ادريس هاني
في لحظة حرجة من التّاريخ تخرج الإمبريالية عن القوانين التي سنّتها حينما تنشأ من داخل هذا الوضع مقاومات قانونية تحاصر السياسة الإمبريالية انطلاقا من ذات القوانين..ونحن في ذروة الإمبريالية نعيش لحظة تحلّل الإمبريالية من كل عهودها والتزاماتها وستزيد من سياسة الاستهتار بالقانون الدولي كمقدمة للإجهاز عليه..إن كنت ترى في ترامب رجلا غير سويّ ومستفزّ ويظهر الكثير من اللاّمسؤولية تجاه القانون الدولي فذلك هو المطلوب لدى السيناريست والمخرج: الرجل الأحمق في المكان المناسب والسياق المناسب..نحتاج إلى مزيد من الحماقة وحدها التي تساعدنا على أقصى الازدراء بالقانون..إن نشأة الدولة يبدأ من تنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم ، وهو الأمر الذي سينشأ عنه النظام الدولي المعاصر والأمم المتحدة التي أعلن أمينها العام عن عجزها..دول تتنازل عن جزء من قوتها لكي يسود الاستقرار والنظام في العلاقات الدولية، لكن كل هذا لم يحصل، فالإمبريالية لا تؤمن بالتنازل عن جزء من حقها – بالمعنى الطبيعي الذي يذهب إليه هوبز – لصالح النظام الدولي..في موضوع الإمبريالية وجب ربط الوظيفة الداخلية بالوظيفة الخارجية للدول..اليوم وكما ذكرنا أصبح الفرد والمواطن في مواجهة استحقاقات سياسية إقليمية ودولية..تفرض دولة إمبريالية عقوبات على دولة نامية..تحاصر الشّعب، تُجوّع المجتمعات، تخلق احتقانات لتقويض السيادة..تخشى الدولة الوطنية الثالثية على سيادتها الإقليمية فتتنازل عن سيادة شعبها، وتتنازل أخرى عن سيادتها الإقليمية تنفيسا عن الشّعب، منهجان يطبعان وضعية الدول النّامية، غير أنّ دولة التّبعية تخسر في نهاية المطاف ما كانت تخشاه..اليوم لا نتحدّث عن سيادة الشعب كما فعل جان بودان في الكتب الستة للجمهورية نهاية القرن السادس عشر، بل اليوم ترتبط السيادة بجملة شروط وتحدّيات تتحكّم فيها العلاقات الدولية..وبات التشبث بالسيادة بمفهومها التقليدي شكلا من أشكال إعلان الحرب في نظر الإمبريالية وحساباتها..تدرك الإمبريالية أن العالم يتغيّر وبأنّ هناك عودة لممارسة السيادة..فالسيادة لا زالت تشكل عقبة أمام النزعة الإمبريالية وسياساتها..والحلّ هو العمل على فرض الهشاشة على الدّول لا سيما تلك الدول الواعدة والتي تملك مشروعا لدعم سيادتها..سوف تتعلل الإمبريالية بعناوين أخرى تخفي الأسباب الحقيقية للعدوان، لأنّ الدولة التي تمارس سيادتها ستصبح في تقدير الإمبريالية دولة مارقة..تدفع الإمبريالية من خلال سياساتها هذه الدولة نحو الهشاشة وبالتالي نحو نموذج الدولة الفاشلة..وتصبح الدولة الفاشلة عنوانا يمنح الإمبريالية الحق في التدخل تحت ذرائع شتى منها الحق في حماية المصالح القومية..أمّا كيف تصبح الدول فاشلة فذلك من خلال تدهور أوضاعها السياسية والتنموية والقضائية والاجتماعية، وكلها من إفرازات الضغط والإرغام: التبعية أو الفشل..إحدى أهم مظاهر السيادة هي السيادة على الإقليم..وتلعب الإمبريالية دورا خطيرا في عمليات التجزئة وجعل الحدود رخوة تمهيدا لنزاعات تقود نحو الهشاشة وتقود الدولة إلى حالة الفشل..التجزئة وتفجير الأقاليم والحدود والتلويج بالتقسيم أدوات إمبريالية تقليدية في ضوئها تقرر سايكس- بيكو..
ستكون الدّولة الوطنية مستهدفة..ولكي يتمّ ذلك فلا بدّ من إدخال مزيد من الإلتباس على مفهومها وصولا إلى مفهوم السيادة..فالدولة التي نتحدث عنها في ذروة الإمبريالية هي دولة من دون سيادة..شبه دولة تقتصر على إدارة فضاء الوظيفة العمومية كما لو أنها حكومة تصريف أعمال..كان بيير بورديو في دروسه في الكوليج دي فرانس عن الدولة شديد الاحتياط حتى في التعريف ، فهي تشكل بالفعل فضاء للوظيفة العمومية أو بتعريفه الآخر لها باعتبارها حقل السّلطة..وقد أضاف بيير بورديو على تعريف ماكس ويبر للدولة قيدا جديدا هو من أهم مفاتيح التطور الجديد لمفهوم السلطة: أي السلطة الرمزية..فالاحتكار المشروع للسلطتين المادّية والرمزية يبرّر هنا حسب بورديو بأنّ السلطة المادية نفسها لا يمكن حيازتها من دون السلطة الرمزية..ويبقى منشأ الاحتياط هنا أيضا له ما يبرره حيث وجب التحرر من المسبقات في معالجة مفهوم الدولة حسب بورديو وذلك تفاديّا للكثير من الأفكار والبنيات التصورية التي هي في نهاية المطاف من إنتاج الدولة نفسها..وهذا أمر أساسي في نظري لأنّنا لا زلنا نقارب مفهوم الدولة والسيادة من محصول الأفكار التي تنتجها الدولة الإمبريالية أو دولة التبعية ثم نسمي ذلك علوما سياسية..لم يعد هناك أيضا في نظري ما تختصّ به الدولة الثالثية لأنّ الحقل المادي والرمزي مستهدف إمبرياليا ومنه تتكرس الهيمنة السياسية..فالسيادة تبدأ في نظري من هنا، مما سمّاه بوديو بالرأسمالين: المادي والرمزي..وما تفعله الإمبريالية هو مصادرة هذين الرأسمالين، بمعنى آخر إنها تنتهك السيادة من خلال وضع اليد على تدبير الثروة ومحاربة أي تشكل لرأسمال رمزي ينتهي بالتحرر..سنتناول ذلك الجانب من السيطرة الإمبريالية على الرأسمال الرمزي بأساليب دقيقة ومن هنا الدور الخطير للمثقّف..إنّ الحديث عن مشروع الدولة – الأمّة لم يعد قائما حتى في مجال الممارسة الداخلية للدولة الثالثية..بالنسبة لببير بورديو يرى من التسرع أن يقول القانونيون أنهم صنعوا الدولة – الأمة، بينما الحقيقة أنهم صنعوا الدولة التي ستصنع فيما بعد الأمّة..مثل هذا الذي أشار إليه بورديو تماما يحدث في النظام الدولي، هناك نظام دولي أعاد تشكيل الدّول نفسها..دول بلا سيادة..وقد يبدو أننا في التعريفات الجديدة للسيادة نقع في تكلّفات جديدة هدفها إخفاء انتهاك السيادة تحت عناوين التبعية المتبادلة أو الاحتواء المتبادل وما شابه..والحقيقة أن الدول في إطار السيادة المشروعة ستكون في حالة تبادل مصالح، وفي مثل هذه الحالة نتحدث عن علاقات دولية ومصالح متبادلة لا علاقة لها بالسيادة مطلقا..الأمر المنطقي هنا هو ما ذهب إليه برتران بادي من أن فكرة الأمبراطورية تستدعي التّبعية، وبأن الأمبراطورية ترفض فكرة سيادة الآخر..إننا بدورنا نتساءل: أي مصير للسيادة إذا كان مفهوم الأمبراطورية لا يزال قائما في ممارسة الدولة الإمبريالية؟!
نقرأ في خطاب ترامب السابق الذكر أوامر ذات طابع أمبراطوري يتعلق بإرغام دول تعتبر في نظره مارقة بحيث وجب أن تغير سياستها..أي أن لا تنهج سياسة مستقلة أو سيكون البديل هو العقوبة أو الحرب..
الإمبريالية ترفض السيادة، ترفض الحدود الآمنة، ترفض الوحدة الترابية..وليس أمام الدولة الوطنية الثالثية سوى ما أسمّيه بسياسة السير في الرمال المتحركة، أي أن تقايض جزء من سيادتها مقابل حماية الجزء الآخر..يعني أنّ الدولة الوطنية الثالثية في سياق التّبعية تناور بأجزاء من سيادتها وتأكل نفسها بنفسها وفي النّهاية ستجد نفسها أمام مصير مجهول..تخترق الإمبريالية الدولة الوطنية..تجعلها أقلّ شعبية..أي تسلبها السيادة الشعبية..شعب بلا سلطة..سلطة بلا شعب..سلطة تستقوي بالإمبريالية ضدّ شعبها..منظمات مدنية تستقوي بالإمبريالية ضدذ دولتها..في النهاية نحن في العالم الثالث أمام حقل سلطة مفكّكة..وضعية الدولة الفاشلة المقنّعة حيث سحب كل عوامل المقاومة..هناك دولة واحدة ذات سيادة ، هي الأمبراطورية.. كم سيكون الوضع مدعاة للتندر والأسف حين يتحدّث خبراء دول التبعية عن الاستقلال والسيادة والدولة-الأمة…
ادريس هاني: