ادريس هاني
ليس التخلف في نظر عزيز بلال هو نتيجة إخفاق في تطبيق نموذج اقتصادي بل هو حصيلة تراكم سوسيو-تاريخي ناتج عن الانقلاب الذي سببته الإمبريالية بخصوص البنيات الماقبل -رأسمالية(précapitaliste)..الانقلاب الناتج عن الأثر الاستعماري على بنيات اجتماعية لم تكن تحمل ذات خصاص المجتمعات الغربية، وهو أمر ناتج عن تطوّر طبيعي للرأسمالية في المرحلة الإمبريالية..تكمن قيمة المقاربة البلالية في استحضار التّاريخ وفق منظور أكثر تفصيلا وتمييزا بين مسارين تاريخيين للمجتمعات قبل الثورة الصناعية: أحدهما يعنى بأوربا واليابان حيث التطور الطبيعي الذي انتهى إلى نشأة الرأسمالية، والمسار الثاني يتعلق بمجتمعات تعاني حالة التقهقر بعد أن مرت من أطوار حضارية..تجلّيات الفكر التاريخي هنا تعزّز رؤيتين يتعين الانطلاق في إطارهما لتوفير إجابات ممكنة عن إشكاليات مزمنة..من جهة فإنّ في محاولة بلال ملامح الإجابة عن السؤال الويبري من منطلق التمييز بين نمطين تاريخيين: لماذا ظهرت الرأسمالية في الغرب ولم تظهر في غيره..كان ويبر قد أعطى تفسيرا يميل إلى بنية الأخلاق الدينية البروتستانتية أكثر مما قارب الموضوع من وجهة نظر الفكر التّاريخي، لكننا مع عزيز بلال نستطيع أن ننطلق باتجاه آفاق تمنحها الجواب على تلك الإشكالية، وهي أنّ المسار التاريخي الما-قبل صناعي لتلك الدول التي عانت حالة التقهقر لأسباب معيّنة كانت تخضع إلى قوانين تاريخية ساهمت في تشكيل التّخلّف..نحن أمام قوانين تاريخية إحداها للتطور الرأسمالي والأخر للتخلف، فالتقدم تاريخي والتخلف أيضا تاريخي..من هنا ضرورة استيعاب هذين المسارين من أجل تجاوزهما..معرفة تشكل التخلف ومعرفة منطق تحول الرأسمالية إلى إمبريالية..ويمكن أن نفهم من مقاربة عزيز بلال في تشكّل التخلف وتعزيزه بأنّ الإمبريالية ساهمت في ذلك نظرا للدور التخريبي الذي طال البنيات السوسيو-اقتصادية ما قبل -الرأسمالية في البلاد المستعمرة، نحن أمام فعل مزدوج لتشكل التخلف: التاريخ الخاص بهذه البنيات والتّاريخ الإمبريالي الذي غير وجهة التاريخ الخاص لهذه البنيات..لسنا أمام مسار واحد بل أمام مسارين ساهم في تشكيل التخلف الذي يسميهما عزيز بلال بالمسلسل السوسيو- تاريخي( processus socio – historique) لبنية التخلف..ليس الاختلاف في المسارات التاريخية وحده يساعد على فهم تشكّل التخلّف بل هناك اختلاف في ملامح تلك البنيات نفسها، وهذا ما سبق وأشرنا إليه في حديث يوري بوبوف عن اختلاف وضعية المجتمعات النّامية، وحسب عزيز بلال هناك اختلاف عبر القارات الثلاثة بين هذه البنيات الذي يظهر في مستوى التفاوت الطبقي الذي بدا أكثر وضوحا في المثال الأسيوي بخلاف الأفريقي، وهو ما يجعل التأثير على تلك البنيات يختلف من بلد لآخر..على هذا الأساس ليس التخلف حصيلة تموضع خارج قوانين التطور الرأسمالي بل هو تشكيل مزدوج يتقاطع فيه التقليدي بالحديث، وهذه الازدواجية أو لنقل التداخل يجعل بنية التخلف لا هي تقليدية خالصة ولا هي حديثة تماما..وهذا ما يجعلنا نستنتج من الرؤية البلالية أننا أمام بنية هجينة يلعب فيها هذا التداخل دورا وظيفيا لتعزيز التّبعية..وبالتالي كما ذهب عزيز بلال لا يمكن أن تنحلّ معضلة التخلف عن طريق عصرنة القطاع التقليدي، باعتبار أن ذلك سيصب في المشروع الرأسمالي..لكن ما العمل يا ترى؟ هذا هو السؤال الذي نطرح على مقاربة عزيز بلال؟ هل الازدواجية هي نتيجة مسارين متداخلين أم أنّنا أمام محاولة إرغامية نابعة من مسار تاريخي واحد يتكامل فيه دور الغلبة ويفرض فيه مطلب التّتبيع وجود بنية تناقضية تحرس تخلفها حراسة ذاتية؟ ففي رأيي أنّ الأمر يتعلق بمسار واحد بوجهين، حيث التاريخ هو حصيلة مسار يتكامل فيه دور الغالب والمغلوب.. لقد حاول عزيز بلال التركيز على العوائق الناتجة أيضا عن البنيات الفوقية في مجال التنمية، فمقاومة عوامل التخلف الاقتصادية لا يتحقق من دون مقاومة عوامل التخلف الثقافية والأيديولوجية..وهذا ما سيقوده إلى تقويض المركزية الغربية ووهم تفوق الحضارة الغربية الذي يعتبره مجرد حصيلة انتصار النموذج الرأسمالي على الأنماط ما قبل الرأسمالية حمل معه تصورا جديدا لنمط الحياة الإنسانية..لم تستطع الإمبريالية اختراق البنية القيمية للمجتمعات المحلية التي حافظ الكثير منها على موقفه من الغزو القيمي في بلدان العالم الثالث..التخلف إذن في نظر عزيز بلال ليس خارج التاريخ بل هو جزء من تاريخ الرأسمالية..هو حصيلة تكوّن وتكوين إن صح التعبير..ليس التخلف تأخرّ بل هو نتيجة لعلاقات تاريخية تساهم في إعادة إنتاج تلك البنية..فحتى البنية الرأسمالية الطرفية التي تتداخل مع البنية التقليدية في علاقة تبادل وظيفي تصبح في خدمة أو لنقل تكامل مع الرأسمالية المركزية..تلوذ الجماهير بتراثها نتيجة التهميش في موقف نفسي يسببه ما سماه بتنمية التّخلّف(développement du sous–développement)، ذلك لأنّ عزيز بلال لا يتحدث عن اثنينية بين القطاع الحديث والقطاع التقليدي، وهنا يبدو من خلال ما نستنتج من آراء عزيز بلال انّ لا قيمة لفكرة مراحل التطوّر لأن مثل هذا الطموح الدائم لا يفعل سوى أن يشدّ هذه الأطراف بروابط التبعية الدّائمة لأنّ التخلف وفق هذا التشكيل الناتج عن تدخل الإمبريالية هو اليوم يتكامل معها وظيفيا..
وجب وضع مقاربة عزيز بلال أيضا في سياقها التّاريخي، فهي هنا تتميّز بخروجها عن نمطية العامل الواحد في تفسير تشكل التخلّف كما توازي بين استراتيجيتين: فهم تشكل التخلف وكذلك فهم تطور الرأسمالية وآليات الإمبريالية، وهو لهذا نظر إلى البنية الفوقية ومنحها دورا كبيرا في فهم عوائق التنمية، لكنها تحمل جوابات على مفهوم فكّ الإرتباط، وتقدّم تأويلا خارج ما راهن عليه سمير أمين، أي النظرة الراديكالية التي تستبعد التّأويل..لقد راهن عزيز بلال على وحدة الصّف العربي في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، وهو ما يؤكد على قناعته الضمنية بالكتلة التّاريخية وذلك واضح من خلال قوله: “وعلى غرار كفاح الشعب الفيتنامي، وإن كان ذلك في ظروف مغايرة، فإن كفاح الفلسطينيين إلى جانب كفاح الشعوب العربية الأخرى، أصبح يأخذ بعدا عالميا على اعتبار أن نهاية إسرائيل، هي من الناحية الجدلية، مرهونة بتصفية المصالح والتأثير الإمبريالي في تلك المنطقة من الوطن العربي ذاتسالأهمية الاقتصادية والإستراتيجية الحيوية لكل حركات تحرير الشعوب”..
إنّ المشروع الصهيوني في نظر عزيز بلال هو ذو صلة وثيقة بالاستراتيجيا الإمبريالية ضدّ الشرق العربي..
تكتسي مقاربة عزيز بلال حين توضع في سياقها الزمني مثالا للمرونة العميقة والقويّة التي تجيب بعمق عن إحدى أهمّ أسس النضال ضدّ التخلف ألا وهو فهم جوهره، وكذلك فهم آليات الإمبريالية التي وجب أن لا ننظر إليها هناك بعيدة عنّا بل هي كامنة في نسيج تشكيلنا المتخلّف كما سأوضح ذلك أكثر حين أبدي رأيي النهائي في الفقرات المخصصة لذلك…..يتبع