ادريس هاني
ليس من قبيل الصدفة أن يتغيّر كل هذا النّشيد الذي جعل التمجيد بالرأسمالية يكاد يكون السّمة الرئيسية للشطر الأخير من القرن التاسع عشر..كان ذلك يوم كانت الرأسمالية حقيقية تقوم على مخرجات الثّورة الصناعية قبل أن تصبح رأسمالية وهمية وهو ما يؤكّد على انهيارها كحقيقة وما تبقّى هو وهم تكرّسه بسطوة الهيمنة الإمبريالية..كانت الرأسمالية عقيدة وللثروة قدسية منذ كتب أندري كارنيجي عن “إنجيل الثروة”..فمن كان حقيقا بكتابة إنجيل ثورة العالم الثالث سوى الفيلسوف..وهذا ما جعل الفيلسوف والمثقف العضوي يغرق في بحر النسيان في المراكز الإمبريالية..التهميش، التجاهل، الإهانة، ولكنه ينتعش في العالم الثالث كطليعة الوعي..مثل هذا الذي كان يحدث هو اليوم في تراجع..عادت السياسوية لعادتها الإمبريالية: إقصاء المثقف..ليس المثقف المستقيل بل المثقف المنتمي نفسه..غيفارا يحترم سارتر ودوبرييه..ثالثيو اليوم يبحثون عن الرّداءة الصّاخبة..يحصل هذا في زمن الرّدة وغلبة إنجيل الثروة على إنجيل الثّورة..سنحاول كما قال روبنيه أن ننصت للحبابي، هذا الثالثي الذي يترجم ثورة الجنوب إكزيستانسياليا، ويعلن التحدّي احتجاجا، ويصف مزاحمة الرأسمال للمعنى في لغة تنسج ميثاقا غليظا بين الشّعر والثّورة..نشأت الفكرة نهاية الستينات حين طارح لحبابي بورقته مع لفيف من مفكري العالم من إيطاليا وفرنسا وأمريكا أمثال بورغن مولتمان و رتشاردهير وغابرييل مارسيل وجان فوراستييه وجان بول سارتر في الملتقى العالمي بروما والذي تأجّل قليلا ليستئنف المناظرة..
علينا إذن أن نتكلّم، أن نزعق لأنّ من لم يقل شيئا في نظر لحبابي فهو يقبل بكلّ شيء..لم يعد إذن هناك من سبب معقول لاستمرار التهميش..من غير المعقول أن يظلّ “أولئك الذين حطّم البؤس فقارهم منبوذون كلّيا من اللعبة”..إنّ تخلّفنا يساهم في رفه الغرب..لسنا أبرياء طبعا، فالفيلسوف لا يرحّل المسؤولية من كاهل الضعفاء إلى كاهل الأقوياء، لكن ثمة شواهد كثر على ما يقرّ به فيلسوف كالحبابي مثله مثل كل الثالثيين بمن فيهم المنحدرين من الاقتصاد السياسي وهو أنّ وضعيتنا كمتخلّفين ليست كلها من صنعنا..وما ينبغي القيام به من فضح جرائم الغير لا يرفع المسؤولية عن المتخلّف..تلك هي الحقيقة..”أيتها الحقيقة المقدّسة: صلّ من أجلنا”..غالم الغد الذي يبحث عنه لحبابي هو من أجل نموذج إنساني مختلف، والمجتمع في هذا العالم غير تقاني حتما..علاقة الشمال بالجنوب هنا ليس على ما يرام..والمقتل في المساعدة بالديون..وكلما اقترض العالم الثالث ازداد فقرا..هذه وضعيته منذ عام 1960 لم يتوقف الدين الخارجي عن تلك البلدان، لكن الفقر زاد بمعدلات مرعبة..والمخرج من هذه الديون هو بمزيد من الديون حيث الدائن دائما هو نفسه..سيتم ذلك بشروط، أهمها السوق الحرّة حيث تمكن القوي من الفوز بالمزاحمة..والقوة هنا برسم تفوقه الصناعي والعسكري لا برسم الإنسانية..ثمة انغلاق غربي على نفسه جعله عاجزا عن فهم الثقافات الأخرى..فالاحتكار تعدّى ليكون احتكارا للثقافة والهوية واجتثاثا للآخر..وللقضاء على التخلّف يتطلّب الأمر فهما وتقديرا للهويّة..فالتنازل عن الهوية مقابل شبح مغازل لن يحل معضلة التّخلّف..
لا بدّ من فلسفة لتنمية العالم الثالث..الأمل في استئناف التأمل..والفلسفة في نظر لحبابي الذي خبرها ومارسها بداغوجيا وبالفعل هي أسلوب حياة..لم نخلق فلاسفة ولكننا نتفلسف ونحن نمارس الحياة..عالم الغد يتجاوز خطاب العقل، هذا الأخير ليس دائما مقنعا..مكانة الإنسان هي الأهم على الإطلاق من كل تقدّم وأسمى من معجزات العلم..ففي نظر لحبابي أيضا أنّ الحرب تمارس بالأسلحة والجنود ولكنها أيضا تمارس بالفلسفة..وللظفر بعالم غد لا بد من إعلان نهاية تاريخ وبداية آخر..طالب لحبابي بنهاية التاريخ قبل فوكوياما ، وكان قد رأى لوفيفر يعتبر أننا ندخل عصرا سيكون هو نهاية التاريخ، ولكن لحبابي دعا إلى إنجاز نهاية تاريخ بالفعل من أجل تاريخ مفتوح على الصيرورة أي على أرضية مختلفة وغاية أسمى، تماما كما تحدث المنجرة عن صدام الحضارات قبل هنتنغتون على أرضية فلسفية مختلفة..القاسم هنا هو المستقبل: غدية لحبابي ومستقبلية المنجرة الباحثة عن بديل في صلب القيم الإنسانية الخالدة..الصيرورة هي تلك الحقيقة..بما أن الإنسان هو صاحب القدرة غير المتناهية عن التّقلب..لا نبحث عن الحقيقة لأن ذلك ليس هو غاية الفلسفة كما ذهب سبينوزا بل نبحث في الحقيقة التي يراها لحبابي كامنة في الصيرورة..ليست كل فلسفات الإنسان تصلح لعالم الغد..علينا أن نبحث عن تلك التي تمتلك تلك المؤهلات..المهمة تتطلب جردا لأهم الفلسفات المعاصرة..إنّ الصيرورة تجرف كل أشكال الأيديولوجيات..كل الحروب تخاض وفق أيديولوجيا تمنحها الشرعية..لا شيء خارج الصيرورة..
لكي يخرج العالم الثالث من الجحيم عليه أن يفهم أن الفقر لا يعني التخلف..ففي كل المجتمعات بما فيها المتقدّمة يوجد بؤساء..إنما عالم الغد المتوقع أن يكون التشغيل حقّا للإنسان..حق لا يقف عند إدماجه في الدورة لصالح التنمية بل من أجل إثبات وجود غايات تتجاوز العامل نفسه..إنها ممارسة الإنسان لوجوده في الشغل، القضية الأساسية التي يجب أن يستدخلها علم الإقتصاد، أي تعزيز علاقة الوجود بالشّغل..نحن أمام شكل إذن من السارترية نجدها في طيات دعوى الحبابي، وتحديدا في فهم ماهية الكائن..الماهية التي تتحدد بالعمل..
فرق بين ما تدعوا له أيديولوجيا الرأسمالية وما هو واقع بالفعل..حرية ومساواة بين القوي والضعيف تذكرنا بوضعية وجود الذئاب الحرة مع الخرفان الحرة..,,إنها أخلاقيات الخروف الحرّ كما يسميها فيلسوف الغدية..فلسفة عالم الغد يجب أن لا تنطلق من أي نسق مسبق بل هي في حالة شكّ منهجي في علوم الإنسان كما في علوم الطبيعة..تحتاج الفلسفة الغدية أن تمشي مجددا على رجليها لترى وقائع الإنسان على الأرض..التواصل وتحقيق التضامن العالمي مهمة أخرى للفلسفة الغدية..تجاوز لحبابي هنا السلطة الأرسطية والأفلاطونية لا سيما حين تعتبر هذاه الأخيرة أن اللوغوس وحده القادر على العقلنة حتى لما لا تكون له علاقة بالواقع الخارجي..والرأي الراجح عند لحبابي هو ما يراه هيروقليطس: اللوغوس سيرورة تماما كالطبيعة لذا فهو في صيرورته يطابقها..أما لحبابي فهو يضيف:بأن اللوغوس في سيرورته يطابق ” الإنسان الكائن الصانع للتّاريخ”..تهدف الفلسفة الغدية إلى توجيه المستقبل خارج الاتجاه الشبقي للحضارة القائمة على التصنيع التي يراها سببا في تدمير دول الرفاه للعالم الثالث..إنها حضارة تضمن الرخاء ولكنها لا تضمن السعادة..تكمن غاية الغدية في التأكيد على العالمية وبأنّ الشعوب لن توحّد طالما ظلّت الحكومات هي من يمثلها في المنظمات الدّولية..ينبّه لحبابي الإنتلجونسيا ورجال السياسة في العالم الثالث بأن لا يكون دورهم هو التملّق واستعطاف الغربيين وإثارة مشاعرهم نحو بؤس العالم الثالث، بل تكمن مهمتهم في إقناع الغرب عن العدول عن كبريائه وجهله بالآخر..مساعدة الغرب على أن ينشئ علاقة جديدة مع أفعاله وأوضاعه..علينا في العالم الثالث ان ندرك بأنّ لا شيء سينجينا من دون فلسفة غدية.. القوة والآلة والقانون كلها في خدمة الأثرياء وعوامل تساعدهم على السيطرة.. المساوات في العلاقات والوسائل تساهم في تجويع نصف البشرية بضمير مرتاح – يقول لحبابي – بناء على حرية المزاحمة التي يضمنها القانون الدولي..ويقول بأننا نحن العالم الثالث والغرب معا نساهم في سوء تدبير طرح الإشكالات..هم لا يحسنون طرحها ونحن لا نطرحها أصلا فالغباء هو إذن ” أحسن شيء قسم بالتساوي بين الغرب والعالم الثالث”..غير أن الحبابي يرى أنه على الرغم من كل ذلك هناك أمل..فالتاريخ في نظره قفر مزروع باللامتوقّع..إن الغرب في نظر لحبابي لا يقدم سوى نموذج حضارة تغري الثالثيين ومن واجب الثالثيين أن يرفضوها للأسباب نفسها، تلك الأسباب التي تدفع الإنتلجنسيا الغربية إلى رفضها..والحل؟ “لنبحث إذن عن شيء لم يُرفض، شيء إنساني متأصّل”..تضعنا آراء لحبابي أمام نقد الغرب، ولكن وفق غايات نبيهة لا على أساس العدمية أو الوعي الشّقي..فتشابه المطالب تنتهي مع اختلاف الغايات..لم يمت الأمل في ضمير الثالثيين وإن اختلفت السياقات..
تبقى صرخة لحبابي ضربا من الاحتجاج والتحدّي بالقول الفلسفي..بالسّؤال، فالرّفض المسبق لكل الفلسفات ولكن بالقبول بها كلها..نظرة انتقائية هارج الرقابة الإبستيمولوجية المتينة تختفي خلف التمردية الوجودانية..نستطيع أن نرسم أملا للعالم الثالث وفق فلسفات التمرد الغربية نفسها فهي تساعد الغرب على تغيير نظرته للآخر..هي صرخة وكفى كما هناك أكثر من صرخة مشروعة برسم الضدّ-إمبريالية لكنها تفتح أفقا لتأمّل تفاصيل الانزياحات الفلسفية، فللضمير الفلسفي أيضا الحقّ في العدالة..ونرى بدورنا أنّ الإمبريالية تستطيع أن توظّف حتى أولئك الذين رفضوا الغرب مثل داعش، لإضفاء المزيد من الجاذبية على نموذجها الرأسمالي..إنّه نقد يؤسس للإنسان الجديد يطرح الحلّ جذريا لعالم غد من موقع الرفض الذي تقوده إنتلجونسيا غربية.. عالم تصنعه بيداغوجيا عالم الغد وليس خطط التشييئ المستدام للإنسان..الأمل الفلسفي هنا يقتضي شجاعة فائقة من أجل الوجود والمعرفة تنجز ثورة الإنسان العالمي من ذاك الهامش الذي يحمل الكثير من الأمل…..يتبع