ادريس هاني
حاول سمير أمين أن يدرس معضلة العالم الثالث خارج ثنائية المركز/الهامش كثنائية منفصلة أي نظر إليها ضمن جدلية التكامل وتبادل الوظيفة. وتبدو فكرة الإرتباط هنا فكرة عامة وثورية لكنها لا تقدّم تحليلا لما عمله المركز في اقتصادات الجنوب قبل أن يلحقها به برسم التّبعية، غير أنّنا سنجد رؤية أخرى تذهب في اتجاه تحديد ملامح معضلة الاقتصاد الثالثي بوصفه حالة خاصة تعكس التأثير السلبي للاستعمار على تشكل البنيات التاريخية لهذه الاقتصادات..يمثّل عزيز بلال إسما بارزا في مجال التنظير للعالم الثالث، ليته أطلّ من قبره على مصير الحزب الذي مثّل أحد قيادييه المؤسسين، -الحزب الشيوعي المغربي سابقا -، حيث يسلك في منظوره منحى نقيضا لمنظور عزيز بلال الذي كان أكثر فهما للبنية العميقة للاقتصاد الكولونيالي..يعتبر عزيز بلال مؤسس الفكر الاقتصادي في المغرب، عالمثالثي يجهله العرب ولكنه لا يجهله كبار منظري العالم الثالث ونقاد الإمبريالية في أوربا والاتحاد السوفياتي وأمريكا اللاتينية.. ربما لأنه كتب بالفرنسية وكتبه الأساسية لم تترجم بعد وهذه من مسؤولية يتحملها حزب التقدم والاشتراكية وأيضا “مركز عزيـز بـلال للدراسات والأبحاث”..واضع أسس الضمان الاجتماعي حيث كان كاتبا عاما في وزارة التشغيل التي يديرها اليوم حزب رجعي يفتخر بأنّ عهده استطاع أن يقنع صندوق النقد الدولي بمنحه قروضا إضافية..كما كان يتبجّح بعضهم بتطور معدّلات النموّ تلك التي جاءت كحصيلة تلقائية لمردودية الخوصصة الجنونية..
مات عزيز بلال في ظروف غامضة وفي سياق يتعلق بالشّأن العام..تولّة مسؤولية رئيس جماعة عين الذئاب بالدار البيضاء..في 1982 قال كلمة على هامش مناظرة بالرباط حول:”نظريات التنمية..الأزمة والعالم الثالث” وفيها قال وكأنّه استشعر قرب الأجل:”إن المشروع التاريخي قد وجد وسيستمر وجوده في ضمير جماهيرنا وشعوبنا التي أصيبت بخيبة أمل كبيرة، سواء أكتبت لنا الحياة أو الممات”..دُعي بعدها لحضور منتدى بمناسبة توقيع اتفاقية توأمة بين شيكاغو والجماعة التي كان يمثلها..تزامن ذلك مع الامتحانات باعتباره أستاذا حرص على المزاوجة بين التدبير الجماعي والتدريس..دعى المنظمين من أجل تأجيل ذلك لكن المنظّمين رفضوا التأجيل كما رفضوا أن يبعث ممثّلا عنه..سافر عزيز بلال إلى شيكاغو ثم سرعان ما تحدثت وسائل الإعلام عن اندلاع حريق في فندق هلتون المصنف الذي نزل فيه، وهكذا رسمت نهاية عزيز بلال المناضل الثّالثي المناهض للإمبريالية وأحرق ملف التوأمة ذاك..وحين وصوله إلى شيكاغو كان يائسا من آفاق هذه التوأمة لمعرفته المسبقة بعدم تكافئها..قال حينئذ في دردشة مع أحد منتخبي مدينة شيكاغو بأن الأمر هنا يتعلق بشراكة غير متكافئة بين مدينة متوحّشة وأخرى سائرة في طريق التّوحّش..
لا أحد يعلم سرّ هذه النهاية المأساوية..أخبرني أحد الرجالات الذين أدركوه، لا أدري أين اختفى هو الآخر هذه الأيّام، بأنه حذّره من الذهاب إلى هناك..هل كان ذلك سببا في طلبه لتأجيل الرحلة أم يأسه من هذه التوأمة اللاّمتكافئة والتي قد يرى من خلالها مُنظّر ثالثي ذات الفجوة التي تفصل العالم الثالث عن دول الشمال الرأسمالي؟ لا أدري، غير أنّ الأمر كان مأساويّا.
تعرّفت على قيمة الأفكار التي طرحها عزيز بلال من خلال تأثير أفكاره على أحد أبرز المنظرين الاقتصاديين الروس، أعني يوري بوبوف، فلقد لاحظت أنّ نظرة هذا الأخير عن بنية اقتصادات العالم النامي تكاد تكون متوافقة مع عزيز بلال، وكان من الطبيعي أن يحصل هذا التأثير من عزيز بلال وليس العكس، حيث قرأت كتابا يومها صدر عن دار التقدم بموسكو، كتابا مشترك بين عزيز بلال وأندري بوبوف عام 1987، تحت عنوان: “La formation du sous-développement passé, présent, futur”..الكتاب الذي كان له الأثر الكبير على تطوّر فهمي لتكوين التخلّف في المجتمعات النّامية خلال الثمانينيات، وفي هذا الكتاب كان يوري بوبوف يصف عزيز بلال بعبارة “أستاذي بلال”..يظهر التقارب في وجهات النظر بينهما كما في كتاب يوري بوبوف “دراسات في الاقتصاد السياسي الإمبريالية والبلدان النامية”، وهو كتاب تعريفي تقريبا وفيه يؤكد على أنّ مفهوم العالم النامي متشعب ولا يمثل فئة واحدة من الدول ، فهناك الأكثر تقدما من الناحية الصناعية وهناك الأقل والتي لا زالت تعمل وفق أنماط زراعية، كما يشير إلى دور الإستعمار والاستغلال، ولا يرى أن هناك خصائص لما يسمى العالم النامي لأنه ليس له نموذج اقتصادي مستقل..سنجد في مقاربات عزيز بلال تفكيك أبعد مدى للبنيات الاقتصادية لدول العالم الثالث..
يحمل عزيز بلال ذات التّصور الذي يحمله أي مناضل ثالثي ضدّ آثار الاستعمار على مصائر النمو في الدول النّامية..فمرحلة الاستقلال هي فرصة تاريخية، لكنها فرصة تتطلب بناء اقتصاد حديث متحرر من تلك الآثار..غير أنّ اختبار آراء منظري العالم الثالث تكمن في قوة الحلول والاقتراحات التي يقدمونها في مجال النظرية والبراكسيس أيضا..إنّ الفكرة الأساسية التي سيعبر عنها بوضوح في ( L’investissement au Maroc (1912-1964) [compte-rendu]) ” الاستثمارات الأجنبية بالمغرب خلال فترة الحماية ومطلع الاستقلال (1912-1964)”، عنوان أطروحته الأكاديمية هي دور القرار السياسي في تحقيق الإنخراط الكامل في استراتيجية التنمية، فهذه الأخيرة لا تتوقف على خيارات تقنية ضمن الخيارات المختلفة بقدر ما تتوقف على قرار سياسي حاسم..وهنا لا يكفي تقديم حصيلة عن الاستقلال السياسي بل يتعين تحقيق الاستقلال السياسي الفعلي..القاعدة الأساسية التي تجعل التنمية مثمرة وناجحة هي القرار السياسي وتعزيز الاستقلال الفعلي وهما عاملان يفيدان في الإجابة عن أواليات وشروط فكّ الارتباط التي أثارها سمير أمين كما تحدثنا آنفا..قوة التنظير وعمق البراكسيس كافيان ليجعلان من عزيز بلال صاحب رؤية أكثر عملانية وأقلّ راديكالية وطوباوية في وضع اليد على مكامن الجرح في جسد الاقتصاد الثالثي..وخلافا لمن كان يحدد مخرجات النظرية في حلول اقتصادية محض كان عزيز بلال يوسع من نظرته تلك لتشمل الأبعاد التاريخية والاجتماعية لعملية التنمية، ولذا سوف يقدم ما يشبه خريطة طريق للخروج من الجمود إلى تنمية حقيقية في كتابه ” العوامل الغير اقتصادية للتنمية”، خريطة طريق تنطلق من ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنّ التخلف هو نتيجة مسار سوسو-اقتصادي وتاريخي……يتبع
ادريس هاني:10/9/2018