ادريس هاني
أي أمل سيبقى بعد كل هذا لتنمية الجنوب، وأي أفق للعدالة الدولية في بيئة نظام دولي يعمل في ظلّ ميثاق أممي حرّرته فئة معينة في غياب معظم دول العالم ولا يستجيب لحساسيتهم ومطالبهم الحقيقية؟..ما معنى أن يتساوى السيد والعبد في الحرية بينما شروطهما الاقتصادية تنتج اللاّمساواة؟..كيف يكون النظام الدّولي كونيا وعادلا وهو الذي جرى في سقيفة لم يحضرها من هم معنيون بتنفيذ مبادئه؟ قال مهدي المنجرة لا بدّ من إصلاح وضعية الأمم المتحدة وربطها بالقيم الكونية النسبية، وقال رولان أويل بضرورة إخراج الميثاق من المدرج وتعزيز وعي الشعوب بوجود هذه الفرصة التاريخية، وأرى من جهتي أن العالم يسلك عبر تناقضاته لنسف هذا الرهان ولا بد من المقاومة لتجاوز وضعية الخضوع، وبينما يجري القيل والقال حول أزمة النظام الدولي في ذروة الإمبريالية فإن محاولة صناعة الحلول من داخله كانت ولا زالت هي جوهر أطروحة جان راولز عن فكرة العدالة، فأما أمارسيا صن فهو في معالجته النقدية التي ترمي أيضا لتعزيز تعددية الثقافات يشير إلى دعواه القاضية بوضعية أصلية جديدة..ولا أريد أن أتورّط في هذا النقاش الذي فجّره راولز حيث أفردت له نقاشا خاصّا في مورد آخر، ذلك لأنّ الأمل في إجراء إصلاح في النظام الليبرالي من الدّاخل أهون منه في المسرح الدّولي، لأنّه في الحالة الأولى لا تستطيع القرارات أن تتجاوز ولو سطحيّا قواعد اللعبة الديمقراطية، الأمر الذي لا يحدث على المسرح الدولي حيث تتراجع قيمة الديمقراطية والنّقاش..إنه كما ذكرنا نظام دارويني بامتياز..أمام كل هذا نتساءل: أي أفق يا ترى لتنمية العالم الثالث في ظلّ وضعية الهيمنة الإمبريالية وغلق المنافذ؟ فالتنمية لا تتحقق في إطار التّبعية التي تجعل الأطراف تدفع ثمن الانهيارات الكبرى لاقتصاد المركز..ولا يمكن تحقق التنمية في ظلّ سياسة إعادة الجدولة التي ترهن اقتصادات دول الجنوب إلى عبودية المديونية تحت طائلة الدين ومستحقاته؟ فالأمر لا يتعلق بفرصة بل ببنية منتجة للأزمات..منذ نشأته لم يكن اقتصاد الأطراف مؤهّلا للتنمية في ظروف طبيعية..في كتابي “العرب والغرب” تحدثت بما فيه الكفاية عن اليأس من أنماط التنمية في دول الجنوب، وعن أي مستقبل هو ممكن لتحقيق إقلاع لا يوجد إلاّ كأحلام يقظة تمنحها إملاءات صندوق النقد الدولي لاقتصادات الجنوب..المسألة الأساسية التي لفتت الانتباه إليها يومئذ هو أن الشمال والجنوب وجدا في سياقين مختلفين..فالتنمية في الجنوب تخضع لرقابة وممانعة من مركز معني بالتحولات التي تجري في منظومة الاقتصادات الثالثية..كان الغرب غداة نهضته الصناعية يعيش على سبيل التنافس وكذلك الحروب لكن الاقتصاد لم يكن مغلقا في ظل نظام محكم يلعب فيه الجنوب دورا وظيفيا لصالح المركز..كانت التنمية في الغرب نتاج نهضة، وهذه النهضة سلكت مسلكا طبيعيّا نابعا من مخاض داخلي..فلكي نتحدث عن أي تنمية نريد كان لا بدّ من مساءلة النظام الدولي والبيئة الدولية عن مدى إمكانية تحقيق تنمية ثالثية من دون فواتير معيقة..هو ذا أمل الجنوب، تنميته ومستقبلاته..إن تنمية الجنوب باتت بلا أفق، كان هذا أمرا واضحا منذ السبعينيات والثمانينيات، أمّا اليوم فإنّ مصير النظام الاقتصادي الدولي يتجه نحو الانتحار..عن هذه البنية المحلّية غير المؤهّلة وعن ذاك الأمل المأمور والمستقبل الخاضع لما أسميناه بالفجور المستقبلي للإمبريالية الملوّثة للبيئة والدّماغ أتوقّف عند الأطاريح الثالثية العربية، حيث الغرض منها ليس تحيين خطاب العالم الثالث بل تحسين ما تبقّى منه وإعادة توزيعه وفق معطيات ومفاهيم راهنة..
في طليعة تلك المحاولات تأتي آراء سمير أمين التي عالجت مأزق التنمية في إطار علاقة الشمال والجنوب المحكومة ببنية قارة تنتج اللامساواة..المنطلق الأساسي لرصد العلاقات اللاّمتكافئة في النظام الدولي هو عدم وجود سوقين عالميين، بل هناك فقط سوق رأسمالي واحد..يتحدث سمير أمين هنا في سياق ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، زمن الكوميكون، لكن ستتضح تلك الحقيقة أكثر اليوم حيث الاقتصادات الاشتراكية وعلى رأسها الصين لم تنتج سوقا خاصة..
يتبنّى سمير أمين المقاربة الراديكالية الماركسية، هو نفسه يعتبر ذلك هو القراءة الصحيحة حيث أنشأ في دكار في أواسط الخمسينيات المعهد الأفريقي للتنمية الإقتصادية والتخطيط، رسم هدفا أمامه ألا وهو القيام بمشروع تدريبي يهدف البحث والاستكشاف من داخل النص الماركسي عن خيارات ماركسية راديكالية للمستقبل، كان يراها خيارات ممكنة بعد حركة استقلال الدول الأفريقية والأسيوية والأمريكية اللاتينية..يعتبر سمير أمين أنّ ماركس وفّر تلك الرؤية التي تستطيع أن تقدم مخرجا في كل الحقب وذلك بناء على رؤيته التأسيسية الراديكالية في النقد الاجتماعي، بتعبير آخر كأنه يدعو إلى تمثّل النّص الماركسي وليس إعادة تفسيره مما يعني أنّه وخلافا للماركسيات المتجددة – اشتراكية ديمقراطية، ماركسية بنيوية – يعلنها ماركسية راديكالية تلغي كل الخيارات الأخرى..ماركسية سمير أمين فيما يفهم من محاولته لا زالت طرية لم تمت في كل العصور، يزعم أنه قرأ الرأسمال في حقب متفاوتة منذ انبعاث الجنوب ومؤتمر باندونغ حتى إعلان انهيار النظام الرأسمالي..هنا يبدو أن ماركس لا زال مشروعا لم ينجز..والحاجة إلى مختبرات جديدة لاستكشاف ما لم يدرك من معاني تلك النصوص..من هاهنا وجب فهم محاولته في نقد نظرية التّخلف..سعى سمير أمين لفهم النظام العالمي خارج منطق المركزية باعتباره يشكل كلّا واحدا من حيث أنّ الأطراف هي جزء من هذا النظام فلا يصار للقول أنها غير منخرطة في عملية التراكم لمجرد تباين بنياتها عن الرأسمالية..إن عملية التراكم على الصعيد العالمي تتحقق بتدفق غير مكشوف للقيمة المضافة من المحيط إلى المركز..كان همّ سمير أمين هو تطوير نظرية التراكم على المسرح العالمي التي دشنها لينين في كتاب الإمبريالية وكذلك محاولات روزا لكسامبورغ وباران وغيرهم من خلال إضافته للعلاقة بين ما يجري من تحولات في الجنوب في علاقته بالمركز..ويبدو أنه لا أمل من حدوث أي تغيير في موقف المركز من الجنوب، فالأمبريالية بوصفها كلّيانية تفرض وضعا ممتنعا لظهور أي موقف تحرري، بل حتى مثل هذه المشاريع تقوم في المركز على أساس نهب الجنوب..تبقى مسألة التحرر من الهيمنة الرأسمالية القائمة على نهب الجنوب مهمة تاريخية تقوم بها حركات التحرر ومن هنا اعتقاد سمير أمين وكثيرون أيضا بالدور التاريخي للصين بدل الاتحاد السوفياتي الذي راهن على الأحزاب الاشتراكية الأوربية والعالمية وليس على حركات التحرر في العالم الثالث..يقدم سمير أمين وصفة حاسمة للعالم الثالث قوامها فكّ الارتباط، لأن التنمية وفق معايير النظام الرأسمالي العالمي مستحيلة، فلا بدّ من مقاومة الخضوع وبناء نموذج تنموي مستقل بناء على قيم مخالفة للمركز..
تبدو مقاربة سمير أمين وفيّة لنظرية الصراع الطبقي وهو بذلك سيجد نفسه في وضع ناقد للقومية باعتبارها صناعة للدولة التي تنشأ قبلها بينما كانت قبل نشأة الدولة الوطنية شكلا من الأرستقراطية، وهذا يؤسس بدوره للشوفينية..لكن سمير أمين ودفعا للمفارقة التي يفرضها الواقع قال بإمكان وجود حركات قومية يمكن استعمالها في عملية فكّ الإرتباط..
ملاحظتي غير النهائية على سمير أمين هو أنّ نظرية التراكم على الصعيد العالمي كما طوّرها هذا الأخير، تفرض تجاوز راديكالية اختزال مناهضة المركز الرأسمالي العالمي على أساس طبقي، ذلك لأنّ المشكلات الطبقية في المركز تختلف عنها في الجنوب ناهيك عن قوله بخيبة الأمل من وجود حركة تحررية في المركز، وإذن إن كان ذلك يتوقف على حركة تحررية عالمثالثية ، فإنه يفترض العودة إلى ما أسماه غرامشي بالكتلة التّاريخية..وتبدو أن الراديكالية أينما وجدت فهي تعيق الكتلة التّاريخية التي لعبت دورا كبيرا في التحولات التي عرفها العالم..ثم كيف يتحقق النهوض العالمثالثي الشّامل من دون دوافع وتكتلات قومية، يكفي أن نتذكر خطاب ستالين الذي وجهه إلى الشعب الروسي في المذياع لمواجهة النازية وهي قاب قوسين أو أدنى من موسكو: “دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي”..
وتبدو نظرية سمير أمين في خدود فكّ الإرتباط مهمّة ومبدئية ولو على مستويات مختلفة تحددها إمكانيات دول الجنوب، غير أن ذلك من شأنه أن يوسّع من مساحات الاستقلال والتحرر وهو في حد ذاته يشكل ضربة للنظام الرأسمالي من الخارج..لكن ستجد الحلول العملية الممكنة والواقعية الممكنة هنا صعوبة في هضم المقاربة الراديكالية التي لا تنتج تكييفانيتها الخلاّقة من داخل معادلة الصراع..ففي العالم الثالث توجد تيارات وآراء وقوى، وإنّ العالم الثالث لن ينهض إذا وقع في ملحمة الهدر لطاقاته في صراعات قبلية عمن هو حقيق بدحر الإمبريالية..فالإمبريالية تمارس فعل السيطرة انطلاقا من كتلة تاريخية تستعمل فيها كل القوى، وسنجد أنه حتى في العصر النيوليبرالي الذي يعتبره سمير أمين عودة إلى الكومبرادورية، نجد تحوّل قسم من اليسار في العالم الثالث إلى حليف للإمبريالية يشاركها ذات المفاهيم والشعارات وينخرط في مشاريعها عن سبق إصرار وترصّد……يتبع