الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / ذروة الإمبريالية(52)

ذروة الإمبريالية(52)

ادريس هاني

سوف يتم تجريد اقتصاديات الأمم من قوتها الضامنة: الذّهب، وليس بعيدا أنّ التهيّؤ لشراء الذهب بعملات لا تمثّل ثروة حقيقية هو آخر ضربة لسيادة الدّول بل نهاية الدّولة..إذا كان توماس مور قد قلّل من قيمة الذهب في يوتوبيا يحتلّ فيها العقل الرأسمال الأغنى فإنها في عالم روتشيلد هو الثروة التي يجب الاستحواذ عليها ولو اقتضى الأمر خلق عالم افتراضي مفصول عن الذهب الذي يراد له أن يخرج من أيدي الشعوب والأمم..ستعود البشرية إلى الذهب حين يكون آل روتشيالد قد اشتروه بثمن بخس كما فعلوا ببرصة لندن ذات قرن..وحينها سيبدأ طور جديد من العبودية..في يتوبيا توماس مور نقف على مغزى رمزي آخر، لعله رأى أفضل طريقة لسلب القيمة عن الذهب هو استعماله في خدمات دنيا أو ربطه بأوضاع مأساوية كقيود للسجناء..والحقيقة أنّ الذهب سيكون قيدا يوما ما للسجناء حين تفرغ الأبناك المركزية من احتياطي الذهب الوطني..لقد رأينا كيف أن الاقتصاد بات غير حقيقي، وفي هذا الخداع المتقن تصبح ثروات الأمم وجهود ملايين البشر وعرقهم في كيس اللاّعبين المصرفيين..

ينصح هونغ بينغ الصين وسائر الاقتصادات بشراء الذّهب وتخزينه بدل العملة الأجنبية..هذا سيمكن الصين حين يهتز النظام المالي العالمي في مأمن فوق أطنان من الذّهب..يؤكّد الكاتب في حرب العملات على أنّ الذهب هو من يوفّر الأمن لرأس مال الشعوب، وحتى التضخم لا يمكنه أن يقضم قدرته الشرائية الحقيقية..الذهب -حسب الكاتب دائما – هو حجر الزاوية الأساسية للحرية الاقتصادية لبناء مجتمع متناغم ومتوازن..وينهي هونغ بينغ عمله هذا بالقول بأنّ الشعوب هي التي خلقت الثروة وهي التي يجب أن تختار الطريقة لتخزينها، فالذهب ومنذ 5000 سنة شكّل الصيغة الأسمى للثروة عبر مختلف الحضارات والإثنيات ..كأن هونغ بينغ يحمّل الحضارة الصينية شرف هذه المعركة لإنقاذ اقتصادها واقتصاد الأمم من الفساد المالي العالمي..فالتحرر الاقتصادي يتحقق بحيازة الذّهب..

ويبدو من خلال كل هذه الشواهد التي سردناها أنّ الإمبريالية ماضية في معركتها لتصفية الحساب مع أمعاء فارغة للشعوب وخزائن دول مملوءة بثروات افتراضية..وهو ما يؤكّد على أنّ الغاية من كل حروب الإمبريالية ليس هو تمكين الأمم من دولة ذات سيادة طبقا لمنطوق الميثاق الأممي، بل إنّ السيطرة تقتضي استمرار الهشاشة وإعلان الحرب على الدولة الأمّة لا سيما في مجال التنمية..وحينئذ سيكون السؤال اليوم واضحا أكثر: هل الطريق إلى تنمية العالم الثالث ممكنة في ظلّ التهديد الذي ينسف الاقتصادات الكبرى نفسها؟ عن أي وسائل وأدوات وضمير تنموي نتحدّث في زمن يتطلب أقصى المناورة لحماية الاقتصادات الوطنية التي تكافح للتحرر والاستقلال، فكيف بالاقتصادات التي ترعى على الفتات على عتبة الاقتصاد الدّولي؟ الصراع الحاد الذي تخوضه الإمبريالية اليوم ضدّ الاقتصادات الصاعدة جعل الاقتصادات الهشّة تتهشّم تحت أقدام الديناصورات المصرفية..لقد اختفى خطاب العالم الثالث، بينما رأينا كيف تزمجر الإمبريالية ضدّ أي دولة تتحدّث عن السيادة الإقتصادية..إنّ فتح الأسواق التي هي النصائح اللاّتنموية التي يقدمها صندوق النقد الدولي لاقتصادات الجنوب هو مدخل لما يمكن أن نسمّيه: اللاّتنمية المستدامة أو التّخلّف المستدام(=

le sous- développement durable)..

لم تخل التجربة العربية نفسها من خطاب ثالثي متين أدرك أزمة النظام الدولي وعلاقات الشمال الممركز بالجنوب المهمّش..فالثالثيون العرب لا يقلّون أهمية عن نظرائهم في العالم، هنا سأجد الفرصة للتعريج على الفكرة الأساسية في فكّ الارتباط وتحليل موقع الاقتصاد التبعي في منظومة الاستغلال الإمبريالي عند سمير أمين وهو أحد المناضلين الثالثيين الذين ودّعوا العالم منذ مدة قصيرة..كما سأبرز نموذجا قلّ ما عرفه العرب للأسف عن رجالات ثالثيين مغاربة -المغاربة المنسيون دائما في ملحمة القراءة التصنيفية الممنهجة – لكن ثالثيين عالميين كبار يعرفونهم ويستفيدون منهم أكثر من العرب..سأضرب مثالا بمؤسس الدرس المستقبلاتي عربيا ومغربيا: البروفسور المنجرة حول الجواب عن سؤال: هل التنمية اليوم ممكنة بالنسبة للعالم الثالث؟ وسأثنّي بمؤسس الفكر الاقتصادي المغربي البروفسور عزيز بلال، وسأثلّث بمؤسس الدرس الفلسفي في المغرب البروفسور محمد عزيز لحبابي..كيف استطاعت مستقبليات المنجرة الجواب عن سؤالنا وكذلك كيف استطاعت فكرة “الغدية” عند الحبابي الجواب على ذات السؤال والتأسيس لفلسفة عالم – ثالثية تقاوم الإهانة بكبرياء المفاهيم، بينما سنرى كيف استطاع تحليل البنيات الكولونيالية الهجينة عند عزيز بلال أن تجيب على معضلة تنمية الجنوب….يتبع

ادريس هاني:8/9/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *