يضحون بأنفسهم لإنقاذ السيد..وفي حال انتفض عبيد الحقل كان السيد يستعمل عبيد البيت في عملية التفاوض واحتواء التمرّد..بينما عبيد الحقل هم الصورة الحقيقية للمعاناة..
لقد تأكد كلام مالكوم اكس حيث استعمل السادة عبيد المنزل ضد عبيد الحقل..وهم لا زالوا على ذات التقسيم..قال ذلك مالكوم إكس في خطابه عام 1964..لقد كان عبيد البيت جزء من حياة السيد..لعلّ هؤلاء هم الذين أزعجهم القرار الدستوري في عهد ابراهام لينكلن القاضي بتحرير العبيد..ليبقى السّؤال: من هم عبيد البيت اليوم؟
ويبدو أنّ هناك ما يلفت الإنتباه: البيت الأبيض، الذي كان من الإنصاف أن يسمى البيت الأحمر لسببين: لأنه لون السكان الأصليين، ولأنه بني على بحر من الدم في معارك غزو الغرب..لكن في البيت الأبيض يوجد عبيد المنزل الذين منحوا الاستراتيجيا الإمبريالية الكثير من وفاء عبيد البيت ..عبيد البيت الأبيض الذين فاقوا السيد الأبيض في كل أجيال الحروب..كوندوليزا رايس مثال بارز عن عبيد البيت ..من هناك حتى لا ننسى انطلقت حكاية الفوضى الخلاّقة التي أرادت رسم خريطة استعباد جديدة في الشّرق الأوسط وكثير من المناطق..إنّ الإمبريالية في استراتيجتها الدولية اليوم تسعى لتقسيم العالم إلى عبيد البيت الأبيض وعبيد الحقول الذين لا زالوا في حالة تمرد ومقاومة..وتترجم حكاية عبيد البيت في المحاور الإقليمية وفي الطابور الخامس للإمبريالية وفي كلّ من يساهم في احتواء عبيد الحقل في زمن الذروة الإمبريالية…..يتبع
يتبع
ادريس هاني: