الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ذروة الإمبريالية(51)

ذروة الإمبريالية(51)

ادريس هاني

في الوقت الذي تمتدّ فيه الأنظار إلى سوروس يخفت الحديث عن روتشايلد، هل هي مصادفة أم أنّ روتشايلد هو مجرد “أكروبات” يلعب دور المموّيه؟ لم يعد ثمة شيء خفي، ولا بدّ أن تظهر شخصية أخرى في قطاع المال تمارس أقصى التشويش..سندرك بعد ذلك أنّ سوروس ليس سوى صناعة روتشايلدية بامتياز..لكن ما حكاية النظام الدولي بالأشخاص؟ وكما ذكرت آنفا إنّ قوة الدعاية التي حاولت الإلتفاف على المؤامرة السرية بهجاء نظرية المؤامرة جعلت الحديث عن دور العوائل في نشأة وانهيار النظام الدولي أمرا صعبا، لكن أليس مجرد عضو صغير في منظمة روتشايد -إن صحّت النسبة – أسقط اقتصادات دولية وحطّم النظام المالي في بلدان كثيرة؟ إن كان روتشايلد خلف السّتار فما عليك إلاّ أن تقرأ نفوذه المضاعف في ذلك القليل الذي قام به سوروس..إنّ ما أسميته بمفارقة سوروس تكمن في أنه وهو يحطّم ممالك المال يحسن أن يتحدّث لغة الثورة والإنسان، وهي الصّفات ذاتها التي ميّزت أساليب الروتشايلديين منذ القرن الثامن عشر..إنه يجسد ما كنا نقرؤه على سبيل الحكايات..نحاول هنا تجنّب قدر الإمكان الوقوع في ما تدفع به عملية التشويش على كشف اليد الخفية البديلة عن الطبيعة ودينامية النظام وهي اليد النافذة للتنظيم السّري الذي يتولّى إدارة السيطرة..فالهيمنة على العالم أمر مستحيل على دولة مهما بلغ نفوذها الأمبراطوري..إنها أيضا سيطرة لا تتحقّق تلقائيا ومن دون عمل فائق الدّقة..إنه شأن مجموعة نافذة في العالم هي نفسها القادرة على أن تسيطر على تدبير أكثر من 80 في المائة من ثروة الأمم ..ليس التحكم في العالم أمرا تلقائيا وليس أمرا لدولة بل هو شأن جماعة يسميها المؤرخون لآثار الروتشالديين بالمنظمة وحكومة اليد الخفية..حين أقول ليس بمقدور دولة القيام بإحكام السيطرة فذلك لأنّ الدولة محلّ صراع الأجنحة..لكن نتحدث عن دولة داخل الدولة، هي في العادة منظّمة تعمل بأساليب ديكتاتورية مغلقة..

حين قرأت قبل ثلاثين عاما كتاب حكومة اليد الخفية للكاتب السكاندينافي شيريب سبيريدوفيتش، كنت أمام شريط مرعب لأسرة استطاعت أن تخترق الكنيسة والبنوك، لقد كان يسمّي الأشياء بأسمائها، لذا كانت استنتاجاته مبنيّة على رصد وتوثيق لتاريخ تلك العائلة، غير أنّ تأثير الدعاية باسم هجاء نظرية المؤامرة جعلني أغضّ النّظر عن حكاية اليد الخفية تلك، إلى أن برز دور سوروس الذي أظهر مقدرة فائقة للتدمير الممنهج..تساءلت: هل يتعلق الأمر بشخص واحد أم هي منظّمة، لا أتحدث عن منظّمته الخاصة بل عن منظمة هو فيها مجرد عضو يقوم بدور؟ انهيار اقتصادات وتحريك جبهات وتمويل قلاقل في البلدان..هذا كافي كي يجعل العودة إلى سيريب سبيريدوفيتش ولكن سنتجنّب الحرب الدّينية هنا للحديث عن الحرب المالية أوّلا..

هل الأمبراطورية المالية ضربة حظّ؟ هل هي مسار من الكدح النبيل والعبقرية؟

يكتب جون ستيل جوردون كتابا كبيرا حول أمبراطورية الثروة: التاريخ الملحمي للقوة الاقتصادية الأمريكية…يا له من كتاب مذهل في معركة الدعاية..فالثروة هنا تراكمت بفعل العبقرية والابتكار والأراضي الواسعة لأمريكا التي لم تفكر أن تتوسع خارج مجالها الطبيعي..شيء أشبه بجلد الذات حين وصف تشومسكي هذا الفعل الذي تقوم به الدعاية الأمريكية بالممارسة السقيمة التي لا تطاق، حين علق على موقف روبرت ماكنمار من الحرب الفيتنامية التي اعتذر لوقوعها من قبل أناس أرادوا الخير فأخطؤوا..أو حين وصف توكوفيل تقدم الحضارة عبر الصحراء فأعرب عن تعجبه من قدرة المستوطنين الأمريكيين على تدمير حياة السكان الأصليين باحترام لشرائع الإنسانية وبلباقة فريدة..يذكر تشومسكي مثالا عن كتاب هيلين جاكسون عام 1880 تقرير ” قرن من الخزي”، الكتاب الذي تمّ تجاهله، حيث اختفى من الأسواق.. هذا مثال عن النجاح الذي تمثله كتب الدعاية، بخلاف نمط الكتب كالكتاب الذي ذكرت عن إمبراطورية الثروة الذي يرسم ملامح ملحمة تفيض بالانتصارات المالية من دون حروب بل هي حصيلة ملحمة من الابتكار وشساعة الأرض التي حازوا عليها بالغزو وأكثر من مائة مليون قتيل من السكان الأصليين..إنهم خرجوا من جزيرة صغيرة في شمال أوربا ليحتلوا قارة..عن أي تاريخ اقتصادي سلمي يتحدّث جون ستيل جورون؟..ومثل هذه الكتابات ذات الطابع الإدعائي في نظري يتعين رميها في سلّة المهملات لأنّها لا تقول الحقيقة..

لقد كانت هناك حركة واسعة من اقتصاد الحروب..يفضج ترامب سلمية هذا المسار حين يعلن الحرب من أجل أخذ الثروة من شعوب لأنّها دول فاشلة مثل العراق، غير أنه غير مستعد للجواب عمن جعل من العراق دولة فاشلة؟..لكن ماذا حين تصبح الحرب وفق القوة الصلبة غير منتجة، مع أنّ الحروب التي تعلنها الإمبريالية ليست حروبا دفاعية بل هي حروب للحفاظ على السيطرة على مسالك المصالح الكبرى..هل ستقدم الولايات المتحدة الأمريكية اليوم على مواجهة الصين أو روسيا بالطائرات لحفظ النظام الفيودالي/الرأسمالي القاضي بامتلاك ثروة الأمم؟ هذا أمر مستحيل، فإذن لا مناصّة من تطبيق ما تحدث عنه التقرير السالف الذكر حول قوة الإرغام، وأهمها استعمال شبكات البنوك..إنّ ثروة الأمم وعمدتها الذهب النفيس الذي حرّك الأوربيين في ملحمة ميركونتيلية مشهودة لا تحتاج اليوم إلى تنقيب، يكفي أن نشتريها رسميّا بأوراق مالية افتراضية ثم نضعها في مخازن الذهب..في أيدي العالم أوراق مالية خفيفة..هذه مخلفات بروتن وودز وما بعد بروتن وودز، وتغيير معيار النقد من الذهب إلى الدولارـ ناهيك عن لعبة المد والجزر في قيمة العملة التي هي وسيلة مالية وأيضا معيارا للعملات انتهاء بالوضع الافتراضي للأوراق المالية..هنا حينما تصبح الحرب مستحيلة بالمفهوم العسكري سنتحدث كما كتب الكاتب الأمريكي من أصول صينية هونغ بينغ سونغ:” حرب العملات”(The currency wars) – صدر سنة 2007 -، وهو كتاب أثار استياء كبيرا في أمريكا..حين نسمع عن ردود الأفعال زائد أنه حقق مبيعات مذهلة( ما يعادل تقريبا 1.25 مليون نسخة) ندرك أن الجهة التي استاءت من الكتاب هي شبكات المصالح الموصولة بالروتشايلديين. جاء الكتاب ليحذّر الصّين من المؤامرة التي تخوضها أسرة روتشايلد على مستوى الحرب المالية للقضاء على المعجزة الصينية..

في كتابه ذاك يشير هونغبينغ إلى أنّ الرأي العام العريض حين يسمع للميديا تتحدّث عن بيل غيت وعن ثروته لتجعل منه الرجل الأكثر ثراء في العالم فإنّه للأسف لم يخبر بالحقيقة، ففي قائمة الأكثر ثراء يوجد أثرياء أكثر خفاء لا يتحدث عنهم الإعلام لأنهم يمسكون بعصب الرقابة على أهم مراكز الميديا في الغرب..ويذكر هونغ بينغ بأننا لو استطلعنا رأي مائة صيني في شوارع بيجين أو شانغاي فستجد 99 في المائة يعرفون سيتي بانك الأمريكية بينما واحد في المائة يعرف بنك روتشايد..في نظر الكاتب هذا ليس غريبا لأنّ الأمبراطورية المالية التي يمثلها روتشايد ظلّت بعيدة عن الأضواء..لا شيء واضح غير أنه قدّر ثروة آل روتشيلد الآن بـ 50.000 لمليار دولار..روتشايد إسم معروف عند من لهم علاقة بالصناعة المالية، فهو في أهميته في قطاع المال يشبه مكانة نابوليون في التاريخ العسكري أو آنشتين في الفيزياء – يقول الكاتب -..نفهم أن روتشايلد معروف من حيث مكانته كأمبراطور في عالم المال لكن خلفيته وتاريخ العائلة فضلا عن معرفة الجمهور بذلك تظلّ غائبة..اليوم يعلن هونغ بينع عن الخطر الذي يمثله روتشيلد على الاقتصاد الصيني عبر الحرب المالية..وبهذا سينظم إلى قائمة المتهمين بمعادات السّامية، الأداة الثانية بعد التهمة بنظرية المؤامرة كافيتان لتحصين نشاط روتشايلد الذي لا حدود له..يعتبر هونغ بينغ أنّ روتشيلد يهيئ لضرب الاقتصاد الصيني من خلال استغلال تراجع سعر الدولار وارتفاع سعر البترول والذهب..إنها الضربة التي يتوقعها الصينيون نظير ما تعرضت له اقتصادات النمور الأسيوية وربما حسب الكاتب ستكون الضربة أكثر..يرى الكاتب بأن الاقتصاد الصيني يشكل تهديدا لآل روتشايلد، وبأن هذه الأخيرة تنتظر الفرصة للإجهاز على الاقتصاد الصيني، كما يستنتج من انسحاب عائلة روتشيلد من نظام تثبيت سعر الذّهب سنة 2004 أنها تهدف إلى ضرب الاقتصاد الصّيني..

يتحدث الكاتب عن حرب العملات التي تخوضها عائلة روتشايلد التي بدأت منذ 18 حزيران 1815 قبل انتصار بريطانيا على نابوليون بساعات فقط في معركة “ووترلو”، حيث استطاع ناتان وهو الإبن الثالث لروتشيلد الذي علم باقتراب انتصار البريطانيين على الفرنسيين، قام باستغلال تلك المعلومة من خلال العمل على نشر إشاعة أنّ فرنسا انتصرت على بريطانيا- قبل أن تعلم بريطانيا نفسها بهذا الانتصار بـ24 ساعة – وهو ما تسبّب في انهيار بورصة لندن في ثواني، حيث قامت عائلة روتشيلد بشراء جميع الأسهم بأسعار متدنية، وهو ما أكسبها أرباحا طائلة في ساعات من الزمن..استطاعت عائلة روتشيلد السيطرة على ثروات القوتين العظمتين يومئذ: بريطانيا وفرنسا، ثم سرعان ما عبرت المحيط الأطلسي للقيام بالأمر نفسه لوضع اليد على الثروة الواعدة في الولايات المتحدة الأمريكية..تكمن منهجية آل روتسيلد في اعتقادهم بأن السيطرة على المال هو الطريق الملكي للسيطرة على القرار السياسي، يستدل هونغ بينع بعبارة ناتان روتشيلد:“ لم يعد يعنيني من قريب او بعيد من يجلس على عرش بريطانيا لاننا منذ ان نجحنا في السيطرة على مصادر المال و الثروة في الامبراطورية البريطانية فاننا نكون قد نجحنا بالفعل في اخضاع السلطة الملكية البريطانية لسلطة المال التي نمتلكها “.

يتطرق الكاتب الصيني إلى حرب المائة عام بين رجال الأبناك المتحالفين مع روتشيلد والرؤساء الأمريكيين منذ صدر قانون إنشاء البنك المركزي الأمريكي من قبل ويلسون سنة 1913..انتصر رجال المصارف المتحالفين مع روتشيلد وهي الحرب التي شهدت سلسلة من الاغتيالات التي طالت رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية(ستة رؤساء) ..تحدث ابراهم لنكولن عن وجود عدوين، أحدهما قوات الجنوب والثاني أصحاب البنوك المستعدين لطعنه من الخلف..كما يستشهد بكلمة جيفرسون بأنّ الخطر الحقيقي على حرية الشعب الأمريكي هو النظام المصرفي..

كتاب حرب العملات بهونغ بينغ سانغ هو صيحة صينية من داخل الولايات المتحدة الأمريكية تفكّك وضعية الصراع المصرفي الذي تخوضه عائلة مالية متمكنة من عصب النظام المالي..هناك تفاصيل كثيرة ودقيقة هنا، غير أنّ هذا يجعلنا ندرك مفارقة هذا الصراع الدولي..ففي القانون الدولي ندرك أنّ فاعلين جددا دخلوا مجال التأثير في العلاقات الدولية، غير أن الحقيقة هي أنّ الفاعل غير الدولتي كان دائما حاضرا ويجعل من مفهوم الدولة، الدولة العميلة للرأس مال..خاض آل روتشايلد حرب المائة عام ضدّ الرؤساء المنتخبين فربحوا المعركة وباتت الرئاسة ليست معطى عفوي لصناديق الاقتراع بل باتت صناعة يلعب فيها النفوذ المالي دورا كبيرا في الولايات المتحدة الأمريكية..تستطيع أن تدرك من هنا برودة أعصاب ترامب وهو يعلن قرارات مستفزة لملايين من الشعوب يقضي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ذلك كلّه لأنه يدرك قوّة النفوذ المالي التي تعلوا على هتاف الشعوب، إنّه يشعر بالطمأنينة التي توفرها القوة المالية الكبرى لآل روتشيلد، ويرسل رسائل تؤكّد أن السياسة هنا منذ انتصار المصارف على صناديق الاقتراع ، في خدمة آل روتشيلد..إنه مقاول يدرك سلطة المال على السياسة والأنام….يتبع

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *